تحولت رحلات الصيادون من أبناء محافظة الفيوم، للبحث عن لقمة العيش، في بحيرة ناصر بمحافظة أسوان، التي تبعد أكثر من 825 كيلو متر عن الفيوم، إلى رحلات للموت، بعد أن اضطروا إلى هجر بحيرة قارون التي اعتادوا الإصطياد منها، بسبب إرتفاع معدلات التلوث في مياهها، ونفوق الأسماك.
تحولت رحلات الصيادون من أبناء محافظة الفيوم، للبحث عن لقمة العيش، في بحيرة ناصر بمحافظة أسوان، التي تبعد أكثر من 825 كيلو متر عن الفيوم، إلى رحلات للموت، بعد أن اضطروا إلى هجر بحيرة قارون التي اعتادوا الإصطياد منها، بسبب إرتفاع معدلات التلوث في مياهها، ونفوق الأسماك.
معاناة شديدة يعيشها الصيادون، من أبناء المحافظة، والذين يتمركزون في قرية “شكشوك” الشهيرة، التابعة لمركز أبشواي، حيث يعتمد أبنائها على دخل مهنة الصيد، التي كانت تدر عليهم خيرا وفيرا، مثلما يؤكد مختار عبدالكريم، البالغ من العمر 52 عاما، وله 4 أبناء ذكور، إثنين منهما في مراحل تعليمية مختلفة، وآخران يعملان في الصيد، بالإضافة إلى 5 فتيات يتولى مسؤولية تربيتهم، من دخل المهنة.
ويقول عبدالكريم “كنت سعيد عندما اشتريت مركب صيد في التسعينيات، بعد أن كنت أعمل في الصيد مع والدي، هنا في بلدتي، ولم أكن في حاجة للسفر مئات الكيلوات، وكان الرزق وفير، حتى تمكنت من شراء منزل يأويني وأسرتي عام 2000 م من دخل الصيد، ولكن الحال تبدل مع حلول عام 2005 م تقريبا، بتلوث مياه بحيرة قارون”.
ويضيف عبدالكريم، اضطررت لخوض رحلات لمسافات طويلة إلى بحيرة ناصر مع ولدي، للعمل هناك، بحثا عن الرزق، بعد أن ضاق الحال في بلدتي “شكشوك”، بعد أن كنت أترك الشباك في المياه، لتخرج كميات كبيرة من الأسماك تتراوح بين 40 و60 كيلو من أسماك البوري والفحار، وذلك بعد أن كانت تصل قبل ذلك إلى 200 كيلو من سمك البلطي يوميا، قبل أن يتدهور الحال بسبب تلوث مياه بحيرة قارون. مشيرا إلى أنه كان يدر دخل يومي يتراوح بين 300 و400 جنيها في يوم عمله.
صيادون مشردون
“ما بين 20 إلى 30 ألف صياد من أبناء الفيوم، معرضون للتشرد، بسبب تلوث مياه بحيرة قارون، وإنهيار الثروة السمكية، ونفوق الأسماك في مياه البحيرة، حيث توجه منهم قرابة 5 آلاف صياد إلى بحيرة ناصر بمحافظة أسوان، للعمل فيها مؤخرا”، وذلك حسب ما يؤكده علي عبدالحفيظ، نقيب الصيادين بالفيوم، مضيفا: “هناك الكثير من الصيادين تركوا المهنة، واشتغلوا بوابين وفي أعمال أخرى، بسبب ما أصاب البحيرة من تلوث، وتردي أحوالهم المعيشية، حيث أصبحت البحيرة ميتة، وهرب الصيادون منها، ولو كنا نستطيع العمل في مهن أخرى لفعلنا”.
تدمير البحيرة
واتهم نقيب الصيادين، مسؤولي هيئة تنمية الثروة السمكية، بجلب نوع من أسماك الجمبري، يدعى “الجمبري أبو ليفة”، وهو لا يكبر في الحجم ويستخدم كأعلاف فقط، واستحوذ على الأوكسجين، وقضى على الطحالب في بحيرة قارون، مما أدى لنفوق الأسماك الكثيرة من أنواع السردين والثعبان والبوري والدنيس والموسى، مضيفا: “أصبحنا نصطاد أسماك عفنة من البحيرة، ونريد أن نعرف إذا كانت هناك سموم في البحيرة بسبب تلوثها، من عدمه”.
