تقاطعت فى أيام عيد الفطر هذا العام فى مصر عدة ظواهر دينية وسياسية وفنية واجتماعية عند نقطة محددة وهى ظاهرة “التحرش الجنسى”، ونحى هذا التقاطع، مؤقتا، إمكانية البحث المستفيض فى أسباب تفاقم تلك الظاهرة فى السنوات القليلة الماضية، ذلك أن الجميع اندفع إلى اعتبار أن تلك الظاهرة أشبه بالحريق الذى يستعر دوريا، وأن واجب التصدى له سابق على أى بحث عن أسبابه.

هكذا أضحى الكثير من المهتمين بتلك الظاهرة يتذكرونها دوريا، مع حلول ثلاثة أعياد: الفطرـ الأضحى، شم النسيم، وتنصب “أدوات الإطفاء” على بقع محددة فى وسط القاهرة.

تقاطعت فى أيام عيد الفطر هذا العام فى مصر عدة ظواهر دينية وسياسية وفنية واجتماعية عند نقطة محددة وهى ظاهرة “التحرش الجنسى”، ونحى هذا التقاطع، مؤقتا، إمكانية البحث المستفيض فى أسباب تفاقم تلك الظاهرة فى السنوات القليلة الماضية، ذلك أن الجميع اندفع إلى اعتبار أن تلك الظاهرة أشبه بالحريق الذى يستعر دوريا، وأن واجب التصدى له سابق على أى بحث عن أسبابه.

هكذا أضحى الكثير من المهتمين بتلك الظاهرة يتذكرونها دوريا، مع حلول ثلاثة أعياد: الفطرـ الأضحى، شم النسيم، وتنصب “أدوات الإطفاء” على بقع محددة فى وسط القاهرة.

وشهد هذا العام جديدا، ذلك أن السلطة بالغت فى ضجيجها الإعلامى ما أبرز ذلك التقاطع اللافت، واستوجب إعادة ترتيب وتركيب لعناصرها انطلاقا من ما يبدو خافيا منها.  

العيد

كتب السير والأحاديث تكرر أن “النَّبيُّ قَدِمَ المدينةَ ولَهُمْ يومَانِ يلعبُونَ فيهِمَا، فقال: “قدْ أبدلَكم اللهُ تعالَى بِهِمَا خيرًا مِنْهُمَا يومَ الفطرِ ويومَ الأَضْحَى”، وتذكر حديث عائشة في شأن الجاريتين اللتين كانتا تغنيان وتضربان بالدف في يوم العيد، وقول النبى لأبي بكر: يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا”، مستنتجة قواعدا خاصة بالعيد، منها: أن إظهار السرور وتأكيده في الأعياد؛ بالغناء والضرب بالدف واللعب واللهو المباح؛ شعيرة من شعائر الدين. وإلزامية أن يشارك المسلمون جميعاً في حضور صلاة العيد حتى ولو لم يؤد البعض الصلاة لعذر شرعي. وأخيرا: أن يذهب- المسلم-  إلى صلاة العيد من طريق، ويعود إلى بيته من طريق آخر؛ لتكثر الخطوات، ويكثر من يشاهده؛ “كان النبي إذا كان يوم عيد خالف الطريق”.

الحربة!

العيد، إذا، فى جانب هام منه احتفال استعراضى، وهو بالنسبة للسلطة استعراض رمزى لمركز القوة التى ترتكز إليه، هكذا يمكن النظر إلى بنية الاحتفال الطقسى بالعيد. وهى بنية عميقة ومخفية بمهارة، قد نجد جذرها فى صحيح البخاري “كتاب العيدين” باب “الصَّلاَةِ إِلَى الْحَرْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ”، حيث يذكر البخارى: “أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ تُرْكَزُ الْحَرْبَةُ قُدَّامَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ- الأضحى- ثُمَّ يُصَلِّي‏”.‏

أين “الحربة” فى طقوسية احتفال السلطة بالعيد الآن؟.

