“هل سننتظر حتى يتم تدمير هذا الكنز الإنسانيّ العظيم؟” يتساءل بحرقة عالم الآثار الليبي فضل القوريني أثناء حديثه عن مدى بشاعة ما آلت إليه الآثار في ليبيا وما لحقها من سرقة وتخريب.

“هل سننتظر حتى يتم تدمير هذا الكنز الإنسانيّ العظيم؟” يتساءل بحرقة عالم الآثار الليبي فضل القوريني أثناء حديثه عن مدى بشاعة ما آلت إليه الآثار في ليبيا وما لحقها من سرقة وتخريب.

من المعروف أن ليبيا فيها أكبر مدينتين رومانية ويونانية في العالم هما لبدة وقورينا شحّات، وأغلى فسيفساء في العالم من العصر الروماني موجودة في متحف طرابلس، وأكبر وأجمل مسرحين رومانيّين في شمال أفريقيا والشرق الأوسط هما مسرحا مدينتي لبدة وصبراتة (غرب طرابلس)، وأكبر مجموعة رسومات في شمال أفريقيا والحوض المتوسط ترجع إلى 10000 سنة قبل الميلاد هي في جبال أكاكوس (جنوب ليبيا)، وفي ليبيا أقدم مدينة في العالم بنيت منذ القرن الثامن قبل الميلاد في الصحراء هي مدينة غدامس (543 جنوب غرب طرابلس).

ولكن ومع كل هذا الإرث التاريخي فإن ليبيا مهددة من قبل منظمة اليونيسكو بسحب بعض المواقع الأثرية بها من المواقع العالمية مثل مدينة شحات (240 كلم شرق بنغازي) وذلك بعد كثرة البناء العشوائي حول الأماكن الأثرية بها وعدم قدرة المسؤولين على توفير المعايير الدولية المطلوبة لحماية المواقع الأثرية، وذلك حسب تصريح مدير مصلحة الآثار في طرابلس صالح العقاب في حوار سابق مع “مراسلون”.

أكبر سرقة للآثار

يقول عالم الآثار القوريني لـ”مراسلون” إن أكبر عمليات سطو وتخريب تعرضت لها آثار ليبيا وقعت بعد ثورة فبراير 2011 مباشرة، متحدثاً عن “كنز بنغازي” الذي كان وديعة في المصرف التجاري الليبي منذ ستّينات القرن الماضي، ويضمّ أكثر من 6000 قطعة معدنية ذهبية وفضّية وبرونزية، إضافة إلى الآثار القديمة والنادرة، وتمّ نهبه في منتصف 2011 في ظروف غامضة، مضيفا أن هذا الكنز لا يمكن تقدير قيمته المادّية، وقد وصفته إحدى الصحف البريطانية بأنها السرقة الأكبر في تاريخ البشرية.

يضع عالم الآثار المسؤولية المباشرة على إدارة المصرف؛ لأنهم لم يتابعوا التحقيقات، “فلماذا سُرقت في ذلك الوقت تحديداً واختفى معها التحقيق؟!”

حاولنا المستطاع

مدير مصلحة الآثار الليبية أحمد حسين أكد لـ”مراسلون” أنهم يفعلون ما في جهدهم لمعرفة مصير الكنز المسروق، ورغم قفل ملف القضية من الجهات الأمنية، إلا أنه يؤكد حسب المعلومات التي وصلتهم أن هناك قطعاً أثرية ليبية تُباع في أسواق بريطانيا ومالطا وغيرها.

حسين أقرَّ بوجود جرائم كثيرة طالت المواقع الأثرية إلا أن المصلحة حسب قوله فعلت “ما في وسعها لأداء دورها في هذا الإطار”، ورغم ضعف الإمكانات إلا أنه لا يعتبر السيطرة على السرقات أمراً مستحيلاً، ولكن قلقه كان من التخريب الذي لا يمكنهم إيقافه في الوقت الحالي.

وفي محاولة لتدارك الموقف صرح حسين لـ”مراسلون” أن مصلحة الآثار عقدت عدة اجتماعات مع المنظمات الدولية المختصة بموضوع الآثار وحمايتها في نهاية أبريل في النمسا وهذا الشهر في تونس، تمخض عنها إعداد ما يعرف بـالقائمة الحمراء التي أوردوا فيها أهم القطع الأثرية الليبية مطالبين باسترداد ما سرق منها بصفة قانونية عن طريق الشرطة الدولية الإنتربول.

القائمة الحمراء

وفي ذات السياق كان المجلس الدولي للمتاحف (أيكوم) أصدر في ديسمبر الماضي “قائمة حمراء طارئة” خاصة بالقطع الأثرية الليبية المهددة بالتدمير أو النهب أو الاتجار غير المشروع حسب ما نشره الموقع الإلكتروني للمجلس، وتهدف فكرة القوائم إلى مساعدة المتخصصين بشؤون الفن والتراث وكذلك قوات الأمن في تحديد هوية القطع الفنية المعرضة للخطر وحمايتها عبر تطبيق التشريعات المعمول بها.

ويضم المجلس أكثر من 35 ألف متحف من مختلف بلدان العالم، وهو منظمة دولية غير حكومية مقرها باريس وتعمل مع اليونسكو والمنظمة العالمية للجمارك والشرطة الدولية “إنتربول”.