ويشير نقيب الصيادين إلى أن مسؤولي هيئة تنمية الثروة السمكية بالفيوم، أبلغوهم مؤخرا، بأنهم لن ينزلوا زريعة في البحيرة بسبب تلوثها.
الأمونيا الخانقة
من ناحيتها أرجعت هيئة تنمية الثورة السمكية تلوث بحيرة قارون إلى الصرف الصحي. فيوضح المهندس صلاح نادي، مدير عام منطقة وادي النيل بالفيوم، التابعة لهيئة تنمية الثروة السمكية، أن بحيرة قارون تلوثت بسبب إختلاط مياهها التي تصلها من مياه الصرف الزراعي للأراضي بكميات كبيرة من مياه الصرف الصحي، خاصة وأن البحيرة مغلقة، وليس لها متنفس لتصريف مياهها، وتجددها.
ويؤكد نادي، أن معدلات التلوث في مياه البحيرة، أصبحت مرتفعة جدا، ما نتج عنها زيادة عنصر الأمونيا في مياهها، والذي يعد عنصر سام للأسماك، وتابع نادي قائلا: “بدأنا في تنفيذ مشروع تطوير المصارف الرئيسية المغذية للبحيرة، بإستخدام الحفارات العائمة على صندل، بهدف زيادة تدفق مياه الصرف الزراعي المغذي للبحيرة، والتقليل من حدة التلوث، ووقف الإرتفاع المستمر لدرجة الملوحة فيها”.
حضانات وسيطة
ما الحل إذن؟ هيئة تنمية الثورة السمكية، وفقا لنادي، جهزت موقع حضانات بقرية “أبو شنب” بمركز أبشواي، لإستقبال جميع أنواع الزريعة من الأسماك، حفاظا عليها من تلوث مياه البحيرة، والوصول بها إلى حجم “الإصباعيات”، ثم يتم تزويد البحيرة بها، حتى لا تنفق الزريعة وهي صغيرة في حالة إنزالها مياه البحيرة بمجرد وصولها الفيوم.
كما تعرض المنطقة على محافظ الفيوم حاليا، تخصيص مساحات من الأراضي الإستصلاح الزراعي، بمنطقة وادي الريان في نطاق المحافظة، لصالح الصيادين العاملين ببحيرة قارون، تعويضا لهم عن خسائرهم والأضرار التي لحقت بهم، خلال الفترة الماضية، لحين تنفيذ منظومة الصرف الصحي الجديدة على البحيرة، ومعالجة المياه التي تصب فيها.
هجرة بحيرة قارون
الصياد عبد الكريم يصف وقائع الهجرة إلى بحيرة ناصر قائلا: “بدأنا في هجر البحيرة في عام 2007 م، واصطحبت نجلي في رحلة طويلة إلى بحيرة ناصر، لصيد الأسماك بحثا عن لقمة العيش، حيث نمكث شهرين، ثم نعود إلى الفيوم، للقاء الأهل، بعد أن تمر أيامنا بصعوبة في أسوان، حيث تتكلف الرحلة 200 جنيها، قيمة المواصلات ذهاب فقط”.
ويوضح أن الصياد يشتري شباك وغزولات بتكلفة تصل إلى 10 آلاف جنيها، ليستخدمها على مدار 6 أشهر، ثم يضطر لتغييرها، وقد يتكلف في رحلته شراء مركب كبير بموتور ثمنه يتراوح بين 15 إلى 30 ألف جنيها، حتى يحصل على ربح بعد تكاليفه، يعود به إلى عائلته بعد شهرين من رحلته.
ويشكو الصيادون، من تعرضهم للاستغلال من التجار في بحيرة ناصر، حيث يشترون منهم كيلو السمك الشبار بجنيهان ونصف فقط، على الرغم من أن سعره للجمهور يبلغ 10 جنيهات، كما يشتري التجار منهم السمك البلطي بـ 8 جنيهات فقط، مقابل بيعه للجمهور بـ 15 جنيها للكيلو، ويشير عبدالحكيم، إلى إرتفاع أسعار المواد التموينية في أسوان، مما يزيد من تكاليف رحلتهم.
