في ابريل من العام 1977 اجتمع عدد من أمهات المختفين قسريا في “ساحة مايو” المقابلة لقصر الرئاسة في العاصمة الارجنتينية بيونيس ايريس مطالبات بالكشف عن ابنائهن  وبناتهن الذين كانوا اما محتجزين او مقتولين، وذلك بعد أن فشلن في اللجوء للقنوات “الشرعية” لمعرفة أي معلومات عن ابنائهن. انتظمن في وقفاتهن وسمي هذا الحراك بـ “امهات ساحة مايو” كان ذلك هو الحراك الأبرز الذي استمر حتى بعد سقوط الديكتاتورية العسكرية في الارجنتين في العام 1983، وقيل أن هذا الحراك ساهم بشكل كبير في اسقاط النظام آنذاك.

في ابريل من العام 1977 اجتمع عدد من أمهات المختفين قسريا في “ساحة مايو” المقابلة لقصر الرئاسة في العاصمة الارجنتينية بيونيس ايريس مطالبات بالكشف عن ابنائهن  وبناتهن الذين كانوا اما محتجزين او مقتولين، وذلك بعد أن فشلن في اللجوء للقنوات “الشرعية” لمعرفة أي معلومات عن ابنائهن. انتظمن في وقفاتهن وسمي هذا الحراك بـ “امهات ساحة مايو” كان ذلك هو الحراك الأبرز الذي استمر حتى بعد سقوط الديكتاتورية العسكرية في الارجنتين في العام 1983، وقيل أن هذا الحراك ساهم بشكل كبير في اسقاط النظام آنذاك.

كان الظن أن مثل تلك الافعال التي عادة ما تقوم بها أنظمة عسكرية قمعية قد اختفت وانتهت في الثمانينيات، ولكن في مصر وبعد سنوات من هذا الحراك، بل والأهم بعد ثورة اطاحت بنظام مستبد في 2011 وتجددت موجاتها للاطاحة بنظام اسلامي في 2013 تشهد ظاهرة “الاختفاء القسري”. فقد رصدت المفوضية المصرية للحقوق و الحريات 340 حالة اختفاء قسري بين أغسطس ونوفمبر 2015، هذا بالاضافة الي عشرات الحالات اختفت قبل ذلك التاريخ ربما بعام او اثنين.

الرعب والحيرة اللذان واجهتهما أسر المختفين قسريا دفعتهم لتأسيس رابطة للبحث عن ذويهم، وتنظيم فاعليات للضغط من أجل معرفة مكانهم وإن كانوا علي قيد الحياة.

اختفاء زوج

تكررت الوقفات الاحتجاجية والبلاغات الرسمية والحقوقية سواء بشكل فردي او جماعي. يظهر البعض على ذمة قضايا ملفقة، ويظهر آخرون مقتولين، وتظل الغالبية مختفية.

من بين هؤلاء المختفين المحامي ورجل الأعمال أشرف شحاته الذي يمر الآن على اختفائه عامان وشهران. لم تتواني زوجته مها المكاوي عن فعل أي شئ في سبيل استعادة زوجها، ولكن الأمر تعدى ذلك الآن، فهي لم تعد تتواني عن فعل كل ما تستطيع لدعم أي مظلوم.

أصبحت مها وجها مألوفا في جلسات محاكمة معتقلين مثل اسلام خليل المعتقل على ذمة قضية ارهاب رغم اخفائه عدة اشهر قبل ظهوره متهما، والذي أهداها من سجنه “حظاظة” كتب عليها “حرية”. ستجد مها أيضا في مؤتمر تضامني ضد قرار غلق مركز النديم الحقوقي، وفي وقفات للمطالبة بحرية الصحفيين المحبوسين، أو في وقفة تضامنية بالشموع والزهور لروح ضحية التعذيب الباحث الايطالي جيوليو ريجيني، وغيرها من التحركات وعلى رأسها بالطبع التحركات من أجل شريك عمرها المختفي الذي ترك خلفه زوجة وثلاثة ابناء.

بدأت هذه الرحلة الشاقة في 13 يناير 2014، حين ذهب رأفت فيصل شحاتة الشهير باشرف شحاتة لمدرسته الخاصة علي طريق صفط اللبن كرداسة وخرج ليرد على الهاتف ولم يظهر منذ ذلك الحين. اغلقت جميع هواتفه.  قبل نزوله ذلك اليوم أخبرها أنه جاءه استدعاء من أمن الدولة ليشرب القهوة لديهم وسيعود على الغذاء. قالها وهو يهم بالخروج حتى لا يقلقها، وتعاملا مع الأمر ببساطة لأن هذه المرة لم تكن الاولى التي يحدث  فيها استدعاء لأشرف.

