يعتبر الباحث وأستاذ العلوم السياسية أشرف الشريف أن أبرز ما يواجه النظام الحاكم في مصر الآن أزمة الاقتصاد السياسي، وعلاقة الدولة بالمجتمع والأفراد كذلك. تخلت الدولة عن دورها الرئيس في حراسة وحماية التقاليد والإجراءات القانونية، حيث لم يعد هناك إهتمام كبير بأن يكون شكل الإداراة قانونيا، حيث يسيطر مفهوم أمني على الحكم.

يعتبر الباحث وأستاذ العلوم السياسية أشرف الشريف أن أبرز ما يواجه النظام الحاكم في مصر الآن أزمة الاقتصاد السياسي، وعلاقة الدولة بالمجتمع والأفراد كذلك. تخلت الدولة عن دورها الرئيس في حراسة وحماية التقاليد والإجراءات القانونية، حيث لم يعد هناك إهتمام كبير بأن يكون شكل الإداراة قانونيا، حيث يسيطر مفهوم أمني على الحكم.

هنا يتحدث المحاضر بالجامعة الأمريكية، والزميل غير المقيم بمعهد كارينجي للشرق الأوسط، حول اللحظة الراهنة في مصر، بعدما شهدت أول مظاهرات حاشدة منذ تولي عبد الفتاح السيسي للحكم في يونيو/ حزيران 2014.

لنبدأ بالحديث عن رؤيتك لمظاهرات 15 أبريل/ نيسان الماضي؟

لابد أن نقرأ ما حدث يوم “جمعة الأرض” بشكل مضبوط. مجموعات من المعارضين، الساخطين، الحالمين، الثائرين، الغاضبين حققوا ما لم يحدث منذ ثلاث سنوات تقريبا. الهجوم على عبد الفتاح السيسي بشكل مباشر، أن ينتقل هذا الغضب إلى الشارع. هذا كان مستحيلا خلال السنوات الأخيرة. انتزاع حق التظاهر على أرض الواقع والدفاع عنه هو مكسب كبير. لكن لا أرى أننا خلقنا حراكا واسعا داخل المجتمع المصري. الأغلبية ليست مهتمة بموضوع الجزيرتين، لكنه في الوقت نفسه يحيد الشعب. لن تصبح الأغلبية معارضة، لكنها لن تكون ساخطة على المحتجين كذلك.

هذا بالنسبة للمظاهرات، فلنتحدث عن أسبابها، أقصد اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية !

رغم أن المعلومات المتاحة قليلة، إلا أن الموضوع له أبعاده الداخلية والأقليمية. في شقه الأول تشترى المملكة العربية السعودية الولاءات. تفرض سيطرتها وهيمنتها بشكل واسع، من أجل أن تعيد تنظيم المنطقة على شكل محور صراع مذهبي عن طريق ضم الدول السنية المعتدلة مع إسرائيل. هو موضوع دعائي ورمزي بالنسبة للسعودية، كما تريد إسرائيل أن توسع اتفاقية كامب ديفيد لتشمل اتفاقيات الأمن في البحر الأحمر كافة الأطراف الفاعلة، وهو ما قاله السيسي قبل عام.

بالنسبة للنظام المصري حدث ذلك من أجل تلبية الحاجات المالية، وليس طلبا لاقتصاد أو استثمارات جديدة، وهذا أمر غير مسبوق في تاريخ مصر. اخترق السيسي خطا أحمر حينما تنازل عن مفهوم مثل حماية الأرض والحدود، كما اختراق خطا آخر، وهو مكانة مصر لأنه يقر بزعامة السعودية.