وتتضمن القائمة الليبية عدداً من القطع الأثرية بينها منحوتات وقطع نقدية تغطي فترة زمنية من الألفية الخامسة قبل الميلاد وحتى القرن السادس عشر، شاملة الحضارات اليونانية والبونيقية والرومانية والإسلامية بالإضافة لفترة العصور الوسطى.

وبين هذه القطع تمثال رخامي نصفي لامرأة يعود إلى الحقبة اليونانية (الألفية الرابعة قبل الميلاد) ومسلة من الحجر الكلسي تحمل كتابات باللاتينية وتعود إلى الحقبة الرومانية (النصف الأول من الألفية الثالثة قبل الميلاد) ومغارة من السيراميك من الحقبة الإسلامية (القرنان التاسع والعاشر بعد الميلاد).

ودعت المؤسسة المتاحف ودور البيع والتجار والهواة إلى “عدم اقتناء قطع مماثلة من دون التأكد مسبقاً وبشكل دقيق من مصدرها”، كما دعت جميع من يشتبهون بتعرض قطعة أثرية مصدرها ليبيا للسرقة أو النهب أو التصدير غير المشروع إلى “الاتصال فوراً بالسلطات المحلية”.

الدرع الأزرق

من ضمن الحلول التي يقترحها الباحث والأكاديمي في علوم الآثار أحمد فرج أنه في حال عجزت الدولة عن حماية موروثها يمكنها الاستعانة بالدرع الأزرق، وهو شارة الحماية المنصوص عليها في اتفاقية لاهاي 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، حيث أن الدرع الأزرق هو المعادل الثقافي للصليب الأحمر، ويعمل من أجل حماية التراث الثقافي في العالم عبر تنسيق التحضيرات والاستجابة السريعة في حالات الطوارئ.

وحول الاستعانة بالدرع الأزرق يقول مدير مصلحة الآثار إن سفراء ليبيا في الخارج لا يهتمّون بمتابعة مثل هذه المواضيع، بل حتى الاتفاقيات الرسمية التي تم توقيعها لاسترجاع بعض القطع الأثرية مثل تمثال أثينا المسروق من ليبيا في منتصف القرن الماضي والموجود في إسرائيل لم يتابعها أحد، وكانت مصلحة الآثار قد تواصلت مع المندوبية الإسرائيلية في اليونيسكو حول تمثال أثينا، حيث تم تكليف متحف اللوفر لاستلامه قبل شهور “ولكن لم نتلقَّ أيّ رد”.

من جانبه يصف عالم الآثار القوريني أنّ “هذه الاتفاقيّات حبر على ورق ولا توجد دولة تتدخل في أوقات الصراع المسلّح لحماية التراث الإنسانيّ واليونيسكو لا يمكنه فعل شيء”.

يوم الآثار والمتاحف

رغم مرارة ما يحدث للمواقع الأثرية في ليبيا إلا أن هناك حملات تطوعية تُنظم بين الفترة والأخرى للقيام بأعمال النظافة لتلك المواقع، ففي آثار “سيلين ولبدة” بالخمس (120 كلم شرق طرابلس) يقوم مفتاح محمود (32 عاما) رفقة مجموعة متطوعة بحملة نظافة واسعة وشاملة للآثار، ويرى محمود أنه يجب إطلاق حملات مكثفة لتوعية الناس بأهمية هذا الإرث التاريخي، وذلك باستغلال المناسبات العالمية مثل 18 مايو من كل عام الذي هو يوم المتاحف العالمي، ويوم 18 أبريل الذي هو اليوم العالمي للآثار.

أمر لا يراه أسامة حسن (41 عاماً) كافياً، فكونه من سكان مدينة شحات التي تنشط فيها الأعمال التطوعية لتنظيف الآثار وحمايتها يعتقد أن توعية الناس بأهمية الآثار في المناسبات العالمية لا يساهم في إيقاف الاعتداءات المتكررة على الموقع الآثرية، “فلو كانت الحكومة قويّة ووفّرت الحماية للمواقع الأثريّة لما جرّف أكثر من 15 موقعا أثريا وبني مكانها مساكن في مدينة شحات”.

تفاؤل وأمل

ووسط كل ما يحدث من فوضى في المواقع الأثرية؛ إلا أن الباحث الأكاديمي أحمد فرج بدا متفائلاً بهذا العام 2016، ففي موسم الحفريات للطلاب بكلية السياحة والآثار بجامعة عمر المختار بالبيضاء “كان الوعي والحماس منتشراً بين الطلاب الذين بدورهم سيقومون بنشره في المجتمع عن طريق الحملات التطوعية حتى في ظل غياب دور الدولة” يقول فرج.

القوريني في حديثه لـ”مراسلون” عبر عن أمله أيضاً بأنه إذا توحدت البلاد تحت ظل حكومة واحدة فذلك سيسهم ولا شك في استرجاع القطع المسروقة والمحافظة على المعالم الأثرية، مذكّراً بأن ليبيا استرجعت تمثال فينوس الذي يعود للقرن الرابع قبل الميلاد من إيطاليا بعد 100 سنة من سرقته، عندما قدم به برلسكوني في زيارته لليبيا عام 2008، “فما دام الحقّ وراءه مطالب فلن يضيع” يختتم حديثه.