رحلة الموت
رحلة الصيادين الفيوميين إلى بحيرة ناصر في جنوب البلاد ليست بالسهلة. فهم يقطعون نحو ٦٠٠ كلم على طرق خطرة. شريف عيد ميزار، البالغ من العمر 60 عاما، لديه قصة مؤلمة، فقد فقدَ إثنين من أبنائه الشباب، في حادث إنقلاب سيارة ميكروباص، كانت تقلهم من بين 32 صيادا، من أبناء “شكشوك”، راحوا ضحية الحادث، وهم في طريقهم إلى محافظة أسوان، للصيد في بحيرة ناصر، العام الماضي.
ويقول “شريف” أنه بدأ في عام 1998 م، في اصطحاب نجليه، إلى أسوان، للعمل في بحيرة ناصر، بحثا عن الرزق، وكانا “يساعداني في تحمل أعباء المعيشة، والإنفاق على العائلة، وبعد أن أصابني المرض في عام 2005 م، إستمرا في السفر إلى أسوان، لتحمل مسؤولية العائلة.
“كنا نعلم بخطورة الرحلة عبر طريق أسيوط الغربي الصحراوي، حيث وقعت كثير من الحوادث، راح ضحيتها، صيادين آخرين بين الحين والآخر، ولكننا كنا نؤمن بأنها أعمار، والكل يسافر ويتحمل المخاطر من أجل لقمة العيش، التي تجبرنا على السفر”..هكذا وصف ميزار، معاناتهم، وأثناء حديثه، ارتسم الحزن على وجهه، وهو يقول : لقد فقدت نجلي (أحمد-26 سنة)، متزوج ولديه طفل يبلغ من العمر ثلاث سنوات ونصف، و(عمر-23 سنة)، والذي توفي مع شقيقه بعد 4 أشهر من زواجه، في حادث أليم بطريق أسيوط الغربي الصحراوي، ليلقيا حتفهم، من بين 32 صياد توفوا في حادث سيارة ميكروباص.
وينتقد الصياد المكلوم، ضعف التعويضات التي حصلوا عليها من المحافظة، حيث حصلت أسرة كل متوفي على 10 آلاف جنيها، دون أن توفر لأي من أشقائهما، فرص عمل، لإستكمال مسيرتهما في الإنفاق على الأسرة، التي لا تجد من يعيلها ماديا.
حقوق مهدرة
ويشكو نقيب الصيادين بالفيوم، من عدم تغطية أبناء المهنة بالتأمين الصحي، ولا التأمين الإجتماعي، ولا يستفيدون من القوافل الطبية التي تسيرها وزارة الصحة، كما يتضرر من تجاهل المسؤولين بهيئة الثروة السمكية ومحافظ الفيوم لقضيتهم.
وختم نقيب الصيادين كلامه، واصفا حال البحيرة في كلمات بسيطة قائلا: “لم يعد السمك البركاوي، هو الأفضل لدى المواطنين، بل تحول الجميع إلى تناول الأسماك من المزارع، أو التي تنتجها بحيرة وادي الريان، لنقاء مياهها، وعدم تلوثها”.
تلوث شامل
فيما يرى الأستاذ الدكتور ديهوم الباسل، أستاذ الطفيليات بكلية العلوم بجامعة الفيوم، أن التلوث الكيميائي، الذي أصاب مياه بحيرة قارون، ناتج عن تصريف مياه الصرف الصحي على المصارف المغذية للبحيرة، من القرى المجاورة، والتي لا يوجد بها صرف صحي، فضلا عن الصرف الصناعي، الناتج عن مصانع السكر، والأملاح، ومعامل الجامعة التي تصب في البحيرة لأنها الخزان الرئيسي، وكذلك مياه الصرف الزراعي، المعبأة بالنترات والأمونيا.
ويضيف الباسل، أن البحيرة تلوثت أيضا، بالتلوث البيولوجي، الناتج عن النقل الخاطئ للزريعة، وما ينقل معها من طفيليات، ورخويات ليس لها قيمة إقتصادية سوى المنافسة على الغذاء والأوكسجين بالبحيرة، مما يؤدي لنفوق الأسماك.
لكن الباسل حمّل أيضا الصيادين مسؤولية الصيد الجائر للأسماك بطريقة الجر، وعدم الإلتزام بمواعيد غلق البحيرة، فضلا عن عدم تفرغ شرطة المسطحات المائية للإشراف على تنفيذ قرارات لجان التنمية للثروة السمكية.