أن تكون حرية أحمد ناجي، ومستقبله وأهليته وأمانه الشخصي كذلك مسألة يمكننا مناقشتها وإبداء الرأي فيها عن مدى إعجابنا بسجنه من عدمه. كأن أي فساد حولنا أمر خارج إرادتنا مثل حالة الطقس، بينما فصل من روايته كان يتطلب هذا التطور المرعب.

أفكر كيف سيقدم نفسه هناك.. في السجن.

ما معنى خدش الحياء؟ هل سيتحدث عن الرواية؟ أم يحكي رواية أخرى؟ هل سيخبر رفاق السجن عن أسباب غرق القاهرة في روايته ونهايتها؟

أن تكون حرية أحمد ناجي، ومستقبله وأهليته وأمانه الشخصي كذلك مسألة يمكننا مناقشتها وإبداء الرأي فيها عن مدى إعجابنا بسجنه من عدمه. كأن أي فساد حولنا أمر خارج إرادتنا مثل حالة الطقس، بينما فصل من روايته كان يتطلب هذا التطور المرعب.

أفكر كيف سيقدم نفسه هناك.. في السجن.

ما معنى خدش الحياء؟ هل سيتحدث عن الرواية؟ أم يحكي رواية أخرى؟ هل سيخبر رفاق السجن عن أسباب غرق القاهرة في روايته ونهايتها؟

سيحدثهم بأنه سيحبس لسنتين، لأنه خدش الحياء.

كيف؟ سيسألونه. عشان كتبت رواية، فيأتي سؤال آخر: شتمت في حد من الكبار، لأ.

ينتهي الأمر بالحديث عن الأدب، فلا يفهمون شيئا مما يقول.

عندما صدر الحكم وخلال لحظات ترحيله من المحكمة همس أحد أفراد الشرطة بأنها فرصة لأي كاتب ليصبح من العظماء!

لكن من قال أننا نريد هذا الطريق أو أن أحمد يمشى على طريق العظمة عبر المحاكم والسجون؟

العظماء لا يجب ألا يخرجوا من السجون؟ يكفينا ميراث القهر القديم، لا نريد أن نجدده. أمام تهوين الأمر بالعظمة المنتظرة، تأتي نظرة أخرى: ادخلوه السجن حتى يتعلم الأدب، بقصد علموه أن يدخل في القالب، ألا يزعج نوم المجتمع مع أدب لا يخبره بجديد لا يصدمه.

أمر يذكر بخطوة الرئيس جمال عبد الناصر (1918-1970) حينما بعث الشباب المتنافس في مسابقة “أبو عيون جريئة” إلى صفوف الجيش حتى يسترجلوا، ليتلاقي هذا مع سلطات هذا المجتمع، خاصة أن لدينا ميراث طويل من تلاقي السلطة السياسية مع الأبوية، وحراسة الأخلاق وحماية الآداب والحياء العام وغيرها من مفاهيم الأخرى النسبية، لكن لا تزال مع الأسف تعجب البعض أو يرونها معبرة عن تصورهم الذي يرون أن تعميمه فرضا علينا جميعا، وهذا هو بؤس التفكير ومحدودية خبرات الحياة، نجانا الله منهما.  

خلال المحاكمة، ونحن ننتظر حكماً لم نتوقعه، كنا نتأمّل كيف كان وجودنا مثل ضيوف على حين غفلة، وهذا الوصف الأدق لنا.

هذا ليس مكاننا، نحن نختلف في الكلام، في الذوق، في طريقة التعبير، لكن لا يجب أن نساق نحو المحاكم. قد نريد حياة أفضل، نعمل جميعا من أجل أن نستخدم وجودنا في هذا المكان بشكل أفضل، ألا نسبب إزعاجا لبعضنا البعض، المسألة ترتبط بطرقنا في التعبير ليس أكثر.

حماية هشة

لا أعرف كيف صرنا صديقين.

القدر، الحظ، مكتب التنسيق، مصطفي أمين، الله الواسع القدير أراد أن يجمعنا سويا في هذا المكان بصحراء مدينة 6 أكتوبر. في أكاديمية أخبار اليوم، كان زميل لي قد رسب وصار في الدفعة التالية لي، هناك قابل ناجي ووجد أننا يجب أن نصير صديقين، وقد كان، صرنا متلازمين.

منذ هذه اللحظة كان واعيا بمشروعين، الصحفي والكاتب. لا أريد أن أكشف مساحات شخصية من حياته، لكن بالفعل أحمد يكتب في الصحافة كمحترف. أما مشروعه الأدبي فيسير نحو عوالم مختلفة، معبرا عن انحيازته الجمالية بشأن اللغة، واستلهام التراث وحكاياته بأسلوب معاصر لا يخلو من عنف اللحظة الراهنة.

كتابة هذا النص كانت الأصعب بالنسبة لي. منذ أغسطس الماضي، ثم بداية المحاكمة في نوفمبر، نتابع ونكتب عن القضية. لكن هذه المرة المسألة تزداد صعوبة. لم أعد أملك إلا حصيلة مُرة من اليأس وأمل بسيط أن يخرج لمحاكمة جديدة.

حتى هذه اللحظة أفكر أن الاحتمالات كلها كانت قائمة، لكن الحبس كان الأبعد. هذا ما جرى، سجنه كشف هشاشة هذه الحماية التي نظن أنها تحيط بنا.

