قبل ثلاث سنوات تماما نشرتُ فى “مراسلون” مقالا بعنوان “مصر بين مستبدين” كان محوره الرئيس هو المقارنة بين نظامى الرئيسين المصريين الأسبقين: مبارك ومرسى لجهة كيفية تعاطى كل منهما مع موضوع الزراعة خارج الوادى ضمن نمطين للتفكير والسياسات الاستبدادية، اليوم ومع افتتاح الرئيس عبدالفتاح السيسى لموسم حصاد القمح فى الفرافرة يتبدى نمط استبدادى مغاير، فى طور التشكل سياسيا واجتماعيا.

قبل ثلاث سنوات تماما نشرتُ فى “مراسلون” مقالا بعنوان “مصر بين مستبدين” كان محوره الرئيس هو المقارنة بين نظامى الرئيسين المصريين الأسبقين: مبارك ومرسى لجهة كيفية تعاطى كل منهما مع موضوع الزراعة خارج الوادى ضمن نمطين للتفكير والسياسات الاستبدادية، اليوم ومع افتتاح الرئيس عبدالفتاح السيسى لموسم حصاد القمح فى الفرافرة يتبدى نمط استبدادى مغاير، فى طور التشكل سياسيا واجتماعيا.

نلمح من الصورة الأولى التى ظهر بها السيسى صيغة أولية لذات مفارقة، تقفز عبر الزمن قفزات خيالية، يتبدى كصانع معجزات خارق القدرات، حتى فى أبسط وأتفه التفاصيل. فقبل نحو ستة أشهر فى ذات الموقع عند اطلاق مشروع استصلاح وزراعة مليون ونصف مليون فدان، كان يجلس السيسى وعن يمينه رئيس الوزراء، شريف إسماعيل، وعن شماله وزير الدفاع، صدقى صبحى، كانت المقاعد الثلاثة متلاصقة، لكن مقعد السيسى أعلى قليلا من باقى المقاعد، أمامه، بمفرده، طاولة صغيرة، هذه المرة أضيفت طاولتين صغيرتين، عن يمينه وشماله، لتصنع كل واحدة منهما مسافة بينه وبين من يليه. تفصيلة شكلية لكنها بدت مقصودة وذات دلالة لأن كل طاولة لم يكن لها أية وظيفة، فعليهما مثل ما على تلك الطاولة الموضوعة أمامه: باقة زهور، زجاجة ماء، كوب زجاجى، مناديل ورقية، كل الحضور لم تتوفر أمامهم مثل تلك الأشياء البسيطة.

هل كانت الطاولتان مقصودتين كفاصل، كمسافة رمزية، ربما. هل عزز ما قاله السيسى ذلك التأويل لهذه التفصيلة؟.

لمحاولة الإجابة على هذا السؤال فلنلقى نظرة على بعض المشاهد المتناثرة لعلها تساعدنا فى اكتشاف ملامح هذا الطور الاستبدادى حديث التشكل.

الدم والنار

يحظى السيسى بدعم هائل داخل البرلمان، والأصوات المعارضة قليلة وخجولة، رئيس البرلمان، على عبدالعال، عبر عن ذلك الدعم بصورة فجة حين كرر أكثر من مرة رفضه نقد الحكومة ووزرائها خلال الجلسات المخصصة لمناقشة برنامج الحكومة والرد عليه- حسبما نشر موقع “مصر العربية” فى 10 أبريل| نيسان- قائلًا:” ساعة الشدة مفيش سلطة قضائية ولا نيابية ولا تنفيذية، المتعارف عليه في العالم كله هو اصطفاف السلطات سويا في الأوقات العصيبة، تعلمون الظروف التي تمر بها البلاد، السلطات جميعا عليها أن تتعاون ولا يوجد فصل بين السلطات الآن”.

وتمثل السيرة السياسية لرئيس لجنة الزراعة فى البرلمان، هشام الشعيني، مؤشرا هاما لما يمكن أن يتوقع من معالجة المجلس التشريعى لقضايا الزراعة وسياسات الدولة تجاهها. فهو- حسبما نشر موقع”ولاد البلد” فى10 سبتمبر/ أيلول 2015- ينتمى لعائلة كبيرة تجمع آوجه المكانة الاجتماعية والثروة والسلطة المختلفة فى صعيد مصر: المال، النفوذ القبلى، التمثيل السياسى والبرلمانى، العلاقة العضوية مع أجهزة الأمن.