هل يقدم لنا سرد لأماكن أداء رأس الدولة المصرية لصلاة العيد خلال السنوات الست الماضية جوابا ما؟.

فلنرى، كان الرئيس حسنى مبارك يحاول فى السنتين الأخيرتين من حكمه أن يتخلص من “إلزامية” الصلاة مع الجنود، لكننا لو راجعنا عقوده الثلاثة فى السلطة لخلصنا إلى أن الصلاة بين رجال الجيش هى القاعدة، المشير حسين طنطاوى- العسكرى- كان طبيعيا أن يؤدى الصلاة فى مساجد الجيش، كذلك فعل الرئيس المؤقت عدلى منصور، وهو إلتزام عبدالفتاح السيسى حتى الآن، الاستثناء الوحيد كان الرئيس محمد مرسى، فهو صلى العيدين فى مسجدين “مدنيين”: الفطر فى “عمر بن العاص”، والأضحى فى “مسجد الرحمن الرحيم” بمدينة نصر.

دلالة “الحربة المرتكزة فى محراب صلاة العيد” تجد تعبيرها المعاصرة فى صلاة العيد بين الجنود، حيث مركز السلطة فى مصر منذ سبعة عقود.

الصور وحدها صادقة

تشعر السلطة بالحرج لأن بعض الظواهر الاجتماعية، التى تبدو صارخة، تنال من صورتها التى تريد أن تسوقها لجمهورها، وهى لا تملك وسائل لعلاجها، وتدرك تماما أنها سبب رئيسى فى تفاقمها، فتقفز فوق كل هذا وتصنع ضجيجا إعلاميا يحاول تسويق صورة مغايرة عن تلك الظواهر، وعن دورها فى التصدى لها، طاردا أى دور أهلى تراه مربكا ومنافسا مزاحما لهيمنتها.

التحرش الجنسى أحد هذه الظواهر، والسلطة تحاول أن تسوق، منذ عامين، أن إجراءاتها لمواجهته بدأت تحقق إنجازات هامة، لذلك كانت حملة “الشرطة النسائية تواجه التحرش فى عيد الفطر”- التى بدأت خجولة العام الماضى-، كثيفة إعلاميا هذا العام.

تدرك السلطة جيدا أنها “تخادع” جمهورها؛ فعدد الشرطيات- خاصة الضابات منهن- متواضعا، لم يتجاوز بضع مئات، وهن غير مدربات على مواجهة وقائع اجتماعية فى الشارع، وجودهن منذ بدأ قبل أربعة عقود كان مظهريا “للتشريفة والصورة”، وكان منذ البداية يحمل دلالة “التأخر” عن العالم عشرات العقود فى هذا المجال.

وهى- السلطة- لا تخجل من الخداع وتسويق صورا زائفة، لكن المفارقة أن الصور بمفردها دليلا كافيا، وصارخا، على العجز والتناقضات البنيوية المدمرة.

فى العام الماضى، وعقب ظهورها فى عدة مقاطع مصورة وهى تمارس مهام دورها الشرطى فى مكافحة التحرش فى وسط القاهرة فى أيام عيد الفطر، ظهرت العقيد نشوى محمود فى برنامج تلفزيونى (معكم منى الشاذلى) بزيها الرسمى وبكامل زينتها و”مصاغها”، وكان أول ما قامت به هو استعراض كيفية استخدام أدوات العنف التى بحوزتها- العصى والصاعق الكهربائى- فى مقاطع عرضت ضمن البرنامج نرى العقيد وهى تسير وبرفقتها كوكبة من عناصر الأمن -رجال ونساء- فى عرض الشارع، يعطلون المرور ويزيدونه زحاما، فى مقاطع آخر نرى العقيد وهى تفرق بين الرجال والنساء، صارخة “الاختلاط ممنوع، الرجل يمر من هنا وزوجته تمر من طريق آخر، وتكرر الاختلاط ممنوع”، فى مقطع آخر تضرب العقيد شبابا صغيرا بالعصى وتفرق جمعا وتبعد لأمتار بين طوابير الرجال وطوابير النساء.

