إذا كان هناك اعتراف ضمني بالخصوصية الجغرافية وتأثيرها على الجسم السياسي الليبي ، فلماذا الإصرار على قدسية النمط المركزي في الحكم والإدارة؟، وما هو المبدأ الأخلاقي أو القيمة الوطنية التي تمنع من الاعتراف المباشر بالطبيعة المركبة لليبيا ووضع الحلول لها بدلاً من الالتفاف عليها واللهث وراء سراب المحاصصة؟.
لا أسعى في هذه المساحة إلى سرد مزايا النظام الاتحادي وإثبات مدى ملائمته للطبيعة المركبة لليبيا – فقد تجاوز الواقع هذه النقطة-، بقدر ما أسعى إلى تسليط الضوء على طريقة الالتفاف على الحقائق في إدارة العملية السياسية التي تنتهجها النخب المتصدرة، والحلول التلفيقية لقضية التعدد والتنوع الجغرافي بطريقة المحاصصة الجهوية “الشخصية” في التشكيلات الحكومية المركزية المتعاقبة، والتي توحي – من خلال تدافع وتسارع الفئات السياسية والجهوية ومجموعات المصالح حولها –، بأن السلطة ذاتها أصبحت منتهى غاية المتصارعين، على الرغم من الشعارات واللافتات العريضة التي تتغنّى بالوطن والمواطن والقضايا العادلة.
حديث الشعارات والعواطف كانت وسيلة لطمس الكثير من القضايا ومطيّة لتأسيس نموذج سياسي إقصائي؛ فعلى سبيل المثال منذ مرحلة مبكرة جداً تم تصنيف “النظام الاتحادي” في خانة “العيب السياسي”، إذ تم تحريف هذه الفكرة وتحريمها سياسياً ووطنياً وأخلاقياً دون أي اعتبارات عقلانية أو واقعية، ودون حتى مناقشتها وتبيان مضامينها ومزاياها وعيوبها، وترتب عليه بالتالي محاصرة الحديث عن هذه القضية في مستويات النخب وتغييبها عن أروقة السياسة والقرار والحوار، وخسر الليبيون بالتالي مشروعاً وطنياً ومساحة من المرونة وقاعدة من قواعد التعايش والتضامن والمشاركة في بناء الوطن، بسبب استبداد الطبقة السياسية “الأوليقاركية” التي تحتكر المال والسلطة وتقبّض على مفاصل القرار والنفوذ، و تستغل الشعارات والعواطف الوطنية الدافقة ووظّفتها كثيراً لصالحها، وكذلك بسبب تخاذل النخبة المتصدرة التي ترفعت عن مناقشة هذه القضية كي لا تفقد نخبويتها وبريقها وبعضاً من مصالحها، كما لا يمكن أيضاً أن نتجاهل من استغل هذه القضية لأجل مصالح فردية ضيقة، فضاع زخم الفكرة بين استبداد من قفزوا على سدّة القرار وبين سطحية وانتقائية النخب وكذلك استرزاق فئة من الانتهازيين.
الطبيعة المركبة لليبيا كانت تستوجب النظر مبكّراً في النظام الاتحادي الّذي تكون السلطات فيه مقسّمة بين الأقاليم والولايات والمحافظات، بما يتيح التوسع في إنشاء مفهوم للدولة في كل الوحدات من خلال بناء مؤسسات سياسية واقتصادية وتعليمية وثقافية تتوزّع بين أطراف ومراكز البلد، وبما يعكس الغاية التنموية للدولة، دون الاعتماد على ظل سلطة مركزية، ترسّخ لدى كثير ممن يتقلّد أمرها أو يتنافس للوصول إليها أنها غنيمة أو مطيّة للكسب والاحتكار، خصوصاً في ظل الاقتصاد الريعي للدولة.
وبالتالي فإن “المحاصصة المؤسسية” من خلال التوسّع في بناء المؤسسات أفقياً وبناء حكومات محلية مصغّرة تتولّى الجانب الخدمي والتنموي، أولى وأجدى من “المحاصصة الجهوية الشكلية” التي لا ينتفع من وراءها سوى فئات نفعية محددة وتسيء لمفهوم ومعايير الوظيفة العامة، فكيف يمكن تصوّر عمل الوزارات الخدمية في النظام المركزي بعد المحاصصة الجهوية؟ هل – مثلاً – إذا أسندت وزارة الصحة لإقليم أو مدينة ما فإنها ستستأثر بالخدمات الصحية دون البقية؟!، وهل إذا نال إقليم آخر وزارة الإسكان والمرافق فإنه يحتكر قطاع البنية التحتية دون باقي الوطن؟!.
مقوّمات الوحدة الوطنية تظل متاحة، ولكن في سبيل ترسيخها نحتاج إلى تفكير عقلاني واقعي بعيد عن عقلية النفاق السياسي والإغراق في الشعارات على حساب المصالح العامة المشتركة، وأهم الأسباب التي تصنع المصالح العامة المشتركة هو تقدير العامل الجيوسياسي وبالتالي التوسّع في بناء المؤسسات أفقياً، دون احتكار من طرف دون البقية، فلا يمكن أن تكون هناك عجلة تنمية ونهوض وتحديث في ليبيا دون التوسّع في إنشاء مؤسسات للدولة في كل الأقاليم ودعم وتطوير مراكزها الحضرية بدون استثناء.