ليبيا، حسب مدير الاستخبارات المركزية الأميركية (السي آي أيه) جون برينان، مثلها مثل سوريا والعراق واليمن، “الحل العسكري مستحيل في أي منها” وذلك بالنظر إلى حجم الدمار الهائل الذي عصف بها، فصار من الصعوبة تخيل وجود حكومة مركزية قادرة على ممارسة سلطتها وسيطرتها على كامل الأرض ضمن حدودها.

كان جون برينان يتحدث في مؤتمر حول الاستخبارات نظمته جامعة جورج واشنطن في العاصمة الأميركية في 27 تشرين اول/أكتوبر المنصرم.

ليبيا، حسب مدير الاستخبارات المركزية الأميركية (السي آي أيه) جون برينان، مثلها مثل سوريا والعراق واليمن، “الحل العسكري مستحيل في أي منها” وذلك بالنظر إلى حجم الدمار الهائل الذي عصف بها، فصار من الصعوبة تخيل وجود حكومة مركزية قادرة على ممارسة سلطتها وسيطرتها على كامل الأرض ضمن حدودها.

كان جون برينان يتحدث في مؤتمر حول الاستخبارات نظمته جامعة جورج واشنطن في العاصمة الأميركية في 27 تشرين اول/أكتوبر المنصرم.

والحل الممكن حسبه، يفترض ألا يتم التوجه مباشرة، في الوقت الراهن، باتجاه البحث عن “تسوية نهائية”. بل ينبغي انتهاج استراتيجية “الخطوات الصغيرة” من خلال السعي أولاً إلى “خفض درجة التوتر لخفض حدة النزاع. ثم بناء الثقة بين الأطراف الراغبين فعلاً بالتوصل إلى تسوية سلمية”.

بالنسبة لليبيا، كوني أحد مواطنيها ومطلعاً على تفاصيل أزمتها التي تشظت أزمات متقاطعة، يبدو تحليل مدير السي آي ايه دقيقاً إلى حد كبير بشأن استحالة الحل العسكري الحاسم بالمعنى الشامل على كامل الأرض الليبية. لكن وصفته للحل بانتهاج سياسة “الخطوات الصغيرة” تشبه توصيف أسبرين لمصاب بالسرطان.

إذ أن الخطوات الصغيرة، المندرجة في سياق “خفض درجة التوتر وخفض حدة النزاع وبناء الثقة بين الأطراف الراغبين فعلاً بالتوصل إلى تسوية سلمية” لن تحقق الحل مهما كانت قوة تدخل المجتمع الدولي وضغوطاته الدبلوماسية كما هو الحال مع برناردينو ليون الذي كاد يصل إلى حل سياسي بتوقيع جميع أطراف النزاع.

وحتى لو تحقق إنجاز الاتفاق السياسي بتوقيع الجميع سوف لن يصمد على أرض الواقع. لأن السياسيين الذين وقعوه لا يملكون سلطة القرار على أمراء الميليشيات المسلحة على خلفيات متباينة. فواقع النزاع على الأرض، كما أتابعه صحفياً ومحللاً منذ 17 فبراير 2011،غير قابل، في ظني، في الوقت الراهن، للحل السياسي.

صحيح ألا حلاً عسكرياً حاسماً يشمل كل ليبيا، لكن صحيح، أيضاً، ألا حلاً سياسيا قبل أن يتمكن طرف من هزيمة الطرف الآخر. أو أن يسلم الأطراف بأن لا أحد يستطيع أن يهزم الآخر بعد أن يكونوا قد استنزفوا بعضهم البعض، أو أن تتدخل قوة عسكرية خارجية متفوقة على جميع الأطراف وتفرض حلاً سياسياً على الجميع.

هذا ما حدث عندما تدخلت القوات السورية في لبنان لإنهاء الاقتتال الأهلي وفرض “اتفاق الطائف” على أمراء الحرب، وعندما تدخلت القوات الفرنسية في ساحل العاج وأفريقيا الوسطى. وها نحن نشاهد اليوم تدخل “التحالف العربي” جارياً  في اليمن وهو الذي أجبر تحالف الحوثيين وقوات الرئيس المخلوع على قبول القرار الدولي دون شروط بعدما أدركوا أنهم منهزمون.

في ليبيا، كان واضحاً، بعد تدخل حلف الناتو لنصرة المتمردين المسلحين ضد كتائب القذافي، أن الحسم العسكري هو الحل بالنظر إلى قوة الناتو العسكرية الجبارة. أما في واقع الصراع العسكري القائم في ليبيا، بعد خروج الناتو من المشهد، فإنه أشبه بحروب صغيرة متشظية في بقع جغرافية متباينة، في حالات كثيرة لا رابط بينها.