هذا العام تكررت مقاطع العقيد نشوى بفجاجة أعلى وصراخ أشد، واستعراض مبتذل فى تفاصيله.

وزادت السلطة تسويق منتج جديد: “الشرطة النسائية فى مارينا لأول مرة”.

فى مارينا- واحد من أشهر شواطئ الأثرياء- تقوم الشرطيات، بتوزيع الحلوى على المصطافين، فى خلفية الصور يظهر بضعة جنود- هؤلاء يمضون ثلاث سنوات كتجنيد إجبارى يتم توزيعهم على وزارة الداخلية لسد احتياجاتها- ملامحهم تنطق بشعور غريب، مزيج من الانسحاق، والشعور بالغربة، والانخطاف، والحرمان الحسى المطلق.

صور “استعراض” مارينا مذهلة اجتماعيا وإنسانيا. خداع السلطة لا يمر أبدا عبر عدسة كاميرا تريد لها السلطة أن تكون زائفة، لكنها تنطق بكل فشلها.

تحجيم المبادرات الأهلية

لعبت المبادرات والجمعيات الأهلية دورا فعالا لمواجهة ظاهرة “التحرش الجنسى” فى الأعياد فى الفترة من عام 2012 حتى العام الماضى، لكنها مُنعت بغلظة أمنية واضحة من النزول للشارع فى عيد الفطر هذا العام، وأكدت هالة مصطفى، منسق مبادرة “شفت تحرش”، فى تصريحات إعلامية، أن المبادرة قدمت طلبا رسميا للوزارة للتنسيق معها فى متابعة حالات التحرش فى الشوارع، ولكنها لم تتلق ردا.

كما أشارت انتصار السعيد، المحامية بمركز القاهرة للتنمية وحقوق الإنسان، إلى أن مبادرات مناهضة التحرش الجنسى، تعانى بسبب التضييق الأمنى.

وحتى الهيئة شبه الحكومية المجلس القومى للمرأة- أكتفى بالملاحظة ومرافقة “قوات مكافحة العنف ضد المرأة” فى زيارة ميدانية- واحدة- أمام بعض دور السينما، وأكدت غرفة العمليات التى خصصها “عدم استقبال أى شكاوى تحرش جنسى من خلال الأرقام المخصصة لغرفة العمليات فى المكتب الرئيسى بمحافظة القاهرة”.

السينما والانضباط

وكانت تقارير المبادرات والجمعيات الأهلية قد لاحظت أن دور العرض السينمائية هى “أكثر الأماكن جذبا لـ”المتحرشين”، وأمامها أو فى الطريق إليها تحدث النسبة الكبرى من حالات التحرش”، وأشارت قلة منها إلى ملاحظات “أخلاقية” على نوعيات الأفلام المعروضة، واعتبرتها سببا فى جعل دور العرض “مغناطيسا” للتحرش والمتحرشين”. وفى ضوء ذلك تعالت العام الماضى مع الظهور الأول لـ “الشرطة النسائية” الدعوات لتشديد الحضور الأمنى أمام دور السينما كى لا تكف العائلات عن الذهاب للسينما.

ويبدو أن ظروفا مختلفة تجمعت ليظهر المشهد وكأن الحضور الأمنى فعالا على الصعيد السينمائى، فقد تكرر هذا العنوان: “الاستقرار الأمنى والسياسى ينعش إيرادات السينما” فى أكثر من تقرير خبرى، وأستند بعضها إلى عنوان مقال أخير للناقد سمير فريد “2016 أسعد سنوات السينما المصرية منذ مطلع القرن الجديد”.

