بعد القبض على القذافي ومقتله، فرضت المليشيات الإسلامية سيطرتها على الوضع الأمني في مواضع مركزية جغرافياً وديموغرافياً كما في طرابلس ومصراتة وسرت وبنغازي ودرنة.

ظاهرياً، أبدت الكثير من الميلشيات الإسلامية اقتناعها بشريعة مؤسسات الدولة الوليدة وفق “الإعلان الدستوري” وقامت بالانضمام  إلى وزارتي الدفاع والداخلية مقابل رواتب شهرية لأفرادها مع احتفاظ أمرائها بقيادتها (أغلبهم مدنيون في الأصل).

بعد القبض على القذافي ومقتله، فرضت المليشيات الإسلامية سيطرتها على الوضع الأمني في مواضع مركزية جغرافياً وديموغرافياً كما في طرابلس ومصراتة وسرت وبنغازي ودرنة.

ظاهرياً، أبدت الكثير من الميلشيات الإسلامية اقتناعها بشريعة مؤسسات الدولة الوليدة وفق “الإعلان الدستوري” وقامت بالانضمام  إلى وزارتي الدفاع والداخلية مقابل رواتب شهرية لأفرادها مع احتفاظ أمرائها بقيادتها (أغلبهم مدنيون في الأصل).

لكن تنظيمات إسلامية أخرى مرتبطة بإيديولوجية القاعدة، مثل مليشيا “أنصار الشريعة ـ بنغازي” و”شهداء بوسليم ـ درنة” و”الفاروق ـ الزاوية” (وهذا قبل ظهور داعش) أعلنت عن تكفيرها للديموقراطية والانتخابات والدولة المدنية، واعتبرت كل من يعمل في الدولة هو “طاغوت صغير” موظّف في خدمة من “يحكمون بغير شرع الله”..

لقد اعتقدت الجماعات التكفيرية المسلحة، أن الحاضنة الاجتماعية العمومية التي تفهمت، أو ساندت على نحو أو آخر، مجاهدتها للقذافي ونظامه، سوف تؤيد إقامة مشروعها الديني الإيديولوجي الشمولي ما بعد الخلاص من القذافي ونظامه. لكنها فوجئت بأن غالبية المجتمع تراهن على إقامة دولة مدنية ديمقراطية وترفض الولاية الدينية على الحياة السياسية.

هنا حدث الصدام بين قوى الإسلام السياسي بمليشياتها المهيمنة، وتيار القوى المدنية المسنود بغالبية المجتمع، الذي عبر من خلال الاحتجاجات الشعبية عن رفض وجود الميليشيات المسلحة وطالب بحكر حمل السلاح على الجيش والشرطة فقط.

كانت الكتائب الإسلامية مسيطرة على مدن وبلدات بقوة السلاح والترهيب. فكانت طرابلس خاضعة لسيطرة كتائب مصراتة المتحالفة مع مليشيات الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة بقيادة أمثال عبد الحكيم بلحاج وسامي الساعدي وخالد الشريف وعبد الوهاب القايد، وهم الذين سبق وأعلنوا توبتهم طالبين عفو القذافي عند مقدرته، وعادو بعد مقتله واندثار دولته إلى مشروعهم القديم في حكم ليبيا.

في سبيل ذلك تحالفوا مع الإخوان (فرع ليبيا)، ولم يكن ينقص إلا ظهور “داعش” الدموي السافر في درنة وسرت في خضم القتال الضاري في بنغازي بين كتائب القاعدة وقوات الجنرال حفتر، ثم تفجر الصراع الدموي في درنة لتصفية الحسابات بين جماعة الدواعش وجماعة القاعدة (كتيبة شهداء بوسليم).

والشاهد، حسب التحقق الصحفي الممكن، أن الجماعات الإسلامية، سواء كانت متطرفة صراحة أو ادعت الاعتدال، لم يعد لديها في ليبيا بيئة اجتماعية حاضنة طوعاً لمشروعها. الإسلاميون “المعتدلون” خسروا على نحو ساحق في انتخابات تموز/يوليو 2014 بفعل أصوات الناخبين الرافضين لمشروعهم فانقلبوا على أصوات الاقتراع بأصوات الرصاص.

في بنغازي ما كان بوسع حفتر وقواته دخول بنغازي والسيطرة على معظم أحيائها ومناطقها لو لا المساندة الاجتماعية الواسعة لأهالي بنغازي ومشاركتهم المسلحة الفعّالة في مقاتلة جماعة “أنصار الشريعة” وأخواتها.

أما في درنة فلم تثر “مليشيا بوسليم” على “داعش” إلا بعد مقتل زعيمها سالم دربي على يد “تنظيم الدولة” في حرب تصفية حسابات بين حليفين سابقين. وقد دعم الأهالي “مليشيا بوسليم” في قتالها ضد الدواعش. ولكن هل يعني ذلك أن  “مليشيا بوسليم” تتمتع بحضانة اجتماعية عند أهل درنة؟

واقع الحال أنه لا يمكن الإقرار بذلك عند الحديث عن درنة (المدينة/ المدنية) منذ قرن فات. لكن درنة أفرزت المئات من الشباب “الاستشهاديين” الذين عرضوا أنفسهم أدوات انتحارية قاتلة منذ الحرب الأمريكية على العراق.

ربما يعود ذلك إلى أن المدينة بحكم إمكانياتها الاقتصادية لم تكن تحتمل ديموغرافياً أكثر من تعداد سكانها على ما كانوا عليه قبل ثلاث عقود. ونتيجة  لتضخمها  السكاني المتواتر، تحولت إلى أكبر المدن الليبية حضانة لبطالة شبابية يائسة. وبالتالي تحولت أجساد تلك الطاقة الشبابية العاطلة إلى سلاح تدمير ذاتي بتدمير الآخرين.

فمن هذه المدينة، التي ناهز عدد سكانها الستين ألف نسمة، ذهب المئات من الشباب للالتحاق بصفوف القاعدة بالعراق منذ العام 2003 حسب “وثائق سنجار” التي خلفتها القاعدة وراءها وعثر عليها الأمريكان في مدينة “سنجار” الواقعة غرب محافظة نينوى شمال العراق.

وقد أصيب المحققون الأمريكيون بالذهول عندما اكتشفوا أن نحو 19 بالمائة من المقاتلين الواردة أسماؤهم في سجلات سنجار جاؤوا إلى العراق من ليبيا. أي أن الليبيين يمثلون النسبة الأعلى إذا أخذنا في الاعتبار عدد السكان. واكتشفوا أنه من بين 112 ليبياً وردت أسماؤهم في الأوراق، قدم 52 فرداً من بينهم من درنة. وإن أكثر من 85 % من الليبيين الذين ذهبوا إلى العراق تطوعوا لتنفيذ عمليات استشهادية ضد قوات الاحتلال الأمريكي، وهي نسبة أعلى بكثير لدى الجنسيات الأخرى.

حار الخبراء الأمريكيون في تحديد الدوافع الحقيقية وراء اندفاع الشباب الليبي، لا سيما من هذه المدينة الصغيرة: درنة. استبعدوا دافع اليأس من الوضع الاقتصادي.

فأين شباب درنة في بلاد نفطية من ملايين الشباب المسلمين الأكثر بما لا يقاس بوساً ويأسا ولا يسافر منهم إلى العراق إلا عديد صغير بالنسبة لتعداد سكانهم؟

إنه لسؤال كبير. يحتاج دراسة سوسيولوجية ميدانية معمقة، تنتظر ولا شك خلاص درنة من الدواعش والقاعدة.