وسط السباق المحموم على نشر أكبر قدر من الأخبار في المواقع الإلكترونية، تصبح مهمة رئيس قسم المحافظات هو متابعة المواقع المنافسة للبحث عن الأخبار التي سقطت من المراسل.

وسط السباق المحموم على نشر أكبر قدر من الأخبار في المواقع الإلكترونية، تصبح مهمة رئيس قسم المحافظات هو متابعة المواقع المنافسة للبحث عن الأخبار التي سقطت من المراسل.

ومهما كانت درجة تفاهة الأخبار فرئيس القسم يعتبر عدم إرسالها تقصيرًا من المراسل وفي أحيان أخرى دليل على خلل في مهنيته وضعف تواصله بالمصادر، ولأن إدارات الصحف في القاهرة لا تبحث عميقًا عن أزمات المراسلين لحل مشكلة تدفق الأخبار، بالإضافة إلى سيادة نمط الكم الخبري والتقييم بكشف الإنتاج حسب عدد الأخبار المنشورة، فإنها تلقى بالتهمة كاملة على المراسل، ولهذا قرر المراسلون مواجهة الإدارة في القاهرة بـطريقة ” الجمعية” .

و” الجمعية ” مصطلح أطلقوه على التنسيق بينهم في تمرير الأخبار لبعضهم البعض وأحيانًا المتابعات الإخبارية في الأحداث الكبرى، لمواجهة تعنت إدارات الصحف وتعنيفهم على عدم إرسال الأخبار أو التأخر في إرسالها، و”الجمعية” هي شكل من أشكال توزيع الأدوار على مراسلي كل محافظة بحيث تنتظم عميلة تدفق إرسال الأخبار في جميع الصحف بصيغة واحدة تقريبًا وتوقيت واحد في معظم الصحف، فتمنع وقوع اللوم على المراسلين بضبط توقيتات الإرسال في جميع المواقع بدون معلومات مختلفة.

تعلمنا أن شهود العيان على الحادث تختلف تفاصيل روايتهم لأنها منظور شخصي، فكل شاهد له زاويته التي يؤثر فيها موقعه من الحادث، كذلك المحرر لابد أن له انحيازًا أو رؤية أو ملحوظة مختلفة عن محرر آخر ينقل نفس الخبر، لكن هذا لا يحدث في 90 % من أخبار المحافظات.

في أغلب المواقع الإلكترونية ستلاحظ أن صيغة الأخبار متطابقة إلى حد كبير بنفس ترتيب الفقرات، ولو هناك خطأ في خبر منشور على موقع إلكتروني في اسم قرية أو مصدر أو حتى معلومة غير منطقية ستجد نفس الخطأ بمعظم المواقع المنافسة، وهنا لا أتحدث عن المواقع التي تنسخ الأخبار ولكن عن مواقع لها مراسلون فعلا يرسلون الأخبار من الإيميل أو على “سيستم” الجريدة، حتى يمكنك أن تلاحظ تطابق علامات التنصيص والتعجب وفي أحيان أخرى ستجد تطابقًا في عنوان الخبر الذي يعبر عن شخصية الجريدة.

الأزمة

مع انتشار المواقع الإلكترونية الإخبارية قبل سنوات أصبح العمل الصحفي في مصر 24 ساعة يوميًا، وسيطرت أزمة تحديث الموقع لحظيا على إدارات المواقع الإخبارية، ما شكل ضغطًا على الصحفيين بشكل عام في مصر، وكان هذا الضغط لم يكن أزمة كبيرة على المحررين بالقاهرة لأنهم يعملون في أي وقت باعتبار أن الصحافة كمهن أخرى مثل الطب والشرطة ليس لها مواعيد دوام ثابتة، إلا أن الصحفي في القاهرة يتعامل مع مصدر واحد له مواعيد دوام وفي حالات استثنائية يعمل هذا المصدر أوقات إضافية.

في المحافظات الأمر مختلف تمامًا، فالمراسل مسئول عن مساحة أرض هي حدود محافظته، وعليه متابعة جميع المصادر في نطاق المكان الذي يعمل به، وفي القاهرة تقسم المصادر حسب التخصص في الحيز المكاني أيضًا، فقسم الحوادث به عدة محررين أحدهم مسئول عن جزء من محاكم العاصمة وآخر مسئول عن مديرية الأمن، وثالث مسئول عن النيابات، ورغم ضعف الراتب الذي يحصل عليه المراسل مقارنة بزميله في القاهرة فهو مسئول عن جميع الحوادث بالإضافة إلى المصادر الأخرى، وأيضًا عليه أن يتحرك نحو الحدث الذي يمكن أن يبتعد عن منزله أو عاصمة المحافظة عشرات الكليومترات ويستغرق للوصول إليه عدة ساعات ليحصل على صور حية ويتحدث مع المصادر خاصة الأهالي والمصابين ثم يرسل المادة التي يحررها غالبًا في وسيلة المواصلات إلى موقعه الإلكتروني، وخلال الساعات التي يقضيها للحصول على المادة الصحفية والصور يصبح خارج التغطية الخبرية ولا يستطيع إرسال أخبار أخرى، وهو ما يعوق تنفيذ سياسة التحديث اللحظي للموقع، وحتى بعد حصوله على المادة المطلوبة لا تحظى بأهمية النشر بعد عدة ساعات من الحدث.