لكن هل فَكَر ناجي في هذا بالفعل؟

لا تقل أبو قير في الشام

أراد أحمد فعليا أن يكون بجسده داخل صراع هذا المجتمع مع التعبير. هل أراد ذلك بالفعل، لا أعرف؟

أفكر في مَن أراد السير نحو تبرير اللا شىء ويتأفف من استخدام بعض الأوصاف في الأدب. لا أفهم هذا لأن أحمد ناجي لا يميل لتحقيق رقم قياسي في ذِكرها، وإنما يريد تقديمها في قالب خاص به.  دون أعباء للدلالة الأخلاقية والطبقية لهذه الألفاظ. أن تقدم مثلما تحضر في ذهن القارئ، عجيب هذا الأمر كلنا وجدنا في هذا العالم من ذكر وأنثى، ولكننا لا نقبل أن يقال ذلك، أو أساليب قول ذلك.

يحضر إلى ذهني دوما جلسة جمعت صحفيين وكتّاب من عدة دول عربية، وأخذنا نسأل بعضنا البعض ما الألفاظ المستخدمة لوصف الأعضاء الجنسية في كل بلد، فوجدنا أن كل بلد لديه حصيلة لغوية كبيرة حول هذه الأعضاء والأفعال المحدودة القليلة. بل كل مدينة وقرية عربية تستخدم مجموعة من الألفاظ الخاصة بها. العزيز في بعض قرى الشام يقصد بها العضو الذكري، بينما القط هو العضو الأنثوي.. لهذا فإن جملة مثل عزيز يلعب مع القط، قد يراها البعض خادشة. كما أن “أبو قير”، إذا نطقها المصري، بطريقتنا المعروفة في تخفيق نطق حرف القاف، ستكون صادمة لكل الأخوة العرب، لأنها ستفهم أننا نتكلم عن صاحب أكبر عضو ذكري لأننا ندلل عليه بذلك.  

حينما نستخدم فعل صرم يعني هذا قطع الشىء من أصله، لكن حينما تكون اسما، فإذا ضمت الصاد والراء، فكلمة “صُرُم”، قد يقرؤها أحد على اعتبارها تسمية شعبية للحذاء، ولكن المقصود غير ذلك، كما أن الصُرَمْ لا يقصد بها الأحذية، وإنما الجلد المدبوغ.

قد يستخدم هذا  النوع من الجلود لحماية القدم قديما عندما يضاف له نعلا، لكن الصُرم، قد يعني القطعة من كل شىء. لكنه رغم كل أوصافه السابقة، وكلها صحيحة، يعني العضو الأنثوي، في الجنوب التونسي، هكذا لن يحمل هذا اللفظ أية دلالة أخلاقية قد تحرّك حراس الفضيلة. لكن في دولة مثل الشقيقة تونس قد يتحفظ البعض على ذلك، لكن لن يحبس كاتبها.

قد لا يفهم هذه الكلمة أيضا الأشقاء في ليبيا، ولا أحد في لبنان سيعرف ما المقصود بصرم؟ سواء إذا وضعت علامات التشكيل أو رفعت.

بعد وقت قد يفهم كل هؤلاء معناها، لأن لهذه الألفاظ دورتها، ربما من قبل وجودنا، نحن أو القضاء ومن قبله المُشرع الذي وضعه قانون العقوبات.

كانت تستخدم في الأدب، وعلى ألسنة الناس، لكن لم يكن ينظر لها بأنها خادشة لحياء أحد.

الانحياز لوصف ما دون الآخر هو أمر جمالي، ويبدو أنها مسألة تاريخية كيف تزوى كلمة وتحضر أخرى. تاريخ استخدام جماعتنا الناطقة للعربية وكيف تكتب ما تنطق على مدار التاريخ وتعدد سبل التدوين.

إذا لم يأت حسب القالب المقبول، وهذا هو الصراع القائم الآن، سيحبس المنحاز لمجموعة الألفاظ هذه دون تأمّل موقفه. لكن أين وجدت هذه الألفاظ؟ كيف ستقرأ من جانب كل شخص، وماذا يقصد كاتبها؟

كما أن النسبية تحضر هنا، كيف يكون للفظ دلالة، وكيف يكون ضمن قائمة الألفاظ الخادشة للحياء؟ وبالمناسبة من يصدر هذه القائمة؟ هل سيكون ذكرها في قائمة خادشا!؟ ما الحياء؟ ولماذا يكون عاما؟ وهل هناك نوع آخر خاص لا يجب حمايته من الخدش؟ ثم كيف يحدث الخدش، من يملك حق تقديره؟ ماذا يمكن أن نفعل إذا خُدِشَ؟ هل إذا دُفعت غرامة ستختفي آثار الخدش؟ هل الحبس لعامين سيمنع تكراره؟     

المسألة ليست شخصية بالفعل، حبس أحمد، مع الأسف، رغم حكم البراءة السابق، يفتح الباب لصراع جديد دخلناه جميعا معه،  رغم نصوص الدستور، وحقوق التعبير، وغيرها من المواد الخاصة بعدم حبس الصحفيين، لكن هذه الدولة لم تعد تحترم دستورها.

وهو ما يدفعنا للتساؤل كيف سيصبح هذا المجتمع مفتوحاً؟ بل متى؟