داخل بيتها بطرابلس تنتظر والدة محمد الصيد بلهفة اتصالاً من ابنها المحتجز منذ أكثر من شهرين لدى السلطات الإيطالية بتهمة تهريب البشر، وذلك بعد أن ألقي القبض عليه مع ثلاثة شباب ليبيين آخرين غادروا منتصف آب/أغسطس الماضي على متن إحدى قوارب الهجرة إلى أوروبا.

تؤكد الأم أن محمد – 22 عاماً – لا يعمل بالتهريب، وأنه قرر الهجرة لأنه يائس من تحسن الظروف ولم يعد لديه أمل في الحصول على حياة كريمة داخل بلده، وخاصة بعد أن فشل في الحصول على تأشيرة للسفر إلى إحدى دول أوروبا سعى إليها لفترة من الزمن.

وبعد أن غرق المركب يوم 15 آب/أغسطس ومات 362 ضحية قضوا في الحادثة، قبضت السلطات الإيطالية على الليبيين الأربعة وأربعة آخرين من جنسيات مختلفة واتهمتهم بأنهم مهربون، لتتناقل فيما بعد الصحف الإيطالية خبر أنهم متهمون بحجز 250 من الأفارقة في أسفل القارب ما أدى إلى وفاتهم جميعاً.

دافع الهجرة

يقول الصحفي رضا فحيل البوم وهو صديق لمحمد إنه قابله قبل رحيله بليلة واحدة حيث مر عليه ليودعه قبل السفر من شاطئ زوارة، وروى له كيف أوصاه المهرب بأن يحضر في تاكسي ولا يدع أحداً من عائلته يوصله إلى نقطة الانطلاق وقبض منه مبلغ 1200 دينار ليبي (800 دولار في ذلك الوقت تقريباً).

وبحسب رضا فإن ما جعل محمد يقدم على هذه الخطوة الخطرة هو تعرضه للاعتقال على يد إحدى الميليشيات المسلحة بطرابلس لمدة 40 يوماً قبل نحو سنة، بتهمة أنه جاسوس ضد فجر ليبيا، وبعد خروجه من الاعتقال كان في حالة نفسية سيئة جداً.

“كان السفر هو أمله الوحيد في الحياة، وحاول الحصول على تأشيرة من عدة سفارات. قضى لهذا السبب أشهراً في تونس يسعى من سفارة لأخرى، ولكن كانت كل طلباته تواجه بالرفض بسبب صغر سنه” يقول فحيل البوم.

السعي للهرب

عاد محمد إلى ليبيا في تموز/يوليو الماضي مسكوناً بفكرة الهجرة عبر المتوسط حسب ما روت أمه، وذلك نتيجة لاختلاطه بالكثير من الشباب الليبيين في تونس الذين يفكرون بنفس الطريقة، رغم أن الهجرة كانت واردة لدى محمد، خاصة وأن له صديقاً هاجر إلى ألمانيا ويعيش أوضاعاً جيدة هناك.

شهر ونصف هي الفترة التي استغرقت محمد لترتيب الاتصال بمهرب من مدينة زوارة، والذي حدد له موعداً هو منتصف آب/أغسطس للانطلاق نحو السواحل الإيطالية.

“توقعت أن أسمع أي خبر عن محمد مثل أن يغرق القارب وأن يفارق الحياة، أو أن يكون محظوظاً فيصل مبتغاه بسلام، ولكن آخر ما توقعته هو أن أرى صورته منشورة ضمن أربع صور لمن تتهمهم الصحافة الإيطالية بأنهم مهربو بشر، هذا الاتهام لا يمكن أن يكون صحيحاً فأنا أعرف محمد جيداً وهو ليس ممن يمتهنون هكذا عمل”، يقول فحيل البوم.

خبر اعتقال الشباب الأربعة انتشر في وسائل الإعلام الليبية التي كشفت أيضاً أن الثلاثة الآخرين من مدينة بنغازي، وهم لاعبو كرة قدم في نادي التحدي، كانوا يحلمون بالاحتراف في الملاعب الأوروبية، ولم يجدوا طريقة للوصول إلى هناك غير الهجرة عبر البحر.

بحاجة للمساعدات

كثر هم الليبيون الذين باتوا يحلمون بالعيش في أوروبا، خاصة وأن الأوضاع المعيشية تزداد سوءاً في المناطق الآمنة نسبياً، بينما تستحيل في مناطق النزاع التي هاجر ونزح معظم سكانها.

وبحسب تقرير صدر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في أيلول/سبتمبر 2015 فإن 79% من سكان ليبيا بحاجة للمساعدات الإنسانية، وإن حوالي مليون و 750 ألف متضرر من النزاع داخل ليبيا هم غير نازحين ويحتاجون إلى المساعدة، ونبه التقرير أيضاً إلى حدة الأوضاع على الصعيد الأمني والغذائي والصحي والتعليمي والخدماتي.

يأتي ذلك فيما ترفض الأطراف السياسية المنخرطة في مسار الحوار الذي ترعاه الأمم المتحدة تشكيلة حكومة الوفاق الوطني التي قدمتها البعثة الأممية إلى ليبيا، ما يهدد بتصاعد وتيرة العنف في البلاد.

