لم تبلغ قطعة ملابس من الشهرة مثل التي وصل لها بلوفر المطرب المصري الشهير عمرو دياب الذي ارتداه في كليب أغنيته ”تملي معك“ عام ٢٠٠٠.

لم تبلغ قطعة ملابس من الشهرة مثل التي وصل لها بلوفر المطرب المصري الشهير عمرو دياب الذي ارتداه في كليب أغنيته ”تملي معك“ عام ٢٠٠٠.

هذا البلوفر الأسود من الأسفل لنحو ثلثيه بينما ثلثه الأعلى بلون التركواز ويفصل بينهما خط متموج أزرق أخفت درجة من لون التركواز، الذي ظهر به المطرب وهو فاردًا ذراعيه متأوهًا من لوعة حبه للفتاة التي تظهر معه في الكليب، كان سببًا في تشغيل مصانع تريكو في مصر وخارجها (الهند والصين على سبيل المثال) لاستنتساخ وانتاج كميات كبيرة منه بمختلف المقاسات استجابة للطلب المتزايد من الشباب من عشاق عمرو دياب ملك الموضة.

”الميديا هي اللي بتحدد إحنا بنلبس إيه.“ يقول لــ ”مراسلون“ الاستاذ الدكتور أحمد بيبرس، مدرس قسم الملابس والنسيج بكلية اقتصاد منزلي، جامعة حلوان ويضيف ”واللي بتختاره الميديا وبتسلط الضوء عليه سواء في عمل فني أو أغنية زي ”بلوفر عمرو دياب، بيكون هو التصميم اللي بيحدد اتجاه صناعة الملابس.“ ثم يستكمل دكتور بيبرس قائلًا ”الملابس صنيعة المصمم.“

عرائس الموضة

يشبه بلوفر عمرو دياب عرائس الموضة التي صنعتها ماري جيني روز بيرتن (١٧٤٧-١٨١٣) خياطة الملكة ماري أنطوانيت ملكة فرنسا وزوجة الملك لويس السادس عشر، وكانت ترسلها الملكة لأخواتها لتعرفهم بأحدث الموديلات التي فصلتها خياطتها الماهرة التي تعتبر أول من وضع أسس وفنون ”الخياطة الراقية“، وعلى هذه الدمى كانت روز تضع موديلاتها من الجونلتين العلوية والسفلية ذات التطريز المبهرج الباذخ التي اشتهر بها البلاط الفرنسي وحاشيته الأرستقراطية، لترسم شكل الموضة.

وعندما اندلعت الثورة الفرنسية وأُعدمت ماري أنطوانيت، فرت روز لانجلترا واستكملت عملها ودارت تلك العرائس دورتها ثانية لنشر الموضة، التي صارت أكثر بساطة وأكثر ابتعادًا عن الزخرف والتطريز وعن كل ما هو ارستقراطي مع الإكتفاء بجونلة واحدة تنزل من أسفل الصدر مباشرة، وذلك تماشيا مع روح الثورة الفرنسية وانطلاق الثورة الصناعية وبداية عصر استخدام الآلة.

حينها حصل المخترع البريطاني توماس سانت على براءة اختراع أول ماكينة خياطة في عالم عام ١٧٩٠، وفي عام ١٨٢٩ اخترع الخياط الفرنسي بارثليمي ثيمونيه ماكينة خياطة أكثر عملية، وفي عام ١٨٥١ حدثت الطفرة عندما اخترع الأمريكي إسحاق سنجر ماكينته الشهيرة التي أدخلت الخياطة إلى الأعمال المنزلية فأصبح بمقدور الأسر الحصول على ملابس أفضل وبكلفة أقل.

ودخلت عرائس الموضة، التي تطورت في عصرنا إلى أن صارت عرائس باربي وفلة، إلى قصور أبناء محمد علي فكانت الملابس تفصل في أوروبا وتُحضر إلى مصر. ثم جاء الخياطون والخياطات من أوروربا يحملون ماكينات سينجر ويصنعون الملابس للعائلات الثرية على أسس وفنون ”الخياطة الراقية“، أصل الموضة الفرنسية، وهو ما بدا واضحًا في شكل الملابس في عهد الخديوي اسماعيل (١٨٦٢-١٨٧٩) الذي كان يسعى في أن يجعل القاهرة باريس الثانية.