والمراسل الذي يعمل باعتباره رئيس تحرير جريدته في المحافظة يعمل بلا مقر لأسباب مادية وإدارية خاصة بالصحف، وبخلاف الصحف القومية لا يوجد مقرات عمل للمراسلين في المحافظات إلا في الإسكندرية أو الدقهلية، وغالبًا لا تعتمد الصحف إلا على مراسل وحيد للمحافظة ما يمثل ضغط عمل لحظي لا يتوقف يوميًا حتى في الإجازات الرسمية لجميع المصادر.

كل هذه الأزمات تركت بلا حل من إدارات المواقع الإخبارية فكانت “الجمعية” هي الحل الذي أثر بشكل كبير على مستوى مهنية المواقع، ومنعت التنوع والانفراد بالخبر، وأثرت على المحتوى الخبري بداية من القيمة المضافة للبيانات الإعلامية وخلفيات الخبر والتعليق عليها من المصادر المرتبطة بها، وأصبحت الأخبار نسخة واحدة من بيانات الأجهزة الحكومية والهيئات والجامعات تمر بلا تمحيص سواء من المراسل أو من إدارة التحرير.

الحل

وتعالج “الجمعية” أزمات معظم المراسلين التي غالبا لا تواجهها إدارات الصحف، فمن ناحية تنظم الجمعية أوقات الراحة للمراسلين وتسمح بتدفق الأخبار للجريدة التي يتعرض مراسلها لظروف قاهرة تمنعه من العمل بسبب المرض أو الظروف الإنسانية، كما أنها تختصر المسافات بين المراكز والمدن، كما أن وجودها يضمن عدم إرسال خبر لمراسل دون آخر وبالتالي ينتهي تعنت إدارة التحرير بالقاهرة ضد المراسلين.

في إحدى محافظات الدلتا تعمل الجمعية بمرونة شديدة مع ظروف عمل المراسلين وطبيعة أماكن سكنهم، واستغلوا “الجروبات” المغلقة على “فيسبوك “و”الواتس آب” للتواصل بينهم وتوزيع مهام العمل بروح تعاون مدفوع بمواجهة الضغط والتعنت القادم عبر الهاتف من العاصمة، ضمنيا يقع عبء التحرك نحو الحادث للمراسل القريب من الحدث وتكون مهمته التواصل مع الأهالي والتقاط الصور وكتابة مسودة وإرسالهم على الجروب الخاص بهم فيما يتولى زميل آخر يتميز بالقدرة على الكتابة بدون أخطاء على تحرير المعلومات وإرسال الخبر النهائي إلى الجروب وكل مراسل يرسله إلى جريدته، تنسيق آخر يتم عبر علاقة كل مراسل بالمصادر، فالزميل الذي له علاقات قوية بمديرية الأمن يوزع اليبانات الإعلامية ويتواصل مع المصادر للحصول على التصريحات الخاصة، وفي حالات الظروف الطارئة لأحد المراسلين يسلم حساباته لزميله ليتولى عملية الإرسال لجريدته بالكامل، ولكنها تفعل الأهم لكل المراسلين في تمنحهم إجازة أسبوعيًا يوم على الأقل بالتناوب بينهم.

في جميع المحافظات تعمل طريقة “الجمعية” بمرونة شديدة فهي التزام بين المراسلين تتوافق مع ظروفهم وطبيعة مصادر وجغرافية المحافظة ذاتها، وفي حالات أخرى قليلة يرسل المحرر الخبر لجريدته أولا ثم يرسله لباقي المراسلين، كما يسمح المراسلين في محافظات أخرى بمساحة من الانفراد بتصريحات وبالطبع التحقيقات والتقارير الخاصة المطلوب تنفيذها من الإدارة بالقاهرة، لكن الصور لا خلاف عليها في متاحة للجميع حتى لو كانت خاصة، وستجد أكثر من جريدة تضع “لوجو” الجريدة على الصور وأحيانًا الفيديوهات ولن تعلم من مصورها الأول.

وانتشرت طريقة الجمعية أيضا بالعاصمة بعد شيوعها في المحافظات لكنها أقرب إلى التعاون بطبيعة التنافس بين المحررين في القاهرة وقرب المعلومات من إدارة التحرير، ففي المحافظات لن يلاحظ مدير التحرير أزمة انقطاع المياه في قرية نائية أو حتى حادث مروري يشل عاصمة محافظة، إلا أنه في العاصمة أحيانًا يتعرض لأزمات تجعله يتواصل مع المحرر المسئول عن المصدر لجمع المعلومات، ولكن طريقة الجمعية في المحافظات يمكنها أن تحجب حدث بالكامل عن الرأي العام باتفاق المراسلين مثل ما حدث في الفتنة الطائفية في حادث تعرية سيدة قبطية في المنيا شهر يونيو الماضي.

وطريقة الجمعية صنعت أزمة تشابه الأخبار وفقدان الرؤية، وخلقت نسخة تكاد تكون واحدة لرئيسية المواقع الإخبارية، كما أنها تفقد المحررين القدرة على تعلم اختيار زاوية الخبر وعنوانه ومقدمته، وهناك بعض المواقع التي تحاول الخروج من فخ التدفق الخبري والتحديث اللحظي بالحصول على محتوى خاص حتى ولو تأخر في النشر، ورغم أنها تحظى بمصداقية أعلى إلا أنها متأخرة في التصنيف بين الصحف.