يمكن تلخيص الأمر مقدما: لا جديد، فالخمر هو الخمر، والدن ذاته، الجديد مجرد وسيلة نقله والدعاية له. والحكاية، فى وقائعها الأخيرة، قصيرة للغاية، لكنها فى جذورها قديمة، تعود على الأقل لقرنين ماضيين، وهى فى مسارها تبدو وكأنها تنتقل من السيء إلى الأسوأ، فبعدما كان السؤال: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟، أضحى: كيف يدفع المسلمون عنهم تهمة أنهم يريدون تدمير العالم؟.
يمكن تلخيص الأمر مقدما: لا جديد، فالخمر هو الخمر، والدن ذاته، الجديد مجرد وسيلة نقله والدعاية له. والحكاية، فى وقائعها الأخيرة، قصيرة للغاية، لكنها فى جذورها قديمة، تعود على الأقل لقرنين ماضيين، وهى فى مسارها تبدو وكأنها تنتقل من السيء إلى الأسوأ، فبعدما كان السؤال: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟، أضحى: كيف يدفع المسلمون عنهم تهمة أنهم يريدون تدمير العالم؟.
فى نهاية عام 2014، وقبل أن يكمل ستة أشهر فى الحكم، أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسى دعوته لـ “ثورة دينية” فى الاحتفال بالمولد النبوى، وعاود الإلحاح على تلك الدعوة فى مناسبتين دينيتين آخريين، وقبل أن يتم العامين جاءته استجابة شيخ الأزهر بإعلان “استراتيجية الأزهر في الإصلاحِ والتَّجدِيد”، فإذا نجح الأزهر فى تحقيق ثورة السيسى الدينية فستكون هذه أسرع ثورة دينية فى التاريخ، وستكون أيضا أول ثورة دينية سلمية فى التاريخ.
دعوة السيسى بدت صادمة. فالحضور، وقتها، ظهرت عليهم بوضوح علامات الذهول من الكلمات التى ينطق بها، والأحكام التى يصدرها. فهو بدأ بالحكم على “عوام الناس” بعدم الصدق والإمانة والإخلاص، ثم وصم المصريين جميعا بأنهم يعانون من الانفلات السلوكى والأخلاقى والفوضى، وأرجع كل ذلك إلى مشكلة فى “الخطاب الدينى”. وإذ نفى أن يكون حديثه متعلقا بالعقيدة، أسرف فى وصف المسلمين و”الفكر الدينى” بأوصاف شائنة، متهما المسلمين بأنهم يقدسون، منذ مئات السنين، نصوصا وأفكارا “تدفع- الآن- الأمة (الإسلامية) بالكامل لأن تكون مصدرا للقلق والخطر والقتل والتدمير فى الدنيا كلها”، وتساءل: “هل يريد المسلمون تدمير العالم؟”، ثم أطلق دعوته: “نحن نحتاج ثورة دينية” لأن “الأمة تتمزق، الأمة تدمر نفسها بنفسها”، وحمل شيخ الأزهر المسئولية عن “تجديد الخطاب الدين”.
كان السيسى فى خطابه لـ”رجال الدين” وللمؤسسات “الدينية” وكأنه يريد صياغة علاقة مركبة أقرب إلى تلك التى كانت سائدة فى الإمبراطورية الرومانية حيث كانت “الديانة الرومانية الرسمية تعتبر فرعا من فروع الإدارة، مهمته تنظيم العلاقات بين مجموعة المواطنين والألهة الراعية”.
مهام قديمة غير منجزة
حدة كلمات السيسى بدت أيضا بعيدة عن واقع جديد فرضه الدستور المصرى المعدل فى يناير 2014، أصبح الأزهر بموجبه “هيئة إسلامية علمية مستقلة”، وشيخه “مستقل غير قابل للعزل”. الدستور، إذا، وضع مسافة دالة بين الدولة، والحكومة، والبرلمان وبين الأزهر.
كان الأزهر أقرب لتلك “العلاقة الرومانية” فى القانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التى يشملها”، ووفق تصورات الدولة “الناصرية” لوظيفة الأزهر “الجديدة”. المدهش أن ملابسات إقرار القانون كانت قريبة فى مفرداتها بالمفردات التى استخدمها السيسى، ففى مجلس الأمة وقبل طرح مشروع القانون للنقاش والتصويت، قال أنور السادات:” كانت فى 23 يوليو 1952 ثورة والذين حاولوا الوقوف أمامها ديسوا بالأقدام، واليوم ثورة جديدة وسيصاب الذين يقفون أمامها بنفس المصير.”.
