رفع المطالبون بالتشغيل الورقة الحمراء في وجه الحبيب الصيد معلنين العودة إلى الاحتجاج في الشوارع تعبيرا عن غضبهم من فشل الحكومات المتعاقبة في إيجاد مخرج لمعضلة البطالة التي كانت في صدارة مطالب المحتجين الذين أنهوا 23 سنة من نظام بن علي في جانفي/يناير 2011.

رفع المطالبون بالتشغيل الورقة الحمراء في وجه الحبيب الصيد معلنين العودة إلى الاحتجاج في الشوارع تعبيرا عن غضبهم من فشل الحكومات المتعاقبة في إيجاد مخرج لمعضلة البطالة التي كانت في صدارة مطالب المحتجين الذين أنهوا 23 سنة من نظام بن علي في جانفي/يناير 2011.

خلال خمس سنوات من عمر الثورة التونسية تداولت على الحكم حكومات بألوان سياسية مختلفة منها العلماني الحداثي (حكومة الباجي قائد السبسي) ثم  الإسلامي (حكومتا حمادي الجبالي وعلي العريض) ثم حكومة التكنوقراط (المهدي جمعة ) وصولا إلى حكومة الصيد الإئتلافية، غير أن الخيط الناظم بين كل هذه الحكومات يبقى الفشل في إيجاد حلول جذرية لأكثر من 600 ألف عاطل عن العمل ثلثهم تقريبا من حاملي الشهادات العليا .

الجهات الرسمية حاولت إيجاد تبريرات لفشلها في رسم خطط واعدة، تمنح الأمل للفئات الشبابية، وخصوصاً من حاملي الشهادات العليا في الحصول على موطن شغل، إلا أن المتابع للشأن العام في تونس يلحظ جيدا أن ملف التشغيل لا يعود إلى الواجهة إلا مع تجدد الاحتجاجات الشعبية التي تسارع الحكومة في كل مرّة إلى استيعابها بقرارات توصف في الأغلب بالارتجالية.

ورغم أن قضية التشغيل كانت من ضمن المطالب الأساسية التي نادى بها التونسيون إبان الثورة إلا أن الحكومات  والطبقة السياسية غالبا ما كانت تغرق الرأي العام بقضايا ثانوية من قبيل قضية ختان البنات ومكانة المرأة وغيرها من المواضيع التي طالما خاض فيها السياسيون على حساب الملفات المتأكدة التي كان يفترض أن تكون في صدارة اهتماماتهم.

الحد الأدنى مفقود

يرى المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي أن عودة احتجاجات العاطلين عن العمل بقوة وبأشكال عنيفة أحيانا “أمرٌ طبيعيّ” مشيرا إلى أن المعطلين عن العمل لم يعد لديهم استعدادٌ لمزيد من الصبر بعد خمس سنوات من الوعود، من دون أن يتحقق الحد الأدنى منها.

ويقول الجورشي في تصريح لـ”مراسلون” إن جلّ المناطق المهمشة التي ثارت ضد نظام بن علي بقيت مهمشةً، من دون تغيير يذكر، لافتا إلى تطرق الحكومة إلى ملف التشغيل ظرفيا يولد لدى الشباب إحساسا بتخلّي الحكومة عنهم.

ويتابع المحلل السياسي أن مكسب الحريات الذي تحقق للتونسيين إنجاز عظيم، “لكن الحرية  وحدها لا تشبع البطون الجائعة، ولا تعيد البسمة والأمل إلى جيل كامل ينتظر، منذ سنين، لحظة الولوج إلى مرحلة جديدة، يتوفر فيها الحد الأدنى من الكرامة والشغل”.

ويفترض حسب الجورشي أن تكون الدولة قد بادرت منذ أشهر إلى اتخاذ قرارات جريئة يكون لها أثر اجتماعي، خاصة وأن كل الاعذار السابقة انتفت بالمرور من مرحلة المؤقت من مرحلة استقرار الدائم وفق قوله.

وتكتسب التحركات الشعبية مشروعيتها من عوامل متعددة، فالمناطق الداخلية المهمشة التي انطلقت منها التحركات ما زالت، وعلى الرغم من مرور خمس سنوات على الثورة، تعاني غياب تنمية فعلية وحلول جذرية لمشكلات الفقر والتهميش والبطالة وهو ما جعل رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي يقرّ بحق المحتجين في  المطالبة بنصيبهم في الشغل والتنمية.