فهو ضابط شرطة تقاعد للدخول إلى المعترك السياسى، وهو نائب عن دائرة نجع حمادى، بمحافظة قنا- 570 كيلومتر جنوب القاهرة، التى تعرف انتخابيا بأنها دائرة “الدم والنار” لحدة التنافس بين كبار العائلات. وشغل؛ أو بالأحرى “ورث” عن والده وأعمامه؛ ذلك المقعد بصورة دائمة منذ عام 2000.

وكان أحد القلة النادرة من قيادات الحزب الوطنى الديمقراطي (المنحل بحكم قضائى عقب ثورة 25 يناير 2011) التى نجحت فى برلمان 2011 الذي حظى التيار الإسلامي بأغلبيته المطلقة، وحزب الحرية والعدالة الذراع السياسى للإخوان المسلمين بأكثريته.

وكان فى حملته الدعائية للانتخابات 2010  بحسب بوابة الأهرام فى 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2010  قد قتل مواطنا وجرح آخر جراء اطلاقه الرصاص من سلاحه الآلي فى حفل انتخابى، لكن القضية “سويت” بمزيج من أعراف وتقاليد “دفع الدية” وتواطؤ أجهزة التحقيق. وأسس الشعيني، بعد 30 يونيو 2013، ومعه آخرون على مستوى الجمهورية وخاصة المحافظات الحدودية، مجلس شورى القبائل العربية، لدعم الجيش والشرطة.

تبريد الصراع

تستهلك مصر 16 مليون طن قمح سنويًّا، تنتج منها خمسة ملايين طن، ولسد تلك الفجوة الهائلة تسورد الباقى لتكون بذلك أكبر مستورد للقمح في العالم، وهناك اجماع من غالبية الخبراء أن مصر تستورد أقماحا من نوع الدرجة الثانية لتقلل من تكاليف الاستيراد.

فى تلك المعادلة غير المتوازنة بين الاستهلاك والانتاج تدور حرب شرسة بين المستوردين والمنتجين، حتى داخل الحكومة هناك صراع دائم بين المسؤولين فى ثلاث وزرارات: الزراعة، والتموين، والمالية، فالتقاطعات والتداخلات بين الاختصاصات محتدمة، ولكل وزارة امتدادات فى القطاع الخاص. فالتموين تقوم بالاستيراد وفى نفس الوقت تشترى المحصول لمصلحتها وتخزنه فى صوامعها، وهى بذلك تتقاطع، وتتنافس، وربما تتحكم فى الزراعة. ووزير التموين، خالد حنفى، إذ نجح فى استقرار منظومة الدعم الموجه- بحسب موقع الرسمى لوزارة الزراعة- لنحو ثلثى المصريين- سكان مصر حوالى 90 مليون نسمة- عزز من قوته داخل الحكومة بينما الزراعة مازالت متعثرة فى مشاكلها وإرثها الممتد من الاخفاق.

والحاصل أنه بالنسبة للقطاع الخاص هناك بضعة مستوردين يتحكمون فى الجزء الأعظم من سوق القمح، ولأن السلطة تريد تبريد كل عوامل التناقضات الاجتماعية ولو لفترة فقد شرعت فى دعم المزارعين بحيث تشترى منهم أقماحهم بسعر أعلى قليلا من السعر العالمى لتشجيعهم على زراعته، وهنا وجد المستوردون منفذا لمزيد من الربح بتهريب القمح المستورد وبيعه إلى الحكومة على أنه محلي للاستفادة من فارق السعر، وهناك تقديرات بأن تلك النافذة كلفت الميزانية العامة أكثر من 2 مليار جنيه سنوياً، خلال السنوات الأربع الماضية، وما حدث هذا العام أن التموين حاولت قبل موسم الحصاد أن تضع ضوابط لسد ذلك المنفذ، وهى فى أغلبها ضوابط “بيروقراطية” أى أوراق حكومية: مستندات تثبت أن ذلك القمح مزروع هذا الموسم داخل مصر وليس مستوردا، أو مخزنا، وبطبيعة الحال أصابت تلك الضوابط قطاعا من المزارعين- مستأجرين لا يملكون أوراقا ثبوتية- لكنه بالتأكيد ليس قطاعا كبيرا، ونتيجة للضجة الإعلامية التى قادها برلمانيون تراخت القبضة على الضوابط وتساهلت التموين فى الاجراءات، ليكسب التجار جولة جديدة على حساب الموازنة العامة للدولة دون أن تصب الأرباح فى جيوب المنتجين الصغار إلا القليل التافه.