ما جعلهما غير قلقين أيضا أن الزوجين لم يكن لهما اي نشاط سياسي محظور، فقط كانا أعضاء في حزب الدستور، وشاركا في الثورة “زي كل الناس”،  كما شاركا في 30 يونيو -وتقول آسفة “في التفويض”، فتوقعا أن يكون الأمر لسؤاله عن بعض الإخوان في منطقته كرداسة. لم تقل مها هذه المعلومة من قبل في الاعلام بسبب تهديدات تعرضت لها، ولكن لم يعد لديها ما تخفيه، أما ضباط أمن الدولة فلم ينتظروا أن يذهب لهم أشرف حسب الموعد، فاستدرجوه بهذه المكالمة وأخذوه من أمام مدرسته حسبما تتوقع مها.

حملة إعلامية

ذهبت مها في اليوم التالي لتسجيل محضر في قسم كرداسة، ذلك المحضر الذي لم يتم التحقيق فيه أو إجراء التحريات عنه حتى اللحظة. وبعد عشرة أيام تأكدت أنه موجود في أمن الدولة بسبب بلاغ ضده أنه أخوان. وأكد لها مصدرها أنه سيخرج بعد عدة أيام وجاءتها تأكيدات أخرى وقيل لها أنه سيخرج بعد بعض التحريات، واخبروها أن تنتظر حتى الانتهاء من الاستفتاء الدستوري، ثم الانتهاء من الانتخابات الرئاسية.

في ابريل 2014 لجأت مها إلى مقدم بالرئاسة حصل منها علي بيانات زوجها المختفي، وقال إنه سيخرج طالما لم يقم بجرم. قام بزيارته في مقر أمن الدولة في مدينة نصر وأخبرها أنه لم يستطع أن يراه بسبب غياب مدير الجهاز ولكنه طمأنها أنه بخير ويلقى معاملة جيدة ولا يتعرض للإهانة كما أدخل له طبيب وملابس نظيفة، على أن يزوره مرة أخرى بعد عودة رئيس الجهاز. المقدم نفسه اتصل بأحد اقربائها ليخبره لاحقا أن اشرف غير موجود بامن الدولة وأنه لا يوجد معتقلين في الجهاز من الأصل.

هي تشك أن اختفاء زوجها كان بسبب شراكة مع أخت رئيس وزراء سابق في عهد مبارك، “هي وأخوها قد زجا به هناك”، وقد قالت مها ذلك في بلاغاتها في النيابة ولمساعدي وزير الداخلية “لكنهم استهتروا بالأمر تحت دعوى أن مبارك نفسه محبوس وأن لا سلطة لنظامه”.

لجأت مها الي المجلس القومي لحقوق الانسان وتقدمت بشكوى للداخلية ثم بدأت في حملة اعلامية متقطعة، الأولى كانت في اكتوبر 2014، عبر عدة مداخلات تليفزيونية ولقاءات وتأسيس صفحة الكترونية لمعرفة أين اشرف شحاتة.

لم تبدأ الداخلية في التحقيق في البلاغ الذي قدمته إلا بعد ظهورها في الاعلام، وحين قابلت مساعد وزير الداخلية والمتحدث الاعلامي اللواء ابو بكر عبد الكريم أقسم لها أنه غير موجود وأن الاتهامات الموجهة للداخلية باطلة.

بعد اختفاء أشرف انقسم يوم مها بين زيارات لمحامين واقسام ومراكز حقوقية وإدارة المدرسة لغياب اشرف، ومتابعة ثلاثة أبناء، وإدارة حملة اعلامية للبحث عن شريك عمرها منذ 25 عام. ورغم ما يبدو من مشقة إلا أنها تابعت كل ذلك بدأب شديد، فوفق قولها “انا مش بدور على شنطة ضايعة، لما كان حد بيكلمني في نص الليل انه عنده معلومات كنت بنزل”.

لم تسمع مها قبل ذلك عن الاختفاء القسري، بل كانت المرة الأولى التي تدخل فيها القسم وقت الابلاغ عن اختفاء اشرف، ولم تتوقع أبدا أن تواجه مثل هذا الامر. بدأت المشكلات الشخصية في الظهور، فمع تزايد الخلافات مع بعض أفراد أسرة الزوج المختفي، كانت ظروفها المادية صعبة، فلقد كان أشرف هو من يدير كل شئ وهو من يعلم جيدا كيف يتعامل مع أعماله وأمور أسرته المالية. لم تستطع مها رغم امتلاكها توكيلا من زوجها بيع ارضه او نصيبه في المدرسة لتتمكن من المعيشة، فباعت والدتها جزءاً من أرضها لتستطيع مها دفع مصاريف ابنائها مرتفعة التكاليف في الجامعة الامريكية ومدرسة الشويفات الدولية.