”إحنا متأثرين بالاتجاه الفرنسي في الموضة“ يقول د. بيبرس متحدثًا عن الملامح العامة لتصميم الملابس في مصر ويضيف ”بس طبعًا بيحصل تعديل في خطوط الموضة دي بما يتناسب مع أخلاقيات المجتمع. المكشوف بيتغطى. الألوان بتتغير حسب الذائقة العامة.“  

ومع نهايات القرن التاسع عشر بدأت الحرف المتعلقة بالملابس والترزية في الظهور فكان هناك ترزية وخياطون، حيث اختص الترزية بتفصيل الموديلات الأفرنجية للجنسين كل علي حده، واختص الخياطون والخياطات بتفصيل ملابس العوام للجنسين معا، ويازماجية، وهم العاملين في صناعة اليازمات (أي الطرح والشالات)، وقمصانجية، المتخصصون في تفصيل القمصان الأفرنجية والطرازون، وحرف مختلفة تتعلق بالملابس كالصباغة والفراء وكان غالبية أصحاب هذه الحرف من الأرمن واليونانين الذين نظموا أنفسهم تحت مظلة جمعية اتحاد الخياطين التي تأسست عام ١٩٠١ برئاسة د.”بستس“ اليوناني.

بدايات صناعة الملابس

وظلت صناعة الملابس قائم على الُمفصل من قبل الخياطين والترزية، وقامت صناعة التريكو من ملابس داخلية، وبلوفرات، وشيلان، وفانلات وجوارب، وغيرها من المصنوعات التي هيمن عليها الأرمن حيث أُنشئت ستة مصانع لهذا الغرض، منها ”مصنع كريديان للتريكو“ عام ١٩٣٧ ومصنع بيير بيديجيان وشركاه لنسيج التريكو في عام ١٩٣٨. ونشطت الصناعات المكملة التي تدخل في صناعة الملابس مثل صناعة الازرار والكلف المختلفة في هذا الخصوص، وظهرت مصانع متعددة منها ”مصنع إخوان بيليجيان“ الذي أُسس في عام ١٩٤٥.

وفي مارس ١٩٥١ تأسست شركة الأزياء الحديثة وهي سلسلة متاجر عرفت باسم محلات (بنزايون – عدس – ريفولي) وكان نشاطها الأساسى الإتجار فى السلع الإستهلاكية والمعمرة والأقمشة مثل المنسوجات والملابس والبياضات والمفروشات والأدوات المنزلية والأثاث المعدني والخشبي. ثم نُقلت تبعيتها إلى المؤسسة المصرية العامة طبقا لقرار رئيس الجمهورية العربية المتحدة رقم ٨٨٧ لسنة ١٩٦٧ الخاص بإعادة تنظيم المؤسسات العامة وحاليًا تخضع الشركة لقانون قطاع الأعمال العام رقم ٢٠٣ لسنه ١٩٩١.

ومع قيام ثورة الضباط الأحرار على النظام الملكي عام ١٩٥٢، بدأ الاهتمام بالصناعات يتزايد وراح القطاع العام يهيمن على صناعة الملابس التي كانت قد ازدهرت في العشرينات والخمسينات تحت جناح القطاع الخاص، واستمرت في العمل بكفاءة في عهد عبد الناصر.

شركة فينوس للملابس

”في سنة ١٩٥٧ أبويا أسس الشركة دي بقوة ٢٥  ماكينة“يقول أ. أحمد رمضان، صاحب شركة فينوس للملابس بالجيزة لــ ”مراسلون“ ويضيف ”وساعتها كان انتاجنا بيتصدر لروسيا وفرنسا في ذلك الوقت“

ويستكمل ”كنتُ في الوقت ده بساعد أبويا في شغل الشركة برغم صغر سني وكان الطلب ساعتها في السوق كبير والعرض والتصنيع قليل…ومكنش في تهريب للملابس من الخارج…فكان شغل الشركة بيكبر لحد ما وصل عدد المكن ٢٠٠ ماكينة.“

في عهد السادات بدأت حصة الانتاج في صناعة الملابس الجاهزة تتزايد داخل القطاع الخاص بينما واصل القطاع العام في التوسع، لأسباب اجتماعية أكثر من كونها أسباب اقتصادية، وظل هذه التوسع يتم بشكل أساسي في قطاعات المنبع داخل الصناعة مثل قطاعات الغزل والنسيج.

الآن تمثل صناعة المنسوجات حوالي ثلث القيمة المضافة للصناعة التحويلية وحوالي ٣٪ من إجمالي الناتج المحلي، ما يجعلها ثالث أكبر مساهم في إجمالي الدخل القومي بعد السياحة وقناة السويس، وماهو نسبته ٢٨٪ من صادرات مصر غير النفطية وذلك بحسب دراسة قام بها دكتور احمد فاروق غنيم دكتور الاقتصاد والعلوم السياسيه جامعة القاهرة.

