ما يلي يمكن اعتباره معلومات عامة تسبب ضيقاً في التنفس: في كل عام، تخيم سحابة من الدخان الأسود على مصر معلنة بداية موسم حرق قش الأرز الذي يجلب معه زيادة في أمراض الحساسية والتهابات الرئة. تستمر هذه السحابة في تلويث سماء مصر خلال شهري أكتوبر ونوفمبر، وهو الوقت الذي تشهد فيه المستشفيات زيادة في أعداد المرضى ويختار الآباء الإبقاء على أطفالهم خارج المدارس لتجنب أسوأ مراحل هذا الضباب الدخاني الحارق للحلق.

“نافذة” لم ينتبه أحد إليها

ما يلي يمكن اعتباره معلومات عامة تسبب ضيقاً في التنفس: في كل عام، تخيم سحابة من الدخان الأسود على مصر معلنة بداية موسم حرق قش الأرز الذي يجلب معه زيادة في أمراض الحساسية والتهابات الرئة. تستمر هذه السحابة في تلويث سماء مصر خلال شهري أكتوبر ونوفمبر، وهو الوقت الذي تشهد فيه المستشفيات زيادة في أعداد المرضى ويختار الآباء الإبقاء على أطفالهم خارج المدارس لتجنب أسوأ مراحل هذا الضباب الدخاني الحارق للحلق.

“نافذة” لم ينتبه أحد إليها

وسط هذا التلوث الدوري وجد زوجان مصريين حلاً بسيطاً يتمثل في استخدام “قش الأرز” كمادة أولية في صناعة الورق. في داخل أحد أزقة حي مصر القديمة، بالقرب من مدينة الفسطاط الأثرية، أنشات الأسرة مؤسستها الصغيرة باسم “النافذة”.

عمل الفنان التشكيلي والرائد المجتمعي محمد أبو النجا طوال حياته في الاسكندرية في صناعة الورق اليدوي، وقرر إنشاء مؤسسة “النافذة للفن المعاصر والتنمية” عام 2005 في القاهرة، لإعادة إحياء صناعة الورق اليدوي من المخلفات الزراعية. وبينما السائد هو الورق المعاد تدويره، والذي تعمل عليه العديد من المؤسسات والمبادرات داخل مصر وخارجها، تعمل “النافذة” بمبدأ مختلف.

إذ تقوم المؤسسة بالتخلص من المخلفات الزراعية الضارة بالبيئة مثل ورد النيل وقش الأرز، الذي يعد السبب الرئيسي لظاهرة السحابة السوداء بالقاهرة، واستخدامه في صناعة الورق بشكل يدوي.

“وجدنا أن الفكرة ستعمم الفائدة على المجتمع، فمن ناحية نستطيع التخلص من قش الأرز بصورة لا تضر البيئة، ومن ناحية أخرى سنتمكَّن من مساعدة السيدات اللاتي يعانين من ظروف معيشية صعبة من خلال توفير فرص عمل لهن”، بهذه الكلمات بدأت الفنانة التشكيلية، إيناس خميس حديثها لـ “مراسلون” عن الهدف من تأسيسها وزوجها لمؤسسة “النافذة للفن المعاصر والتنمية”.

وتؤكد خميس أن “النافذة” لا تسعى للربح وأنها مكونة من 7 سيدات يمثلن القوى العاملة لذلك المصنع الصغير، لكن اللافت للنظر أن ثلاثة منهم من ذوات الاحتياجات الخاصة.

التنفس يعادل تدخين علبة سجائر

يقوم المزارعون في مصر منذ 12 عاماً بحرق القش بعد حصاد الأرز. لكن المشكلة تضخمت مع تخصيص مساحات واسعة من الأراضي الزراعية لهذا المحصول تقدّر بنصف مليون هكتار، فلا يجد المزارعون خياراً أسهل للتخلص من كميات القش الكبيرة سوى إضرام النيران فيها. وتفيد وزارة البيئة بأن حرق قش الأرز يتسبب في 42 % من مجموع التلوث الذي تعاني منه مصر خلال هذين الشهرين.

وكان الدكتور خالد فهمي، وزير البيئة، أعلن عن أن الوزارة تتخذ هذا العام استعدادات “حاسمة” لموسم السحابة السوداء وحرق قش الأرز. وأشار إلى أن الوضع “تحت السيطرة” بنسبة أربعين بالمئة. وأضاف “لا يمكن حاليا القضاء على السحابة السوداء بشكل كامل، وهدف وزارة البيئة سيكون التخفيف من حدتها بنسبة 75% هذا العام ثم نكمل في السنة القادمة نسبة الـ 25% المتبقية”.

على الأرض تختلف الوقائع عن تصريحات المسؤولين، إذ تنال “محافظات الأرز السبع” (كفر الشيخ، القليوبية، الشرقية، دمياط، الغربية، البحيرة، والدقهلية) النصيب الأكبر من تلك السحابة السوداء، وكذلك الأمراض التى تخلفها وراءها. ولم تنج محافظة أخرى كالقاهرة من السحابة ولكنها بنسب أقل.

من ناحيتها أشارت منظمة الصحة العالمية في تقرير لها إلى أن مجرد تنفس الهواء في مصر يعادل تدخين علبة من السجائر، وطالبت المنظمة بضرورة البدء في التفكير في كيف يمكننا تحسين نوعية الهواء في مصر  قبل فوات الأوان. 

وبدلا من أن يتحول إلى سحابة سوداء..