مؤشرات سبقت العاصفة

الباحث في الشأن الإقتصادي محمد الجراية يرى أن كل  المؤشّرات كانت تنذر بقرب موجة من التحرّكات الاحتجاجيّة، خصوصاً مع تفاقم الأزمة الاقتصاديّة وخيبة المواطنين من موازنة سنة 2016 التي لم تقدّم حلولاً حقيقيّة لمشكلة البطالة وتدهور الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعية للفئات محدودة الدخل.

يقول الجراية مصرحا لـ”مراسلون” إن قراءة الإحصائيات الأخيرة لسنة 2015 تفضي إلى استنتاج واحد، وهو وصول البلاد إلى مرحلة الاختناق على الصعيد الاقتصاديّ، فالعجز ناهز 6%، أما نسبة الفقر فقد بلغت مستويات قياسيّة في المحافظات الغربية للبلاد وبالخصوص في محافظتي القصرين وسيدي بوزيد لتبلغ ضعف المعدّل الوطني تقريباً إلى ما يناهز 28%. ليس هذا فحسب، بل بلغت معدّلات بطالة خرّيجي الجامعات 48% في القصرين التي قدّمت خلال ثورة يناير 2011 النصيب الأكبر من الشهداء والجرحى.

يمثل المشهد الاجتماعي في تونس ما بعد الثورة، وخصوصاً مشكلة البطالة حسب الباحث الاقتصادي القضية المركزية التي ينبغي أن تعمل السلطات على حلها، وهو ما يبدو أن الحكومة الحالية عاجزة عن التعامل معه  بالحرص المطلوب حسب قوله ، خصوصاً في ما يتعلق بتعيين المسؤولين على المستوى المحلي من معتمدين وولاة، التوقف عن إقرار حلول مستعجلة، هدفها تسكين الأزمة أكثر مما هو العمل على حلها جذرياً عبر الابتعاد عن آليات التشغيل الهش، وغير المنتج.

ويشدد المختص في الشأن الإقتصادي على أهمية مصارحة الشعب حول الأزمات التي تمر بها الدولة في المجال الاقتصادي، ومحدودية قدرتها على التوظيف ومحاربة الفساد المستشري معتبرا أن التنمية لا يمكن أن تتحقق بصورة مفاجئة، بقدر ما هي نتاج سيرورة من العمل المتواصل، في ظل الشفافية والحكم الرشيد.

قنبلة موقوتة

تكمن الأزمة الحقيقية في إيجاد مخرجات لأزمة التشغيل وفق عضو مجلس نواب الشعب حافظ الزواري في الفساد المتوارث الذي ما زال ينخر البيروقراطية الرسمية، والتي استمرت تمارس وهو ما يقتضي إصلاحا عميقاً في أجهزة الحكم والإدارة ومحاربة انتشار الرشوة والفساد وإرساء منظومة الحكم الرشيد حسب تأكيده، وهو ما ظلت الحكومة المنتخبة تتلكأ في التعامل معه بما يقتضيه من جدية. فالتقاطعات بين السياسي والاجتماعي وحالة التردد وغياب الإرادة التي تميز الأداء الحكومي راكمت المشكلات، ولم تسع إلى حلها.

في المقابل يرى عضو البرلمان حسونة الناصفي أن المشكلات الحالية أكبر من أن تتمكن أي حكومة من حلها، وبصورة عاجلة وبشكل نهائي. فالمطلوب حسب رأيه “فتح حوار وطني جدي، تشارك فيه جميع الأطراف السياسية والاجتماعية من أجل وضع مقترحاتٍ واقعيةٍ وقابلة للتحقق، ضمن إمكانات الدولة، بعيداً عن الشعارات والأداء الفوضوي في الشارع”.

وبالرغم من إجماع المحللين على أن معالجة ملف التشغيل يحتاج إلى سنوات ويتطلب مجهودات كبيرة لتحقيق نسب نمو عالية تسمح بتوفير الكم المطلوب من مواطن الشغل إلا أن هذا المطلب المتأكد سيظل بمثابة القنبلة الموقوتة التي تهدد بالانفجار في وجه أي حكومة مهما كان غطاؤها السياسي.