بالنسبة للسيد أحمد رمضان فإن العام ١٩٩٧/ ١٩٩٨ يمثل الفترة الذهبية في عمر الشركة: ”كانت صادراتنا غالبيتها لأمريكا، ومكنتش أمريكا بتحط في الوقت ده شروط عالية زي الموجودة دلوقتي، وكان المطلوب كتير جدًا لدرجة أن في ناس باعت أراضيها وممتلكتها ودخلت مجال صناعة الملابس للتصدير لأول مرة.“

في تلك الفترة وبالرغم من الطلب المتزايد على الملابس المستوردة من مصر، ”قل الغزل المصري. ومبقاش موجود في السوق وزاد الاحتياج لدرجة إننا بقنا بنستورد غزل من برة وأقمشة أقل جودة عشان نوفي بطلبات التصدير. “ يقول أحمد رمضان.

مع مطلع الألفية بدأ واردات مصر من الغزل والمنسوجات القطنية تتزايد مع زيادة تكلفة تصنيع الملابس وقلة جودتها وما أثر بالسلب على صادرات مصر من الملابس، وبدأت أوروبا وأمريكا، أكبر الأسواق المستوردة للملابس من مصر، في رفع معايير الجودة وشروط القبول، ثم طبقت أمريكا نظام الحصص الـ”كوتة“ على وراداتها من الملابس، وهو النظام الذي يتغير كل عام بين الدول المنتجة للملابس مما قلص من حجم الصادرات المصرية من الملابس لأمريكا لصالح دول أخرى ذاع صيتها في انتاج ملابس عالية الجودة كتركيا والهند وبنجلاديش.

ومع ارتفاع تكلفة المواد الخام واستيراد الغزول من الخارج قل حجم انتاج شركة فينوس من المُصدر للخارج. ثم وقعت مصر اتفاقية الكويز (اتفاقية المناطق المؤهلة صناعيًا) مع اسرائيل التي تعفي المنتج المصري الذي يدخله في انتاجه نسبة من المنتجات الإسرائيلية من التعريفات الجماركية ومن التقيض بنظام الحصص المعمول به، وهو ما يفتح أبواب السوق الأمريكي لمنتجات المناطق المؤهلة صناعيًا، توقفت شركة فينوس تمامًا عن تصدير الملابس للخارج.

”رفضت إن الشركة تشتغل مع الكويز.“ يقول أحمد رمضان معللًا ذلك برفضه التام التعامل مع إسرائيل. ويكمل ” بدأنا نتوجه للسوق المحلي. وبدأ انتاجنا يزيد من الـ NetWear، فانلات قطنية داخلية، وبنطلونات اللاجون، والتيشرتات الخفيفة وغيرها. لحد ما بدأت كميات الملابس المهربة من الصين تزيد في ٢٠٠٥. وهنا بدأ انتاج الشركة يتآثر أكتر.“  

ورغم أن مجلة ”جون أفريك“ الفرنسية توقعت في عام ٢٠٠٩ تحول مصر فى غضون السنوات الثلاث القادمة إلى تنين صناعة الملابس الجاهزة والمنسوجات فى دول حوض البحر المتوسط وربما فى العالم ، إلا أن حجم الواردات من الملابس أخذ يزيد وإن ظل معدل التوازن التجاري يقدر بالموجب حيث كانت صادرات المنسوجات والملابس الجاهزة تتجاوز دائما حجم الواردات حتي عام ٢٠١١/٢٠١٠ إلى أنه ومع حلول عام ٢٠١٢ قل حجم الصادرات المصرية من الملابس الجاهزة أمام حجم الواردات وهو ما جعل معدل التوازن التجاري يقدر بالسالب لأول مرة.

مشكلات السوق المحلي

”السوق المحلي محدود في خاماته“ يقول الدكتور طارق صالح، عميد الفنون والتصميم بجامعة ٦ أكتوبر لــ ”مراسلون“ ويضيف ”ويعتمد على الخامات المحلية من الأقطان اللي غالبيتها بيروح للتصدير كقطن خام. مفيش أصلًا إدارة للمواد الخام. ولا تحديث لماكينات النسيج“

فبحسب دكتور صالح يعتمد السوق المحلي على منسوجات تأتي من جنوب شرق أسيا وهو ما يقلل من نطاق نشاطه الصناعي. ويرى أن أي محاولة لانتاج الخام في مصر لن تجدي نفعًا لأن التكلفة في أبسط الأمور ستتضاعف إلى ثلاث مرات أكثر من سعر المنسوجات المستوردة. ويرجع السبب من وجهة نظره لغياب صناعة مواد الصبغة في مصر، التي تمثل ٤٠٪ من تكلفة المنسوجات وغياب صناعة المنسوجات والأقمشة التي تدخل فيها ألياف صناعية لها نفس خواص القطن.

