بعد الثورة المصرية في يناير/ كانون ثاني 2011 صدر كتاب “البغاء الصحفي” لأشرف عبد الشافي (دار نشر ميريت، 2012)، رصد فيه مواقف الصحفيين ورؤساء التحرير، المؤيدين لحسني مبارك، والذين تحولوا لثوار بعد سقوط نظامه (1981-2011).

بعد الثورة المصرية في يناير/ كانون ثاني 2011 صدر كتاب “البغاء الصحفي” لأشرف عبد الشافي (دار نشر ميريت، 2012)، رصد فيه مواقف الصحفيين ورؤساء التحرير، المؤيدين لحسني مبارك، والذين تحولوا لثوار بعد سقوط نظامه (1981-2011).

الكتاب كان الجزء الأول من “فودكا”، وقد جاء بما يتناسب مع الأجواء الثورية والتطهرية وقتها، حسب تعبير المؤلف، لكن كتابه الجديد مختلف. يقول أشرف :”ليس عن النميمة أو لفضح مؤيدي السيسي لصالح الإخوان المسلمين، بل هذا الكتاب عن شخصيات تحوّلت وصارت روائية من وجهة نظري، وللصدفة تنتمي هذه الشخصيات للجماعة الصحافية”. كما يرفض عبد الشافي أن يصنف كتابه ضمن كتابات “النميمة”، حيث يرصد رحلته الشخصية داخل عالم الصحافة، وتحليله الخاص لآراء ومواقف بعض نجوم هذا العالم.

سيجد قارئ “فودكا” نفسه أمام الكاتب محمد حسنين هيكل (1923)، المقرب من جمال عبد الناصر وناصحه الأمين. لعب هيكل الدور نفسه مع السادات، لكن الود لم يَدُم، أخذ مسافة من مبارك ليعود بعد الثورة على نظامه ليلعب أدوارا عدة كان آخرها نصيحته للسيسي بالترشح للرئاسة. هو “رجل لا يمرر الكرة” حسبما يقدمه عبد الشافي. لا يترك فرصة لمن جاؤوا بعده من أجيال صحفية مختلفة، للنزول لملعب يحتكره وحده.

كما يرسم مشاهد لمحاولات تقرب الجميع من نظام مبارك، سواء الكتّاب ورؤساء تحرير الجرائد الخاصة والحزبية والحكومية، وخطوات مؤسسو الجرائد من رجال الأعمال نحو جمال مبارك كذلك، وخطوات خطاها آخرون تجاه مكتب الإرشاد أيام حكم محمد مرسي.

يعتبر مؤلف “فودكا” أن الروائي المصري فتحي غانم (1924- 1999) هو الكاتب النموذجي لتناول عالم الصحافة. كان غانم رئيسا لتحرير عدة مجلات وصحف، ولكن تناوله للصحافة كان يتم بشكل فني عبر رواياته، وأشهرها “زينب والعرش” (1973)، وليس ضمن كتابين عن أوضاع الصحافة في مصر كما فعل أشرف.

يتحدث عبد الشافي هنا لـ (مراسلون) عن أوضاع الصحافة بشكل لا يخلو من إنتقائية، حسبما قدمها في كتاب، حيث لجأ لتكثيف حياة “أبطال” كتابه في مواقف أو عدة مقالات نشرت في أوقات مختلفة، ليؤكد مرة أخرى أن دوافعه كانت درامية وفنية، وليست أخلاقية أو مثالية!