بعد مرورك من باب مؤسسة “النافذة” التي انشأها الزوجان المصريان لمعالجة قش الأرز وتحويله إلى ورق، وإلى اليسار من الباب الرئيسي، تجد كومة من قش الأرز تمكث في المياه منذ يومين.

تخطو سيدة ثلاثينية بابتسامة وشعر أسود معقود خلف رأسها، أسفله ملابس متهالكة من أثر العناء، تدعى “فاطمة”، تحمل كتلًا كبيرة من قش الأرز وتلقي به تحت نار متوهجة تقول: “بنسيب قش الرز يتطبخ ساعتين أو تلاتة، بعدها نغسله ونطحنه نص ساعة عشان يبقى عجين، بعدها نضعه في حوض مصنوع من الرخام ثم نضعه على مصفاة حديدية ونقوم بتثبيتها على الحائط”.

تستطرد شارحة أسلوب العمل: “بنمرر إسفجنة مبللة على المصفاة عشان الورق ينفصل عنها ويلزق فى الحيطة وبعدين بنسيبه ينشف ولما الورق بينشف بنطبع عليه اشكال ملونة”.

تلفت هذه السيدة إلى أن منتجات المعمل الصغير لا تقتصر فقط على الورق، بل ينتج علب هدايا، بطاقات الأعياد والمناسبات بجميع انواعها، “شابوهات” الابجاورات و”كشاكيل”، مؤكدة على أن المؤسسة تقوم بشراء القش من التاجر بثلاثين جنيه للزكيبة”.

“النافذة” كمبدعٍ الاجتماعي

بدأت “النافذة” نشاطها بتدريب متطوعين من جمعيات أهلية مختلفة،على صناعة الورق اليدوي، من خلال سلسلة من ورش العمل، خاصة في المناطق الفقيرة في القاهرة حيث ترتفع نسب البطالة، وذلك لحرص أبو النجا على تعليم هؤلاء وتوفير فرص عمل ومصادر دخل غير تقليدية لهم، خاصة النساء.

عن منتجات المؤسسة، تقول إيناس خميس: “تتعدد منتجاتنا من أدوات مكتبية ومذكرات وإطارات صور وملفات، إلى حقائب هدايا ووحدات إضاءة وبطاقات معايدة وغيرها” مضيفة أن الورق اليدوي يتميز بصلابته عن الورق المعاد تدويره، وهو كذلك صالح للأغراض العملية كالطباعة.

ويحرص مؤسسو “النافذة” على إتاحة فرص عمل لأصحاب الاحتياجات الخاصة، حيث يضم فريق العمل عدد من الصم والبكم. 

إلى جانب ذلك، تعتمد “النافذة” بشكل أساسي على متطوعين أجانب، يساهمون في تحقيق أهداف المؤسسة بشكل عملي. وتروّج لمنتجاتها في المكتبات الكبرى في القاهرة، والمعارض المحلية والدولية، وكذلك على الإنترنت من خلال صفحة “مدار” على Facebook، والتي تساند المبادرات المحلية التي تحافظ على البيئة.

وذكرت إيناس أن زوجها محمد أبو النجا فاز بزمالة منظمة “أشوكا الوطن العربي” كمبدع اجتماعي عام 2007، والتي ساعدته أيضا في توفير متطوعين لـ”النافذة”، ووفرت له تغطيات إعلامية للترويج لفكرة “النافذة” ومنتجاتها.

البعد عن الحكومة “غنيمة”

على الرغم من ذلك، تواجه “النافذة” العديد من الصعوبات، أوّلها عدم استيعاب المجتمع لقيمة الورق اليدوي، بسبب اختلافه عن الورق العادي وسبب أهميته، وبسبب ارتفاع أسعاره نسبيا عن الورق العادي.

ومع ابتكار “النافذة” أشكال جديدة لاستخدامات الورق اليدوي، يظل الطلب المحلي على منتجاتها أقل بكثير من الطلب الخارجي، والذي يشكل المصدر الأساسي لدخل المؤسسة على حد قول إيناس، اذ تقول “الحالة الاقتصادية في مصر، خاصة بعد الثورة، تؤثر سلبا على سوق الورق اليدوي، أصبحنا نعتمد على اوقات الاعياد والمعارض الأجنبية في مصر لبيع منتجاتنا.”

“النافذة” هي الجهة الوحيدة في مصر التي تنتج ورق يدوي من المخلفات الزراعية ومع ذلك لم تلقٍ أى اهتمام من مسؤول في الدولة بالرغم من إعلان وزير البيئة خالد فهمي عن استعدادت لمواجهة خطر السحابة السوداء، جاء من ضمنها “خلق سوق رائج تجاريا للقش ودعم صغار جامعي المخلفات الزراعية والمتعهدين بشراء معدات جديدة تساعدهم على تجميع أكبر كمية من قش الأرز من الفلاحين، عقب جني المحصول من خلال قروض ميسرة بالتعاون مع الصندوق الاجتماعي”.

إلا أن “النافذة” التي شاركت فى مسابقة “BBC World Challenge” لعام 2011 ضمن 650 مؤسسة حول العالم وحصدت المركز 12 على مستوى العالم، لا تعول كثيرا على دعم أي من الحكومات المتعاقبة على حكم مصر منذ انشائها من عشر سنوات.

وتعلق مديرة المؤسسة قائلة: “جلت على كتير على المؤسسات الحكومية ولم يلتفت إلينا احد.. لكن على كل حال، وبإختصار، البعد عن الحكومة غنيمة!”.