كيف تقرأ صراع المصريين مع الدولة حول ملكية المعرفة في هذه المسألة؟

جرى التنازل بشكل يخلو من سيناريو جيد. لم تقدم رواية رسمية، بل كان أول رد من جانب مركز المعلومات بمجلس الوزراء شديد التهافت. ضم مراسلات لعصمت عبد المجيد، وزير الخارجية المصري الأسبق، ومقال لمحمد البرادعي. أما رئيس الجمهورية فقد قال طالما تثقون فيّ فلا أريد أن يتكلم أحد عن هذا الموضوع. نحن أمام نظام يفكك مكونات خطابه السلطوي، ومفهوم شرعيته تحت ضغط أزمة هائلة. حاولت الناس أن تؤسس لحجج مبنية على أسانيد تاريخية ووثائقية. هذه خطوة متطورة في الجدال المصري، خاصة أن المناخ المصري لا يوجد به تداول للمعلومات، لكن سيكون هذا الصراع محصورا في شكل دعاية مضادة تواجه الجدل والخرافات. كان ذلك بمثابة خطوة متطورة للأمام، لكنها مسيسة بسبب السجال، وليس الجدال. النقاش كان أقرب للسجال بين مشجعي فريقي الكرة بالناديين الأهلي والزمالك. بينما نجد أن الموضوع بالنسبة لأنصار النظام، مثلا، لم يكن بحثا عن الحقيقة، بل انحيازا مُسبقا!

حسنا فلنتحدث عن البديل، الفزاعة الأكثر استخداما!

إذا عدنا إلى المذكرات واليوميات الخاصة بمرحلة ما بعد ثورة 1952 سنكتشف أن الضباط لم يكن لديهم خبرة. كانت معرفتهم بالسياسة والإدارة صفرا، أقل بكثير من ائتلاف شباب ثورة 25 يناير 2011. كان أعضاء مجلس قيادة هذه الثورة شبابا. جمال عبد الناصر كان عمره 34 سنة، وأكبرهم في  السن محمد نجيب، كان عمره خمسين عاما، وتم استبعاده.

قامت تجربة يوليو على مبدأ التجربة والخطأ. التخبط من الولاية لأمريكا، ثم الاتحاد السوفيتي، حتى تشكلت قوى عدم الانحياز. لكن بالنسبة لمسألة البديل، إذا لم يكن هناك هذا البديل فلماذا نؤيد النظام، رغم أنه سبب المشكلة. البدائل لا تخلق في الفراغ، بل أثناء الحركة. لن نعارض حتى نجد البديل أمر غير منطقي، لا أفهمه. البديل يلبي احتياجات محددة، الناس تعبر عنها أثناء التحرك، وخلاله سنجد/ سيتكون البديل.

كما أن غيابه يرجع لخمس أزمات، أولها خاصة بالمشروع السياسي. أن يكون لديك حلولا مبدعة للخروج من الثنائية التي نعيشها. أزمة التنظيم، بمعنى غياب تجربة العمل الجماعي خارج الدولة. ليس لدينا إلا ثلاث تجارب جماعة الإخوان المسلمين، الكنيسة القبطية، والنادي الأهلي. هذه النماذج الثلاثة تقوم على أساس إما ديني أو عاطفي. لدينا مشكلة عمل جماعي في مصر. الأزمة الثالثة مشكلة التمويل، والرابعة غياب القاعدة الاجتماعية، أي تيار سياسي يقوم على كتلتيَن الأولى معه قلبا وقالبا، و الأخرى متذبذبة، مثل الجماعة المستهدفة عند الانتخابات. التيار الوحيد الذي كانت لديه قاعدة اجتماعية تتماهي مع خطابه كان الإسلامي، بينما لن تشكل فلول الحزب الوطني المنحل هذه الكتلة، بل تحركها المصالح فحسب. هناك جماعات تؤيد الجيش، رغم أنه لا يفترض أن يعمل بالسياسة من الأساس، لأنه مؤسسة دولتية. أما الأزمة الأخيرة فهي القيادة، أن يكون هناك سياسي لديه رؤية ويفهم حركة الشارع، ويكون “ابن بلد” حسب التعبير الدارج كذلك، لكن كل هذا لا يجتمع لدينا. قد لا يكون هناك بديل الآن، لكن لأن النظام لا يقدم حلولا لابد من الحركة.

السياسة مثل الفيزياء، الفراغ يجب أن يمتلئ. قضية تيران وصنافير مهمة من أجل الضغط على الدولة، إذا نظم استفتاء، سيكون هذا مكسبا كبيرا سيؤدي لفتح المجال السياسي. إذا خرج شباب لديهم أفكار جديدة وتنظيم جيد، ستتشكل نخبة جديدة. موضوع البدائل، أزمة كبيرة، لكنها ليست مبررا لعدم الحركة.