كيف كنت تتوقع تأثير هذا الكتاب؟

لا أريد أن يُشهِر كتابي بأحد، لستُ نبيا أنا كاتب.. لهذا حاولت ألا أقدم حكماً. وجد بعض القراء في “البغاء الصحفي” إدانة لهؤلاء الصحفيين، رغم أنني كنت أقدم نسقا. صدر الجزء الأول في فترة مختلفة وكان لدي هاجس الإصلاح، ورغبة في النقد دون أن أكون جارحا. أما في الكتاب الجديد فالمسألة بينية، الفودكا كان تعبير فيه كل شيء، مشروب حرام في نظر البعض وممتع أو لاذع بالنسبة لآخرين.. أي أنها من الممكن أن تكون كتابة ليست مهنية، وكنت أعرف أنني أوظف الكتابة لتقودني عبر الطرق الوعرة، حتى أهزم كل هذا الجبروت.

ما دافعك لاختيار شخص، هل لأنه صار شخصية روائية من وجهة نظرك؟

محمد فودة ليس مجرد موظف سابق بوازارة الثقافة المصرية، لكنه يمثل مجتمعا كاملا. سبق أن سجن فودة بعد محاكمته في قضية كسب غير مشروع في العام 2002، وقد تورط في هذه القضية محافظ الجيزة السابق ماهر الجندي، كما كان بطلا لفضيحة أخيرة يحاكم بسببها حاليا مع صلاح هلال وزير الزراعة في حكومة إبراهيم محلب. تأملت ودرست حياة فودة، كما تعلمت من فتحي غانم، وبدأت في البحث عن خيوط الدراما، خاصة أنه كان متزوجا من الفنانة غادة عبد الرزاق. شخصية جذابة كأن ما كنّا نراه في الأفلام والمسلسلات يتحقق أمامنا.

ترصد استخدم الصحافة كوسيلة يحمي بها بعض رجال الأعمال أنفسهم، ولنضع في الإعتبار أنهم سيظلون أطرافا أساسية لبناء أي مؤسسة إعلامية حيث لا يمكن فعليا أن يكون للصحفيين مؤسساتهم الخاصة في مصر. كيف تنظر لمسألة حرية الصحافة واستقلالها؟

بعد نشر الكتاب وجدت أن إبراهيم عيسي يدافع عن رجل الأعمال صلاح دياب، ويصفه بمؤسس صحيفة “المصري اليوم”، حينما كان محبوسا على ذمة تحقيقات النيابة (تمّ مداهمة منزل دياب في 8 نوفمبر/ تشرين ثاني الماضي، وبعد ضبط سلاح غير مرخص وذخيرة تم احتجازه). وجدت أن هذا الكاتب صار  ينتمي لطبقة رجال الأعمال، فتأكدت من صدق ما كتبت. بالنسبة لحرية الإعلام لا أعرف ما حل هذه الإشكالية، لكن يفترض إذا كان هناك رجل أعمال وله مصالحه الخاصة فيجب أن يمارسها بعيدا عن الجريدة، حيث يفترض ألا تخضع الكتابة لأوامر ومصالح رجال الأعمال، لأنها فعل مقدس، يحدد إذا كنّا نعيش في بلد ديمقراطي أو تحت حكم ديكتاتور مستبد. إذا تمكن رجل أعمال من شراء أقلام الكتاب فلا تحدثني عن حرية أو استبداد النظام الحاكم. إذا تحوّل الكُتّاب إلى حراس إمبراطوريات رجال الأعمال فهذه هي النهاية.

تناولت في كتابك مسألة مناصرة كل من خالد صلاح، رئيس تحرير “اليوم السابع”، ورجل الأعمال أحمد أبو هشيمة لحكم الإخوان المسلمين، وهذا يحدث، كما كتبت عن تأييد “صلاح” لترشح السيسي للرئاسة بأغنية.. ما دلالة هذا، وهل ترى أن الجمهور لا ينتبه لهذه التحوّلات؟

الناس لا ترى جوانب عديدة من المشهد، لأن كل من يتحكم في النوافذ الإعلامية لديه القدرة على تحريك الناس عبر عملية الزنّ اليومي، حيث يخضع المشاهد لتأثير كل هذه الأسلحة، وأرى أن دوري أن أكشف كل هذا. الكاتب لابد أن يخبر الناس أن المسألة ليست سياسة وإنما صفقات مالية خفية. كان وراء مرسي، مثلا، تحالف كبير من رجل أعمال، رئيس تحرير، ورجل أعمال آخر من دولة أخرى (قطر) تناصر هذا الحكم الإسلامي المعادي للحرية والفن والإبداع.  