الموازنة العامة تتحمل إذا تكاليف دعم المزارعين، لكن جانبا ليس قليلا منه “يخطفه” التجار. والمقاربة مع الدعم الموجه عبر بطاقات التموين سيلقى ضوءا إضافيا على سياسات “تبريد” الصراع الاجتماعى ومدى نجاحها، فالفرد يتلقى دعما فى حدود 60 جنيها شهريا، وبحساب متوسط لمعدل التضخم فى حدود 15% سنويا سيفقد ذلك الدعم تأثيره خلال بضع سنوات، لتظهر الدولة بحق كانها تحافظ على “خدعة كبيرة” لابد أن تتكشف قريبا.

اللاسياسات

تقلبات واضطراب السياسات الزراعية باتت عنيفة جدا، ومؤشر التغير فى قيادات وزارة الزراعة يدلنا- بحسب موقع الرسمى لوزارة الزراعة- على أنه بعد الركود الآسن فى ظل الوزير الأسبق، يوسف والى الذى ظل مهيمنا- 22 عاما من 1982 -2004- على رسم وتنفيذ سياسات أدت لتراجع مساهمة الزراعة فى الناتج القومى، وتزايد الاعتماد على الاستيراد، وتراجع رقعة الأراضى المزروعة بالمحاصيل الرئيسية، دخلت الزراعة إلى مرحلة اللاسياسات، فقد تعاقب على مقعد الوزارة عشرة وزراء خلال الأثنى عشرة سنة، بمعدل سنة وشهرين لكل وزير، وهو ما حدث بصورة أكثر حدة فى باقى القيادات التنفيذية بالوزارة، وواجه أربعة من هؤلاء الوزراء تحقيقات ومحاكمات، وصدرت بحق ثلاثة منهم أحكاما، كان أخرهم الوزير السابق، صلاح هلال، الذى أصدرت المحكمة بحقه حكما بالسجن عشر سنوات في قضايا تلقي رشوة من رجل أعمال لتسهيل استيلاءه على أراض مملوكة للدولة.

وزارة الزراعة ليست فقط مسؤولة عن مجمل النشاط الزراعى والإنتاج الحيوانى بل أيضا مسؤولة عن كل الأراضى الصحراوية المملوكة للدولة ملكية خاصة، لا ينازعها فى مسؤوليتها تلك إلا وزارة الدفاع وضمن خطتها للدفاع عن الدولة، أو تلك المناطق المخصصة للمجتمعات العمرانية الجديدة، وهى بحسب القانون (رقم 143 لسنة 1981) مسؤولة عن استصلاح واستزراع الأراضى الصحراوية وكسب ملكيتها والاعتداد والتصرف فيها وإدارتها والانتفاع بها.

شكوى رأسمالية

تعالت وبقوة أصوات ممثلين معتبرين من الرأسماليين، محذرة من الفساد، والبيروقراطية في القطاع الحكومي، وركزت أصوات لها استثمارات فى مجالات العقارات والسياحة واستصلاح الأراضى، وبعضهم يعتبر مواليًا وقريبا من السلطة، نقدها على الحالة القانونية والاقتصادية التى تجعل الدولة المتصرف الوحيد فى الأراضى، وكان أخرهم رئيس جمعية رجال الأعمال المصريين، حسين صبور، الذى كرر- فى حوار مع موقع مصر العربية فى 16 أبريل| نيسان- انتقاده لاحتكار الدولة لبيع الأراضي، وكونها الموزع الوحيد للأراضي، وطالب بأن تسمح الدولة للقطاع الخاص بتكوين شركات تبيع من خلالها الأراضي للمطور العقاري، كما كرر مطالبته بأن تعلن “الدولة” للرأي العام الجدوى الاقتصادية من تنفيذ مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، توضح المراحل التي تتم في المشروع، فـ “هناك نقص كبير في المعلومات عن هذا المشروع رغم أنه سيكلف الدولة أموالا طائلة، ويجب أن تضع الدولة أولوية في تنفيذ هذا المشروع أن يبدأ في صرف عوائد في أسرع وقت لتعويض الأموال التي تنفق في تنفيذه”.