القانون “الناصرى” سُوق على أنه “تطوير وتحديث للأزهر، وخدمة للإسلام” وفيه كان شيخ الأزهر “هو الإمام الأكبر وصاحب الرأى فى كل ما يتصل بالشئون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام”، لكنه، كما باقى القيادات فى مختلف هيئات الأزهر، يعينون بقرار من رئيس الجمهورية، كما كانوا يعينون من قبل بقرار من الملك. لذلك كان تململ السيسى من بطء الاستجابة لدعوته الغامضة، واستعجاله المستهين بما يطالب به، تشير إلى طبيعة العلاقة الجديدة المعقدة بين الدولة والأزهر.
المدهش، أيضا، أننا نقع فى قانون (1961)- النافذ حتى الآن- على الكثير من تلك الكلمات الغامضة التى لاكها السيسى، فمجمع البحوث الإسلامية، وهو أحد هيئات الأزهر، يعمل “على تجديد الثقافة الإسلامية وتجريدها من الفضول والشوائب وأثار التعصب السياسى والمذهبى، وتجليتها فى جوهرها الأصيل الخالص، وتوسيع نطاق العلم بها لكل مستوى وفى كل بيئة، وبيان الرأى فيما يجد من مشكلات مذهبية أو اجتماعية تتعلق بالعقيدة، وحمل تبعة الدعوة الى سبيل الله بالمحكمة والموعظة الحسنة”.
التجديد مطلب قديم للدولة، والأزهر كان مدعوا ليلعب دورا فى النظام السياسى المتشكل والذى يعمل على تعزيز مكانته ضمن منافسات داخلية وإقليمية ودولية، ودارت “ماكينة” الأزهر لنصف قرن فى خدمة الدولة أولا، وربما أخيرا.
لكن مطلب “التجديد” أصبح مع أحداث 11 سبتمبر 2001 مطلبا “عالميا” ملحا لدرء إتهام “الخطاب الدينى”- الإسلام بالمسئولية عن الإرهاب، وسريعا ما تعزز المطلب بقوة بمشروع “الشرق الأوسط الكبير” الذى أقلق الكثير من أنظمة الحكم فى الدول “الإسلامية”. ففى ربيع وصيف عام 2003 دارت، وبوتيرة متسارعة، ماكينة “التجديد” بكل طاقتها: البرلمانية والحكومية، وألوانها: الدينية والثقافية، ودارت ماكينة الأزهر ببطء لافت فاصدر شيخه – محمد سيد طنطاوى- كتيبا صغير كملحق لمجلة” الأزهر” حمل عنوان ” الخطاب الدينى وكيف يكون؟!”.
وها هى “الماكينة” مدعوة من السلطة مجددا لتدور لتواجه خطر جديد غامض بدوره، وتعزز مكانة النظام السياسى الجديد، وتسويق قدراته عبر العالم.
الإصلاحِ والتَّجدِيد!!
ديباجة شيخ الأزهر، أحمد الطيب، أظهرت وعي الأزهر لوضعيته الدستورية الجديدة، ووطأة وجوده الواقعى، فهو إذ يبدأ بالتنبيه على أن الاستراتيجية “ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب، وكان من المفروض أن تُعلن منذ زمن ليس بقصير”، وذلك في معرض تقديمه للاستراتيجية الجديدة في الثاني من شهر يونيو الحالي. يبدو وكأنه راغبا فى عدم ربطها بدعوة السيسى ومحتواها، متجاوزا حتى عن ذكرها، لكنه يوازن ذلك بتأكيده أن الأزهر يقــف بكل قـــوة إلى جــوار مصــر، ويُقدِّر ما يحدث الآن على أرض مصر من نهضات مشهودة، ومطــاردة الكيانات الإرهابية، ويدعو “الله” أن يُوفِّق السيسي، ولا ينسى أن يذكر رجال القوات المسلَّحة البواسل، ويشكر رجال الأمن الأوفياء.