فى التفاصيل يتبين أنه تم عرض 6 أفلام جديدة فى بداية “موسم” العيد، حققت- بحسب تقديرات أولية لعدد من الصحف- إيرادات قياسية لم تحدث من قبل، بلغت فى مجموعها نحو 35 مليون جنيه، وبذلك تكون إيرادات الأيام الثلاثة الأولى لـ”الموسم” قد زادت بنسبة 25% عن العام الماضى.

هنا تلتقى عوالم ثلاثة: السينما، التحرش، الشرطة النسائية، وهى وجدت تعبيرها المباشر فى أحد أفلام العيد: “أبو شنب”، حيث يقدم الثلاثى: المؤلف، خالد جلال، والمخرج سامح عبدالعزيز، والفنانة ياسمين عبدالعزيز، لجمهورهم تلك “الخلطة” التقليدية القديمة: قفشات ومواقف مفتعلة، وقليل من الإثارة والمواعظ الأخلاقية والوطنية من خلال ضابطة شرطة (عصمت أبو شنب) تتعرض لتحرش جنسي، وتصمم من بعدها على مقاومة بالعمل فى “الشرطة النسائية” التى تقاوم التحرش فى موسم الأعياد أمام دور العرض السينمائى.

لا دولة على الشاطئ

بعد نحو إسبوع من الضجيج الإعلامى المكثف للترويج لـ” الشرطة النسائية” فى وسط القاهرة نشر الكاتب جميل مطر مقالا فى جريدة “الشروق” بعنوان” تحرش أم غلاسة” سرد فيه بأسلوب جذاب واقعة شهدها بنفسه فى شاطئ هادئ كاشفا عن أن “التحرش” عابر للطبقات الاجتماعية، لكنه فى قمتها يكون سلسا ينتهى بتبريرات واعتذارات لطيفة ومهذبة.

وإذ يسرد مطر تفاصيل ما شاهده وسمعه يصل بنا إلى استنتاجات هامة، جانبها الأعظم يقدمه رجل الأمن الذى نجح فى إنهاء واقعة “التحرش” التى أضحت مجرد “غلاسة” قبل طرفا الواقعة أن تغلق وديا بإعتذارات رقيقة.

رجل الأمن- الوسيم إلى حد كاف كما يصفه مطر- كشف عن معرفة عميقة بأحوال الصيف وشئونه: “لا صيف بدون تحرش،…، الصيف يمكن أن يكون ثقيل الظل وعظيم الملل وشديد السخف لو لم نسمح بأن تتخلله أعمال غزل عفيف،…،كل الناس، فى واقع خبرتى، تتحرش وليس بالضرورة جنسيا”.

ثم قدم المعلومة الأهم: “الأمن يا سيدى فى أيدى البدو، إنه شرط تعاقدى. سلطة الدولة تقف عند الحدود الخارجية للقرية، وربما وقفت عند حدود النطرون. الأمن هنا وعلى طول الساحل تتولاه القبائل كما تتولى خدمات أخرى. وظيفتنا أن نمثل دور الأمن ولكن لا نمارسه. هل يمكن لحضرتك أن تتخيل ماذا يمكن أن يحدث لو وقعت هاتان المرأتان ضحايا التحرش والشابان المتهمان به فى أيدى قوى الأمن الحقيقية، أى فى أيدى البدو وخضعوا الأربعة لحكم الأعراف غير المكتوبة”.

ثم يختم مطر مقاله مستخلصا “الإنطباعات والأحكام الشاطئية”: قررت أن أمد إقامتى فى القرية يومين إضافيين لمزيد من البحث عن “الدولة”. لم أجد دليلا يؤكد وجودها. رحت أسأل فى القرى المجاورة فلم أجد أحدا وقعت عينه عليها، سألت الأصدقاء فى القرى البعيدة جدا المنتشرة لمسافة مئات الكيلومترات.. تلقيت الإجابة ذاتها، شىء من الدولة موجود بالطلب أو بالصدفة على الطرق الرئيسية. أخيرا صدقت الذى قال إنها فى بعض المواقع والخدمات ليست أكثر من شبه دولة”.