هجرة بأي ثمن

هذا التدهور المضطرد على كافة المستويات يؤدي لتعاظم دوافع الهجرة عبر البحر ومواجهة خطر الموت غرقاً لدى الشباب، أمثال أبوبكر الطرابلسي المتحصل على بكالوريوس في الهندسة المعمارية، والعاطل عن العمل منذ أربع سنوات.

أبوبكر لا يؤخره عن الهجرة سوى أنه لم يجمع بعد المبلغ الكافي لسداد تكاليف الرحلة، وهو لا يزال يأمل بأن يهاجر بطريقة نظامية، ولكن إن استحال حصوله على تأشيرة يقول بأن البحر لن يرفضه، وهو مستعد للقيام بأي عمل هناك، ريثما يستكمل دراسته ويكتسب لغة جديدة، “أي تجربة جديدة تظل أفضل من الانتظار هنا، أشعر بأن أزمة ليبيا لن تنتهي” يقول الطرابلسي.

الواضح من خلال حديث “مراسلون” إلى عدد من الليبيين أن حلم الهجرة بدأ يسري في الأوساط الشبابية بشكل واسع وبين فئات مختلفة ولدوافع مختلفة، بل وحتى التخلي عن الجنسية الليبية لم يعد يؤرق الكثيرين منهم من أمثال محمد الزواوي الذي تخرج حديثاً من معهد النفط  وقرر مع زملائه الأربعة ترك البلاد بحثا عن فرصة عمل في دول الغرب، مؤكدا أنهم اتفقوا على تمزيق جوازات سفرهم الليبية حال وصولهم إلى أي دولة أوربية.

تواصل إلكتروني

التواصل مع المهربين لم يعد بذلك التعقيد في وجود شبكات التواصل الاجتماعي.

يروي الطاهر العريبي كيف أنه ومن خلال صفحات “الفيسبوك” تعرف على عدد من الأفراد الذين يقومون بتوصيل الراغبين في الهجرة عبر نقاط ساحلية معينة – فضل عدم ذكرها – إلى جزيرة صقلية وسواحل إيطاليا.

وهو حالياً يعد عدته لخوض التجربة وليس قلقاً من المخاطر التي قد تواجهه أثناء الرحلة أو بعدها “فالموت حق وطلب الحياة الكريمة أمر مشروع” يقول العريبي.

العريبي الذي تحدث بحذر لـ”مراسلون” أكد أن القائمين بعمليات نقل المهاجرين من مدينة زوارة يملكون أرقام هواتف معينة مقفلة أغلب الوقت وساعات استعمالها محددة، ويمكن لمن يفكر جدياً بالهجرة الحصول عليها عبر الصفحات الخاصة بهذه الخدمات وأغلب روادها من جنسيات أفريقية أوسوريون وقليل منهم ليبيون حسب العريبي.

حقيقة أم لا

رغم تعدد الحالات لا زالت السلطات المعنية في الدولة الليبية تصر على عدم وجود ليبيين ضمن المهاجرين الذين يتم إيقاف رحلاتهم والقبض عليهم بين الحين والآخر، وهو ما يزيد من وضع محمد الصيد وزملائه المحتجزين في إيطاليا تعقيداً.

يقول محمد بريدعة نائب رئيس جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية لمراسلون إن “كل ما يشاع عن وجود ليبيين يهاجرون عبر البحر إلى أوروبا يظل أقوالاً لا تمت للحقيقة بصلة”.

ولكن خفر السواحل بطرابلس يخالفون بريدعة ويؤكدون أنهم ألقوا القبض على عدد من الشباب الليبيين ضمن قوارب المغادرين لأوروبا، بل ومنهم من أكد لـ”مراسلون” – مفضلاً عدم ذكر اسمه – أنه سمع بعدد من الشباب وصلوا فعلاً إلى إيطاليا ومنها لدول أوروبية أخرى.

وهو ما تؤكده الإعلامية هاجر محمد التي تتواصل فعلياً مع عدد من الشباب الليبيين الذين غادروا إلى أوربا عبر مدينة زوارة بداية تشرين أول/أكتوبر ضمن بحث تجريه عن الشباب، وبحسب علمها فإن الرحلة التي حملت مهاجرين ليبيين وأفارقة لم تواجهها أية عوائق ووصل من كان على متنها إلى السواحل الإيطالية ليغادرو بعد ذلك إلى وجهات مختلفة.

الإعلامية الليبية ذكرت لـ “مراسلون” أن هناك رحلة ثانية جاهزة للانطلاق في أي لحظة ولا تنتظر سوى اعتدال الطقس وتوفر المناخ المناسب للإبحار.

من تحدثت عنهم هاجر كانوا أوفر حظاً على ما يبدو من محمد، الذي لا زالت أمه مهمومة تنتظر اتصاله عبر إحدى المؤسسات الإنسانية أو الصليب الأحمر كما جرت العادة، “يحق للسجين الاتصال بذويه بعد انقضاء شهرين على احتجازه” تقول أم محمد مستغربة تجاهل السفارة الليبية في إيطاليا قضية ابنها المتهم هناك.

ثم تستدرك “رغم ما يكتنفني من حزن وما أعانيه من لوعة لفراق ابني غير أن فرحتي بأنه على قيد الحياة تمنحني الصبر، وسأبقى أنتظر اتصاله”.