وطأة الوجود الواقعى للأزهر، المتعزز بنصوص دستورية تتجلى فى إبراز الطيب أن من ضمن مؤسسة الأزهر”جامعة تضم إحدى وسبعين كلية يدرس بها ما يقرب من نصف مليون طالبٍ وطالبة، وعشرة آلاف معهد للتعليم قبل الجامعي يدرس بها ما يقرب من مليونين من الطلاب والطالبات”. وكأنه يقول ” إننا جسم هائل، ورقم معقد، والدولة فى حاجة لنا أكثر من حاجتنا لها”.
الاستراتيجية تبدو للنظرة الأولى وكأنها إبراء ذمة، أو كأنها استجابة ملولة على دعوات ملحة غير مفهومة، أو كأن بضعة أشحاص يريدون تسويق منتج عديم الجدوى. هكذا تبدو بما تتضمنه من: إنشاء صفحات للتواصل الاجتماعي، وبرامج تليفزيونية، ومقاطع فيديو، وتطوير لمركز إعلامي، ومرصد للفتوى الإلكترونية، وبوابة إلكترونية للمشيخة، وتطوير صحيفة، وإطلاق قناة فضائية “العام القادم”، وإصدار كتب لتصحيح المفاهيم المغلوطة والرد على الفكر المنحرف، وعقد لقاءات مُكثَّفة في الحدائق والمقاهي ومراكز الشباب، والاستعانة بـ “500” قيادة شابة لمواجهة خطاب التطرُّف والإرهاب، وتنقيح المناهج الدراسية لتُواكب تطورات العصر، وتطوير بعض المعاهد الدراسية، وتطوير منظمة أهلية “الرابطة العالميَّة لخرِّيجي الأزهر”، وأخيرا دراسة عقد مؤتمر عالمي للسلام بنهاية العام الجاري بمشاركة الفاتيكان ومجلس حكماء المسلمين.
ألا يبدو الأزهر وكأنه شركة إنتاج إعلامى صغيرة، أو جمعية أهلية تتلقى تمويلا محدودا؟، وألا تبدو الاستراتيجية وكأنها “ثورة دينية”.
الاستراتيجية بديباجتها وتوازات مقدمتها لا تتناسب إطلاقا مع اصرار قيادات الأزهر على التعامل معه باعتباره “المرجعيَّة الأولى للإسلام في العالم، وحامل لواء الدِّفاع عن الإسلام”، ووصفه للحظة الراهنة بأنها “الأخطر على الإطلاق فهي تُمثِّل طعنًا في الأسس السَّمحة التي يقوم عليها الإسلام، وتُنفِّر العالم منه، وتصوره كما لو كان الوجه الآخَر للإرهاب”.
الإدعاء والتصحيح
ضمن استراتيجية الأزهر كان لافتا ما نشره موقعه الرسمى، أخيرا، تحت عنوان ” يدَّعون ونُصحح” فقد عرض لثلاث دعاوى يمكن إعتبارها معالم رئيسية فى “الخطاب” السياسى لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. فى التصحيح يحذو الأزهر حذو الشيخ على عبدالرازق تماما، فتبدو كلمات الأزهر وكأنها صياغة ركيكة لجمل من كتاب الشيخ “الإسلام وأصول الحكم/ بحث فى الخلافة والحكومة فى الإسلام”، الصادر فى عام 1925. والمفارقة أن الأزهر فصل الشيخ عقابا له على ما تضمنه كتابه من أفكار- يرددها الآن باعتبارها هى “الإسلام الصحيح”- كان أبرزها تأكيده “أن الخلافة ليست أصلا من أصول الإسلام، وإنما هى مسألة دنيوية وسياسية أكثر منها دينية، وأن القرآن والسنة لم يوردا ما يبين- من قريب أو بعيد- كيفية تنصيب الخليفة أو تعيينه، لكن الأزهر يمتنع عن الخطو وراء الشيخ على فى اعتباره أن الخلافة “نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر فاسد”.
جهود الأزهر تشير إلى مفارقة “الزمن الدائرى” حيث يُعاد خوض نفس “المعارك” مع تغيير مواقع “المحاربين”، الخلافة، والصراع السياسى والتوق للزعامة والسيطرة الاستعمارية كانت محور المعركة القديمة، وهى تبدو، للغرابة، أحد محاور المعركة الجديدة، أو على الأقل هذا بعض ما فهمه الأزهر.