أنت في الأساس باحث في مجال الإسلام السياسي، كيف تتعامل مع هذا المجال الآن؟ ما مستقبل هذه الأفكار، هل ستشكل حركات جديدة؟

ما حدث في 30 يونيو/ حزيران 2013 حدث في مصر فقط، بينما الإسلام السياسي لا يزال في تركيبة الحكم بعدة بلاد إسلامية. صار الاتجاه الآن التحرر من عبء مركزية مصر. كنت أتحدث مع مجموعة من الشباب الإسلامي فوصفوا وضعهم بأنه يشبه اليسار وأنصار الفكر القومي العروبي بعد نكسة 1967.  تلقى الإسلام السياسي ضربة موجعة، لكن الصحوة الإسلامية خلقت أفكارا عامة أقوى من الحركات. في مصر قد تخرج أطروحات جديدة. مشروع الإخوان هزم، ولا أرى أن أفكار داعش لها مستقبل في مصر، لكن في الوقت نفسه ربع الكتلة التصويتية المصرية كانت تؤيد التيار الإسلامي. كما أن هزيمة هذا التيار لم تكن لصالح قوى أخرى، مَن أخذ مكانه!؟ لا الليبراليون أو اليساريون، وجود هذا الفراغ سيدفع لعودتهم بصيغ جديدة. يمر الإسلاميون بمرحلة الانتظار والترقب. لن يشارك الإسلاميون في أي حراك قادم، لأوضاعهم السيئة، كما أن لديهم صراعات داخلية كبيرة. هم في مرحلة تأمّل وقراءة لمشروعات الفلسفة الغربية، يحاولون تشكيل شبكات من المثقفين والفاعلين، لكن ذلك يخضع لبنية الفرصة السياسية.

حسنا، أين تكمن المشكلة؟

أن هناك أثمان ضرورية ومطلوبة. تنازلات لابد أن يدفعها المصريون من أجل تحقيق الاستقرار لا الإصلاح. جربنا الاستقرار على أوضاع متعفنة في أيام مبارك. الطبقات المختلفة في مصر ترفض دفع أي ثمن، ولا تقدم الدولة أي تنازل كذلك. نتجاهل منذ 2011 السياسة. لا أحد يدخل إلى صلب الموضوع. الحديث يكون عن الدستور وشكل الدولة، دون مناقشة كيفية توزيع الثروة وطرق إصلاح الدولة.

يتم القفز للإمام، هذا ملمح أصيل للدولة منذ أيام مبارك، أنا لا استغرب هذا، لكن كيف يتجاهل المجتمع هذه المشاكل؟ الإجابة أن لا أحد يريد دفع الثمن، لهذا يلجأ المواطن  إلى الخرافة، مثل أن الجيش سوف يحل هذه المشكلة. حينما سيكتشف أنها خرافة، سيموت رعبا. سيدرك أن تاريخا يصنع الآن. أمر مجهول يبدأ والخوف أكبر الغرائز السياسية، لأنه يشل التفكير.

تعيش الطبقات الغنية معادلة مستحيلة في بلد فقير ومتخلف. التفاوت الطبقي هائل، ورغم ذلك لا يريدون أن يكون هناك معدل مرتفع للعنف أو الجريمة، أو أن تكون هذه الطبقات منتجة، أو تدفع ضرائب، أما موقف الطبقة المتوسطة الكبرى، فهو أكثر إرباكا. شارك أفرادها في ثورة يناير، لكن حينما أدركوا حجم المشاكل، تحوّل من دخلوا بنفسٍ إصلاحي ليرتدوا إلى مواقف محافظة، حينما وجدوا أن المطلوب حلول جذرية، وليست بسيطة، مثل تغيير الطبقة الحاكمة. الحلول تشمل المفاهيم المركزية للأخلاق، القيم التربوية، التعليم، المفاهيم المركزية لعلاقة الدولة بالمواطنين والآباء بالأبناء كذلك. كان الحل بالنسبة للجميع هو الهرب من المشكلات، لكن الإبقاء على الوضع الحالي صار مستحيلا.

الثمن المطلوب يزيد كلما مرّ الوقت. إصلاح الشرطة والقضاء لو كان بدأ منذ 2011 كان سيكون أفضل. لا أحد يمتلك رؤية للمستقبل. تجد الآن صراعات غير واضحة بين الطبقات والأجهزة الأمنية، بل داخل هذه الأجهزة نفسها. بينما لا يزيد مفهوم السيطرة عند الطبقة الحاكمة عن منطق السيطرة الأمني. القمع فقط، ألا ينزل أحد الشارع، تخيل أن هذه هي السيطرة هو الغباء نفسه، لأن أيام مبارك لم تكن هناك مظاهرات في الشوارع وكان الإعلام تحت السيطرة كذلك!