ومع انتقال مصانع الصبغة من أوروبا المنتج الرئيسي لها لأسباب بيئية إلى منطقة جنوب شرق أسيا، قلّت تكلفة المنسوجات المصنعة هناك لتوافر مواد الصباغة في ذات المكان دون تكاليف النقل والاستيراد مع وجود تقنية عالية في النسيج بالألياف الصناعية، وهو ما يجعل قيمة المنسوجات المستوردة أقل من المحلية ثلاث مرات.

ويلفت د. صالح النظر إلى عدم وجود كفاءة تسويقية للمنتج المصري، ومع سهولة أنظمة الائتمان والبيع والشراء على الأنترنت فقد صار بوسع المستهلك المصري الحصول على منتجات عالمية من الملابس بسعر أقل من الأسعار الموجود في متاجر توكيلات الماركات العالمية.  

ويسلط دكتور صالح الضوء على غياب الاستثمار في صناعة المعدات التجهيزية كمكن النسيج والصباغة، وصناعة إكسسوارات الملابس، هذا بخلاف عدم الاهتمام بعمالة الغزل والنسيج والملابس سواء من زيادة الأجور أو رفع مستوى التدريب المهني الخاص بهم.

مع التردي الذي أصاب الانتاج المحلي للملابس ثم زيادة أسعار الكهرباء علي المنشأت الصناعية تحولت شركة فينوس من صناعة الملابس إلى تقديم خدمات التدريب والاستشارات الملبسية وأصبحت شركة متخصصة في مجال التدريب لصناعة الملابس الجاهزة والنسيج.

”رغم تردي صناعة الملابس المحلية بس مازال في احتياج للعمالة“ يقول أحمد رمضان موضحًا أن هذه العمالة ترتكز في المشاريع متناهية الصغر أو ما يطلق عليها ”مصانع تحت السلم“، وهي مصانع غير مسجلة وتعمل بشكل غير رسمي وتقوض من الفرص المتاحة في السوق أمام الشركات المصرية متوسطة الحجم.

ورغم ذلك يرى أ. أحمد رمضان أن تدريب تلك العمالة غير الرسمية من شأنه أن يحافظ على مستوى صناعة الملابس الجاهزة ويفتح الباب أمام عمال جدد بدل العمال الذين هجروا صناعة الملابس الجاهزة لقلة الأجور وانتشار المهن الخدمية سريعة الربح كالعمل على التكتوك.

لا توجد بيانات دقيقة متاحة حول عدد العاملين في هذه الصناعة، إلا أنها وصلت في بعض التقديرات ما بين ٤٠٠٫٠٠٠ آلاف إلى ١٫٢٠٠٫٠٠٠ كعمالة المباشرة وبين ٨٠٠٫٠٠٠ آلاف و١٫٢٠٠٫٠٠ كعمالة غير مباشرة في القطاعات ذات الصلة.

الموضة في مصر

يتفق دكتور أحمد بيبرس، مدرس قسم الملابس والنسيج بكلية اقتصاد منزلي، جامعة حلوان مع كل من دكتور طارق صالح و أ. أحمد رمضان على أهمية الاهتمام بتدريب العمالة، ويقول  ”مفيش رعاية كاملة للعامل في صناعة الغزل والنسيج“ ثم يضيف مشيرًا إلى إشكالية أخرى تقابل صناعة الملابس المحلية ”ومفيش اهتمام من الأعلام بمصممي الأزياء.“

ومن جانبه يرى د. بيبرس أن المستهلك المصري يفتقد ثقافة الملبس، وتتمثل في الاهتمام بشكل التصميم الداخلي لقطعة الملابس سواء كان تصميم عادي أو رشيق على يلائم شكل الجسم، وتعليمات الغسيل.

ويكمل ”مفيش زي وطني مصري. هل اللبس الفلاحي وحده هو الزي الوطني؟ ولو أقرينا بده يبقى بنتجاهل اللبس البدوي والنوبي. بس نقدر نقول إن في ملامح بتحدد شكل اللبس مصري. فمثلًا حتلاقي الخصوصية دي في التطريز اللي بتمتاز بيه مناطق زي قبائل البدوى ومحافظة الشرقية. وخصوصية اللون الأسود في الحداد مقارنة بدول عربية تانية لون الحداد فيها هو اللون الأبيض.“

بحسب د. بيبرس يميل المستهلك المصري إلى الخط الكلاسيكي والشكل الـ ”Formal“ أو الرسمي في الموضة، مع الانجذاب إلى الماركات العالمية، ثم يختم حديثه قائلًا ”بس نقدر نقول أن السمة المميزة للموضة المصرية هي …الاحتشام.“