حادثة القصف العشوائي التي أودت بحياة تسعة أشخاصٍ وثلاثين جريحاً في صفوف المتظاهرين السلميين بساحة الكيش في مدينة بنغازي يوم الجمعة 23 أكتوبر، توحي بإمكانية تقويض الجهود الأممية لإيجاد توافق سياسي يخرج ليبيا من دوامة الاقتتال المتنامي، لما لها من دلالات سياسية وأمنية تفضح جنوح قوى التشدد من كل الأطراف إلى رفع السلاح وتغليب منطق الدم.
حادثة القصف العشوائي التي أودت بحياة تسعة أشخاصٍ وثلاثين جريحاً في صفوف المتظاهرين السلميين بساحة الكيش في مدينة بنغازي يوم الجمعة 23 أكتوبر، توحي بإمكانية تقويض الجهود الأممية لإيجاد توافق سياسي يخرج ليبيا من دوامة الاقتتال المتنامي، لما لها من دلالات سياسية وأمنية تفضح جنوح قوى التشدد من كل الأطراف إلى رفع السلاح وتغليب منطق الدم.
وفيما عبر الجميع محلياً ودولياً عن الإدانة والاستنكار، وقدمت كل الأطراف التعازي لأهالي الضحايا لم تصرح أي جهة رسمية عن هوية الفاعل، ولا تم الإعلان عن فتح تحقيق في الجريمة، وكل ما رشح إلى صفحات التواصل الاجتماعي صورة منسوبة لجهة عسكرية حددت نوع القذائف وعددها ونقطة انطلاقها.
مصدر القذائف حسب الصورة هو منطقة الصابري التي تشهد اشتباكات مستمرة بين الطرفين ولا تخضع لسيطرة أي منهما، وتبعد مسافة 5 كم عن ساحة التظاهر.
من المتهم؟
يتهم معظم متابعي المشهد قوات مجلس شورى ثوار بنغازي باستهداف المتظاهرين، خاصة وأنه سبقت المظاهرة تهديدات على صفحات منسوبة للمجلس بأنهم لن يسمحوا للناس بالتجمع للاعتراض على مقترح الحكومة، رغم أنه أصدر بياناً ينفي فيه مسؤوليته عن الحادث، مبيناً أن مثل هذه الأهداف كانت متاحة له على مدى عام ونصف لكنه لم يفعلها.
فيما يذهب مؤيدو المجلس لاتهام قوات الفريق خليفة حفتر بفعل ذلك بهدف خلط الأوراق وإرباك المشهد، ولا يثنيهم عن اتهامهم كون صور حفتر كانت من أبرز شعارات تلك المظاهرة.
الناشط السياسي عيسى عبد القيوم يحذر من أن هذه “الكارثة” ستؤثر سلبياً على مجريات الحوار في ليبيا، ويتوقع أن يتغير على إثر ما حدث الموقف الدولي من سير الأحداث بالبلاد.
وفيما يتفق مع كل ما قاله المدير العام لمنظمة “معاً” للحراك الوطني حسين العبيدي، يتهم كلاهما مجلس شورى ثوار بنغازي بارتكاب الجريمة، ويستهجنان أن يقوم المؤتمر الوطني العام بتقديم التعازي لأهالي الضحايا، بينما هو يدعم ويؤيد “حلف الخوارج المتهم الأبرز في هذه الفاجعة”.
من جهته يفضل المحلل السياسي أسامة كعبار التمهل في إطلاق الأحكام حيث يقول “حتى وأنا ضد حفتر و مشروعه إلا أننى لا يمكن أن أتهمه جزافاً”، مؤكداً أن مظاهرة ساحة الكيش الأخيرة هي حراك شعبى ووطنى ينم عن الشعور بالمسؤولية تجاه مستقبل ليبيا.
ويؤكد كعبار إنه “من الصعب التكهن بماهية الفاعل فأصحاب المصالح كثر، ربما من يؤيد ليون وحكومته، وربما أيادٍ استخباراتية تريد خلط الأوراق وإدخال الطرفين (المؤيد للحكومة و الرافض لها) فى صراع”.
أبجديات السلامة
مظاهرة “الرد على ليون” كما أسماها منظموها تمت الدعوة لها رغم تعرض مظاهرة الجمعة التي سبقتها للقصف بالهاون دون وقوع ضحايا، وشارك فيها ما يزيد على ألف متظاهر من أهالي المدينة التي نزح معظم سكانها رغم الجو الماطر ومخاطر تكرار الاستهداف.