كتبتَ مرة عن الممثل حسين صدقي (ممثل ومنتج 1917-1977) بوصفه يمثل التيار الرئيسي للوطنية المصرية، هل تريد أن تصنع هذه المرادفات، أن تربط ذهنيا بين شخص ومفهوم أو فكرة معقدة وإشكالية؟  

نحتاج لمدخل جديد لسوسيولوجيا سياسية من خلال تأمّل الفنون والإنتاج الثقافي في مصر. كتبتُ عن الممثل حسين صدقي من باب الطرافة، وإن كنت أرى أن الفنون أكثر تأثيرا في الناس. نحن نقدر تأثير نبيل فاروق، بل أظن أن السيسي يراه بوصفه أهم كتُّاب مصر (شارك صاحب سلسلة الرجل المستحيل، عن بطولة جهاز المخابرات المصرية، في كافة لقاءات الرئيس مع المثقفين).  شكل فاروق وجدان الشباب المصري، حول الهوية الوطنية والأمن والمخابرات. كما أن السردية الوطنية لمصر خلال الثلاثين عاما الماضية كانت مستلهمة من مسلسلات كتبها صالح مرسي (1926- 1996)، مثل رأفت الهجان (في ثلاثة أجزاء 1987،1990، 1991)، ودموع في عيون وقحة (1981). بينما السردية الأبرز عن عبد الناصر وزمنه كانت مسلسلات أسامة أنور عكاشة (1941- 2010). ما يشغلني هو الكتابة عن الفنون التجارية، لأنها تشكل المشهد العام. من أجل التعبير عن فكرة علاقة الدولة بالمجتمع، الأخلاق الأساسية له، وذلك من خلال القصص والحكايات.

أحاول أن أجعل الأمور معتادة، أن تكون فكرة مثل الأخلاق المركزية مفهومة حينما تقدم عبر هذه الطريقة. أفكر في تقديم تاريخ الجيل الفاعل في الثورة، أقصد مواليد أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. من خلال شخصيات وحالات وتجارب أريد أن أكتب عما دفعنا نحو مشهد الثورة. أثر التوجيه والمناخ الثقافي والإعلامي والسياسي كذلك، من أجل تصفية الحسابات. 25 يناير كانت بالنسبة للشباب نزالا مع ما شكل وعيهم. خاصة أن تاريخ عصر مبارك لم يُكتبْ، بسبب الركود والعقم الثقافي. لم يسجل المثقفون والباحثون ما كان يحدث من حولهم، بل خاضوا نقاشات وجدالات قديمة ومستهلكة مثل رصد فترة حكم جمال عبد الناصر أو أنور السادات، بينما لم ينشغل أحد برصد التاريخ الاجتماعي باستثناء أدب نائل الطوخي ومحمد ربيع أو تحليل الراحل سامر سليمان لنظام مبارك المالي، عبر كتاب” النظام القوي والدولة الضعيفة” (2004). ما أسعى إليه هو كتابة تسجيلية حرة، ليست أدبا أو كتابة علمية أكاديمية. كما أن الهدف الرئيس لثورة يناير كان القضاء على التيار الوطني الرئيس، الذي صار عدوها الرئيس فيما بعد.

هناك إطار زائف كان يتم فرضه من خلال الدولة والطبقات المهيمنة والإعلام بوصفه “الوطنية”. كانت عبارة عن تصورات عن السلطة الأبوية المركزية، الأخلاق، الدين الوسطي، الهوية المصرية الغنائية، مبارك بشكله الراكد سابقا، السيسي بوجه الفاشي حاليا، ووجوه أخرى. قامت ثورة يناير من أجل الحرية، بمعنى إعادة تشكيل الجماعة الوطنية بعقد سياسي واجتماعي جديد. أن تطرح أسئلة وجودية عن معنى الوطن، ذواتنا كأفراد، علاقتنا بالبلد، وعلاقتنا بالعالم. وقد طرحت هذه الأسئلة الوجودية في لحظة إفلاس. نحاول أن نفكك السردية الأساسية عبر تفكيك هذا التيار الرئيسي.