محمد أبو الغارمؤسس الحزب المصري الديموقراطي الاجتماعي – فى مقال بجريدة “المصرى اليوم” 9 مايو| أيار- كان أكثر تحديدا وجراءة فاعتبر أن “هناك خللا كبيرا فى التصرف الاقتصادى للدولة، وذلك بضخ أموالا فى مشروعات فاشلة، أو سوء استخدام الأموال، وذلك بسبب الاعتماد على أفكار الرئيس وجهازه العسكرى المساعد فقط، ويجب عدم الإقدام على مشروعات كبرى بدون دراسة جدوى مستقلة تقوم بها بيوت الخبرة المدنية والتوقف تماماً عن تكملة بعض المشروعات التى يثبت أنها غير مجدية مع طرح كافة الأمور على الشعب بوضوح”.

الممنوعات القومية

فى السؤال عن الأسلوب الذى يدير به الجيش سيطرته وهيمنته على “المشاريع القومية”، خاصة لجهة طبيعة علاقات العمل، وخاصة فى مشروع الفرافرة الذى تتنحى وزارت: الزراعة والرى والكهرباء عن مسؤولياتها القانونية لتحل سلطة الجيش المطلقة على كل تفصيلة، ستكون كلمات رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، اللواء كامل الوزير، خلال زيارته الأخيرة لموقع الفرافرة، قبل أيام من كلمة السيسى، دالة، فالوزير طالب العاملين- مدنيين وعسكريين- باليقظة الشديدة وعدم النوم، وتناول الطعام أثناء العمل، وقال- بحسب ما نشرته جريدة الوطن فى 19 مايو| أيار-:”كلوا وانتوا ماشيين”، وأخبر العسكريين بأنه أصدر قراراً بإلغاء الحوافز الشهرية لضباط الهيئة الهندسية المدخنين، قائلا: “كل من يشرب سجاير من الهيئة الهندسية محروم من الحوافز..أنا بديلك 100 جنيه حافز علشان أساعدك فى بناء بيت وتكوين أسرة مش علشان تحرقها فى سجاير ودخان.. واللى بيدخن منكم أنا هعرفه”.

جزم السيسى فى كلمته – التى نشرتها الصحف يوم 4 مايو| آيار- بأن مصر ليست دولة، إنها “شبه” دولة، وأن الفساد والبيروقراطية تهيمنان على مختلف أجهزة الحكومة، وأنه رغم هذا الواقع “الكارثى” لا يخاف، ثم عرض للخطوات الرئيسية لكيفية إدارته لهذا الواقع: هناك شخص واحد يأخذ القرارت ويتابع ينفذها، إنه السيسى بمفرده، يصنع فى عام ما يصنعه الآخرون فى عشرة أعوام أو أكثر، وهو يتابع كل جنيه ينفق، وهو يخبر المصريين أنه وفر 260 مليار جنيه خلال عامين، كانت ستضيع لو أنه ترك الأمر للحكومة ولباقى المسؤولين، لذلك فهو يطالبهم ليس فقط بعدم الاختلاف معه، أو فيما بينهم، بل يطالبهم بعدم السماح بالاختلاف أبدا.

هذه بعض ملامح نظام السيسى فى طور تشكله الأول: هناك فساد وبيروقراطية فى “شبه” الدولة، الحل ليس التصدى لهما عبر الشفافية ومصارح الرأى العام، العكس هو ما جرى، إقالة المسؤول عن الكشف عنهما- رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات، هشام جنينة- ومنع أى حديث فى ملفات الفساد الكبرى، الحل فى أن يقوم السيسى بنفسه بتتبع كل جنيه ينفق. يقول السيسى لا تظنوا أنى أقل من صانع معجزات، عبد الناصر صنع مشروعا قوميا واحدا طوال حكمه-18 عاما- انا صنعت خمسة فى عامين-، لا تظنوا أنى أقل من محمد على، على عينى يتم كل شيء، وسوف أتعامل معكم بأسلوبه: لا اختلاف، لا يناقشنى أحد، ظروف العمل آشبه بـ “السخرة” التى ستبنى “الدولة”.

يشعر السيسى بالآسى لأن المصريين لا يعبرون له عن الامتنان، لكن عليه، حقا، أن يخشى؛ إذا كان صادقا أنه سيكمل تشكيل نظام وفق ذلك المخيال العابر للزمن؛ مما يمكن أن يفعله، هؤلاء الذين حرمتهم قدراته “الخرافية” من 260 مليار جنيه فى عامين، فقد كرر أن تكاليف المشاريع التى تم انجازها خلال العامين كانت 1300 مليار جنيه، لكنه بتدخله نفذت بمبلغ 1040 مليار فقط.!