بارقة أمل

في 18 يناير الماضي جاءها خبر ظهور اسم أشرف في قائمة للمختفين قسريا صادرة من المجلس القومي لحقوق الانسان بناء على معلومات من وزارة الداخلية. لكن سرعان ما اتضح أنه كان تشابه اسماء. كان يوما صعبا على مها التي توجهت علي الفور مع محاميها إلي مصلحة السجون ولم يجدا اسمه وقال لهما مسئول هناك أنه طالما غير موجود فهو مسجون سياسي في أمن الدولة. ثم اتضح أن الشخص الذي ظهر اسمه أصلا غير موجود في سجن الزقازيق المذكور في القائمة بل أنه نقل إلى سجن وادي النطرون وأنه محبوس منذ 3 سنوات، مما يعني أن معلومات الداخلية الواردة في القائمة غير محدثة.

رغم ريبتها بسبب ظهور اسم الشهرة وليس اسم اشرف الحقيقي في القائمة إلا أنه كان عليها التأكد، وبعد اتضاح تشابه الاسماء، توجهت إلى وزارة الداخلية حيث أخبرها المسئولون أن الاسم لم يستدل عليه. انتظرت عودة اللواء ابو بكر مساعد وزير الداخلية وقابلته مع حليم حنيش المحامي الحقوقي ود. مني حامد الطبيبة بمركز النديم حيث أخبرهم أن هذا الخطأ ليس مسئولية وزارة الداخلية بل مسئولية المجلس القومي لحقوق الانسان. انهارت مها في وزارة الداخلية وأفاقت في مستشفي القصر العيني الفرنسي، لم تفهم بالضبط ما حدث لها لكنها أخبرت الصديقان “انا هاقوم، انا لازم اكون قوية والانهيار ده مش هايفيدني بحاجة.. انا لسة مكملة ولسة وراهم لحد ما أشرف يظهر”.

تكتب مها لزوجها يوميا على صفحته علي فيسبوك، فلقد كان الزوجان يتحدثان في ادق التفاصيل. هي تشعر أنه يقرأ ما تكتبه له وحين تنشر صورهما سويا تشعر أن ذلك يطمئنها ويقويها. أما امورهما الشخصية ومشكلاتها ومشكلات ابنائهما وأسرته فترسلها له في رسائل خاصة حيث يصعب كتابتها على الملأ. وستظل مها قوية بأمنيات الغرباء الطيبة حين يستوقفونها في الشارع او في الوقفات التي تشارك بها ويقولون لها “قلبنا معاكي وبندعيلك”.

قضية اشرف شحاتة أصبحت معروفة للجميع بفضل مها، حتى أن ابنتها الصغرى في رحلتها المدرسية بالحسين وأثناء نداء أستاذتها عليها سمعت لواءات التأمين بالمنطقة يتساءلون ان كانت هي بنت أشرف شحاتة، لدرجة أن الصغيرة خافت ولكن طمأنتها أمها بأنها لم تفعل هي أو والدها شيئا لتخاف منه.

مواطنة عادية بدرجة ناشطة

لم تعد مها تقوم بالبحث عن أشرف فقط. هي ذاقت الظلم لذلك فهي تدعم كل مظلوم. هي قد تتشرد هي وأبنائها لغياب عائل الاسرة. هي لا تعرف لماذا تفعل الدولة ذلك. تتمنى مها ظهور اشرف ولو على ذمة قضية.

سوف تستمر مها في المشاركة في الفعاليات ليس فقط من أجل اشرف ولكن من أجل كل مظلوم، رغم أنه بعد مشاركتها في الوقفة التضامنية مع جوليو ريجيني الباحث الايطالي الذي قتل تحت التعذيب وسط شكوك باحتمال تورط أجهزة أمنية في الحادث، الأمر الذي تنفيه وزارة الداخلية المصرية، جاءتها تهديدات: “اهدي واتهدي شوية وخافي على ولادك وأخوكي”، حتى تتوقف عن الظهور تماما، ووصلت رسائل التهديد لوالدتها لاخافتها. قيل لها: “ازاي تعيطي على واحد ايطالي”. لكنها تقول أنها بكت رغما عن إرادتها. بكت على حالها وعلى حال الشاب المسكين الذي ربما كانت تكون مكانه. هي لا تعتقد انهم يستطيعون المساس بأشرف بسبب مشاركتها في فعاليات سياسية، إما سيظهروه او سيبقونه مختفيا.

لا تعتبر مها نفسها ناشطة سياسية ولا تحب أن تكون، بل تعتبر نفسها مواطنة عادية. لكن كل ما تستطيع فعله للمساعدة ستفعله. هي تصف الأمر ببساطة، بأن الجميع في مركب واحد الآن سواء داخل السجن أو خارجه، “لذا يساعد الناس بعضهم البعض تحت دعوى الإنسانية التي لا يعرف عنها هذا النظام شيئا”.