وهو ما يرى فيه الصحفي فايز سويري خطأ يتحمل مسؤوليته من دعا للمظاهرة، فـ “إذا كان مجلس النواب يجتمع في طبرق بحجة أن بنغازي غير آمنة، وحكومة الثني تجتمع في طبرق لأن بنغازي غير آمنة، وحفتر يجعل مقر قيادته في المرج بحجة أن بنغازي غير آمنة، فكيف تدعو هذه الجهات أبناء المدينة إلى التظاهر فيها وهي غير آمنة؟، من أبجديات السلامة في مناطق الحرب عدم التجمع”.
سويري ألمح أيضاً إلى أن المظاهرة لم تكن سلمية تماماً حيث قال في حديثه لمراسلون “مظاهرة الكيش اختلطت بين التعبير السلمي عن الرأي وبين وجود مجموعات مسلحة داخلها مما جعل الأمر لا يبدو بريئاً، وشابتها شعارات تحريضية على الدماء”، إلا أنه استدرك “لكن مع كل هذا لا يبرر أبداً قصفها، هذه جريمة ننكرها بأشد عبارات الإنكار”.
كلام سويري عن وجوب الكف عن التظاهر في بنغازي لا يستسيغه المشاركون في المظاهرة، والذين يعتبرون التظاهر السلمي لإيصال أصواتهم حقاً أصيلاً لا يساومون عليه، بل ويرى الناشط السياسي السنوسي بوجناح الذي كان من الداعين للمظاهرة أن حال المدينة اليوم ساهمت فيه بعثة الأمم المتحدة التي “تخاذلت” في تعريف الإرهاب ومواجهته، وأن حادثة الكيش قطعت كل الآمال في الوصول إلى اتفاق مع الطرف الآخر الذي ينتهج العنف لفرض وجهة نظره.
البعثة الأممية متهمة
اتهام بعثة الأمم المتحدة بالمساهمة في تدهور الأوضاع لم يأتِ على لسان بو جناح فقط، بل ذهب إليه معظم من تحدث معهم “مراسلون”.
حيث قال الناشط السياسي محمد الفاخري المشارك في المظاهرة، إن ما دفع أهالي بنغازي للتظاهر رغم الظروف السيئة هو “مساواة ليون بين الجيش الليبي والجماعات الإرهابية في قوله إن الحرب هي حرب من أجل السلطة، وهذا ما استفزّ أهل بنغازي ودعاهم للخروج غاضبين”.
ويتفق معه الناشط السياسي والحقوقي عصام التاجوري الذي اتهم البعثة بالانحياز والجنوح عن المهمة الموكلة لها إثر تأسيسها، معتبراً أنها فقدت مصداقيتها لكونها “لا زالت تعتبر الجماعات المتطرفة أحد أطراف النزاع لا مجموعات إرهابية قاتلة تقاتل ضد الجيش في مدينة بنغازي وتكفر الديمقراطية”.
..وتردّ
في محاولة من البعثة لتعديل موقفها رداً على هذه الاتهامات نشرت الإثنين على صفحتها الرسمية بياناً أعلنت فيه عزمها على تعديل تشكيل الحكومة الوارد في الاتفاق السياسي الذي وزعته في 11 أكتوبر على الأطراف السياسية لاعتماده، بحيث يتم توسيع مجلس الرئاسة من ستة إلى تسعة أشخاص ليضم رئيس مجلس الوزراء وخمسة نواب لرئيس مجلس الوزراء وثلاثة وزراء رئيسيين.
وقالت إن هذا التعديل جاء عقب مشاورات مكثفة مع أطراف من مختلف فئات الطيف السياسي الليبي حول سبل معالجة بعض الشواغل المتعلقة بتشكيل مجلس الرئاسة، خصوصًا تلك المتعلقة بتمثيل عادل ومناسب للشرق، وتحديدًا مدينة بنغازي. وقالت البعثة أيضاً إنها تحاول الوصول إلى صيغة “تكفل وتصون التقاليد التاريخية الليبية القائمة منذ وقت طويل والمتعلقة بالتوازن والتمثيل على الصعيدين الجغرافي والإقليمي”.
ورغم الخسائر في الأرواح ترى مناجي بن حليم المسؤولة في وزراة الثقافة أن مظاهرات الكيش لفتت اﻷنظار إلى رأي الشارع، وستغير على الأقل استراتيجية العمل للوصول إلى اتفاق، وإن كان الوصول إلى إرضاء الشارع تماماً أمر لا تتوقعه بن حليم في ظل الخلاف السائد، أما السياسيون حسب رأيها “سيتفقون في النهاية وينتهي الأمر بينهم بتحاصص الحقائب الوزارية”.