بهذا المعنى الحالة الليبية مفارقة لما يحدث في سوريا والعراق واليمن. والذين يحللون الوضع الليبي من الخارج، بما فيهم مدير السي أي أيه، لا يفقهون تفاصيله الاستثنائية الخاصة. فخارطة النزاع المسلح ليست محددة، كما هو الحال في سوريا بين نظام بشار الأسد والمتمردين عليه ونظامه بغض النظر عن جزئية تنظيم الدولة الإسلامية.

وفي اليمن يدور الاقتتال بين “شرعية” الرئيس هادي المدعوم عسكريا من “التحالف العربي”  وتحالف الحوثيين مع قوات الجيش الموالية لعلي عبد صالح. وفي العراق الحرب على أشدها بين قوات الحكومة الشرعية المدعومة من الغرب وإيران في مواجهة مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية.

لكن واقع الأمر في ليبيا مختلف. إنه سريالي على نحو ما. فالنزاع العسكري ليس محدداً في قوتين مركزيتين قد يحسمان قرار الحرب والسلم. فما يحدث من نزاع مسلح في غرب ليبيا يختلف في طبيعته ومسبباته عن طبيعة النزاع المسلح ومسبباته في شرقها، وعنه في جنوبها.

صحيح هناك طابع عام يغلف الأحداث، لكنه لا يُفسر كل شيء. الطابع العام الظاهر هو صراع على السلطة بين مشروع القوى الإسلامية (بتسمياتها المختلفة) لحكم الدولة الليبية وفق أيديولوجيتهم الدينية وبين القوى المدنية الرافضة للسيطرة الدينية على الحياة السياسية لدولة ليبيا المنشودة.

لكن من حيث الوقائع الجارية، نجد النزاع في المنطقة الغربية يعكس تنافسا عنيفاً على النفوذ السياسي السلطوي بين مليشيات مصراتة ومليشيات الزنتان اللتين كانتا تتقاسمان السيطرة على طرابلس المدينة/العاصمة. كانت مليشيات مصراتة تسيطر على شرق العاصمة فيما تسيطر ميلشيات الزنتان على غربها، حتى جاء اجتياح كتائب مصراتة المتحالفة مع الميليشيات الإسلامية (اخوان، جهاديون، سلفيون) لطرابلس، وطردها لمليشيات الزنتان خارج العاصمة. لتنشب حرب “داحس والغبراء”. قبائل مع الزنتان وأخرى مع مصراتة، متغذية على احتقانات قبلية وجهوية قديمة.

أما الجنوب، الذي كأنه لا يقع في ليبيا، فهو واقع في حروبه العرقية الخاصة، بين الطوارق والتبو. وبين التبو وقبيلة الزويّة العربية. ودع عنك عصابات بقايا النظام القديم وقد رفعوا أسلحتهم هنا وهناك. واعتمدوا أساليب السرقة والسلب والاغتيالات.

في الشرق (برقة)، حيث أعيش، على عكس الغرب (طرابلس) والجنوب (فزان)، فإن الحرب الدائرة محددة بين طرفين. من جهة ما يُعرف بقوات حفتر المدعومة من مجلس النواب والحكومة والمؤيدة من كل قبائل برقة، ومن جهة أخرى الجماعات الإرهابية المتمركزة في بنغازي ودرنة.

ومن خلال متابعة مجريات “معركة بنغازي” فإن هزيمة مليشيات “شورى مجاهدي بنغازي” أصبحت مسألة وقت ليس ببعيد، بعدما خسرت تلك المليشيات معظم قوتها البشرية والتسليحية، وتشرذم مقاتلوها في جماعات صغيرة معزولة في مناطق محددة.

أما درنة فهي محاصرة من جهاتها الأربعة وليس في مقدور الجماعات الإرهابية فيها، من قاعديين ودواعش، التمدد خارجها نحو المدن الأخرى. وقد دخلوا في حرب تصفية مافيوزية بين بعضهم البعض.

فما الحل في ليبيا؟

في إقليم برقة الحسم العسكري لصالح قوات الشرعية هو الحل الوحيد. في إقليم طرابلس لا إمكانية لحسم عسكري، والحل: وقف الاقتتال والمصالحة الاجتماعية بين القبائل والمناطق، وأن تلتزم كل مليشيا بالتواجد داخل حدود منطقتها. وكذلك هو الحل الممكن في إقليم فزان. لكن ذلك لن يتحقق فعلياً إلا بعد شعور الأطراف المتنازعة باستنزاف قواها وفقدان شهيتها لمزيد من القتال وإدراكها بعدم إمكانية انتصار طرف على طرف. عند ذاك يمكن الوصول إلى حلّ سياسي شامل أساسه: الاستفتاء على الدستور ومن ثم إجراء انتخابات تشريعية وتنفيذية.