قد يعتبر البعض أن ما كتبته نميمة لكونه يتقاطع مع سيرة حياتك، خاصة أنه لم يصدر كرواية.. ما تعليقك؟

خرجت من تجربة “البغاء الصحفي” بحالة حزن، شعرت أن الناس تريد أن تنكل بي، ووجدت أن كل الكلام عن تطهير المهنة والمؤسسات الصحفية الكبرى كان وهماً. لا أتاجر بهذا، لستُشهيدا أنا اخترتُ ودخلتُ هذه التجربة. حينما كتبت “البغاء” كنت أريد أن أفتح نقاشاً، وأن أذكر بالموقع السابق لكل من تحدث باسم الثورة حينما كان مقربا من نظام مبارك. حاولت أن أبتعد عن هذا الموضوع، كتبت “صلاة الجمعة” (2013)، لكن الدراما جذبتني مرة أخرى. حدث ذلك حينما توفى عبد الله كمال، وذهبت للعزاء مع الشاعر إبراهيم داود، لمشاهدة عزاء بطل كتابي السابق. وجدت أن من كانوا يهاجمونه يعتبرونه كاتبا عظيما ويتلقون التعازي من الآخرين، وقتها قررت أن أكتب، وعشت هذه المتعة لمدة ثلاث سنوات، أبحث، وأقرأ في مجالات لم أكن أعرفها مثل الموضة أو أعيد قراءة كتب الفلسفة. عشت تجربة كبيرة دون دراما أو إدعاء بأنني شهيد..هكذا كنت أتخلص من الكراهية، لأنها مثل الحب الزائد، تسبب العمى. كنت أتعلم ألا أكره أو أحقد، القدر وضعني في هذه التجربة وهذا الصراع، ولم يكن لدي إلا الكتابة وعليّ أن أستمتع بها.

هل فكرت أن تحاور بعض الشخصيات الوارد ذكرها في الكتاب، أن تبحث عن إجابات بشكل مباشر، أو حتى تتأكد من بعض المعلومات؟ هل تعتبر أن المقال وثيقة، ماذا لو كان التغيير لأنهم مروا بتجارب صعبة أو توصلوا لفهم أدق للأمور؟

لم يكن عندي أي من هذه الهواجس. المقالات تعبر عن تراكم يسعى الكُتّاب لإنجازه، لكن من رصدتهم صار الواحد منهما متوحشا، وهو نوع من التوحش الرأسمالي. في هذا الكتاب لم آخذ موقفا انطباعيا، لم يكن لدي رغبة في التأكد أو مراجعة هؤلاء الأشخاص، وإذا كانوا مروا بتجارب لافتة فلم يكتب أحد منهم عنها، وهذا حق القارئ. لازلت أتعامل معهم كشخصيات روائية، و أعتبر أن “ودع هواك” (2008) جزء من حياتي والكتابة على حد سواء، وكذلك كان “البغاء الصحفي” و”فودكا”. بطل روايتي الوحيدة صحفي يعمل بجريدة حزبية، ويضطر للعمل بوكالة البلح، حيث تباع الملابس سابقة الاستخدام بأسعار زهيدة. تتقاطع هذه الشخصية مع حياتي في أكثر من نقطة، فقد كنت أعمل بجريدة “العربي” الأسبوعية، الصادرة عن حزب العربي الناصري، حيث تمّ التحقيق معي لأن صورة مصطفي النحاس، زعيم حزب الوفد قبل حلّ الأحزاب عام 1954، نشرت بحجم أكبر من أخرى لعبد الناصر!