”جئتُ إلى العالم راويًّا،“ هكذا يكتب الكاتب الشهير جمال الغيطاني الذي غيبه الموت من أسبوع مضى في شهادته الأخيرة التي نشرتها جريدة أخبار الأدب ويستكمل ”منذ البداية كنت أطرح على نفسي أسئلة كبرى، حاولت من خلال الأدب الإجابة عليها ومازلت، سؤالي الرئيسي عن الزمن. من أين وإلى أين؟“

”جئتُ إلى العالم راويًّا،“ هكذا يكتب الكاتب الشهير جمال الغيطاني الذي غيبه الموت من أسبوع مضى في شهادته الأخيرة التي نشرتها جريدة أخبار الأدب ويستكمل ”منذ البداية كنت أطرح على نفسي أسئلة كبرى، حاولت من خلال الأدب الإجابة عليها ومازلت، سؤالي الرئيسي عن الزمن. من أين وإلى أين؟“

قلما تجد الغيطاني مبتسمًا. هو دائمًا يبدو منهمكًا في تفكيره، يطرح الأسئلة كما قال، وقد زامٌ شفتيه بينم عيناه تطل منهما نظرات الجدية. ”للوهلة الأولى يبدو الغيطاني لمن لا يعرفه شخصًا جهمًا مغرورًا، “ يقول الكاتب والصحفي الشاب أحمد ناجي لـــ ”مراسلون“ ويضيف ”قد يعود هذا لكاريزماه البادية للعيان لكن من اقترب أكثر منه عرف إنسانًا أبسط وأكثر ثراءً في تفاصيله الإنسانية مما يبدو عليه.“

”عرفت جمال الغيطاني بشكل تلقائي، “ يقول الكاتب والروائي المصري عبده جبير لــ ”مراسلون“ ويضيف ”أول مرة التقينا فيها شعرنا أننا نعرف بعضنا من زمن طويل. ربما يرجع ذلك لأن أصولنا الصعيدية واحدة، ولأننا كنا مهتمين بأشياء مشتركة بخلاف الكتابة والرواية، وهي حبنا للتاريخ وبخاصة التاريخ المملوكي والآثار الإسلامية. “

ولد جمال الغيطاني في التاسع من مايو/أيار 1945 في مدينة جهينة بمحافظة سوهاج (جنوب صعيد مصر)، انتقلت عائلته إلى قاهرة المعز “القاهرة الإسلامية”، حيث تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة “عبد الرحمن كتخدا” بحي الأزهر، والإعدادي في مدرسة محمد علي، إلى أن التحق بمدرسة الفنون والصنائع بالعباسية. وبعد انتهائه من المدرسة، أمضى ثلاث سنوات في دراسة وعمل تصميم السجاد الشرقي، وهو ما أهله للعمل كسكرتير للجمعية التعاونية المصرية لصناع وفناني خان الخليلي.

في تلك الأجواء القاهرية القديمة وعلى مدار سنوات عمره الثلاثين الأولى أخذت بذرة شغفه للتراث العربي والإسلامي تتشكل بداخله. ”هذا الرجل ولد وعاش بين الأثار والتاريخ الإسلامي.“ يقول جبير

”أذكر أنني وصديقي الكاتب المسرحي اسماعيل العادلي قررنا زيارة الآثار الإسلامية في مصر، جمعنا ما يكفي من المال وانطلقنا كلًا منا معه زوجته، كنا نقرأ حول الأثر قبل زيارته، وكان مصدرنا الأشمل الذي نعود إليه من فترة لأخرى هو جمال الغيطاني، يدلنا على المراجع والكتب ويتصل بنا ليعرف إلى أين وصلنا في رحلتنا.“ يستكمل جبير.

استلهم الغيطاني مشروعه الروائي من التراث الفاطمي والمملوكي (مصر في العصور الوسطى) وقد ساهم اطلاعه الموسوعي على الأدب القديم في خلق عالم روائي عجيب له لغة تشبه كثيرًا نصوص المؤرخين العرب القدامى. تحفته الفنية “”الزيني بركات “ 1974 خير نموذج على هذا.

الغيطاني ماركسيًا

”وأنا طفل، وكان عندي سبع سنوات، كنتُ أقرأ أرسين لوبين وأحلم بأن آخذ من الأغنياء وأعطي للفقراء، كنت أحلم أن أصبح لصًا شريفًا،“ يقول في حوار تلفزيوني ويضيف ”اللص الشريف أصبح إشتراكيًا ماركسيًا، يعنى بفكرة العدالة الاجتماعية. كنت عندما أرى متسولًا أبكي، فالبكاء شكل من أشكال الاحتجاج.“

اعتنق الغيطاني الماركسية في شبابه، واعتقل لمدة ستة أشهر بتهمة انتمائه لتنظيم شيوعي. ”في عام ١٩٦٦“ يقول الغيطاني في إحدى حوارته الصحفية ”كنت قد اعتقلت في معتقلات عبد الناصر، كانت تجربة قاسية: لم يكن أي شخص يعرف أين نوجد. كنا ننام على الأرض. وفي الشتاء كان الجلادون يلقون بالماء المثلج علينا عندما كانوا يستجوبوننا. كانوا يمارسون أيضا التعذيب بالكهرباء. بعدها تأكدت أني لن أتوقف عن الكتابة ضد النظام.“   

ينتمي الغيطاني لجيل الستينات وهو جيل من الروائيين والكتاب والشعراء المصريين الذين بزغ نجمهم بعد هزيمة عام ١٩٦٧، وهو ما فتح الباب أمام ”تيار جديد“ من النثر والشعر، يبحث عن طريق بديل وهوية جديدة، منهم إبراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم وعبد الحكيم قاسم ويحيى الطاهر عبدالله وأمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي.

في عام ١٩٦٩ نشر الغيطاني كتابه الأول وهو مجموعة قصصية بعنوان ” أوراق شاب عاش منذ ألف عام “، وقد ضمت المجموعة خمس قصص استلهمت التاريخ المصري الإسلامي وكانت جميعها بمثابة ”الرد الروحي على نكسة ١٩٦٧“.

”لما أصدر ”أوراق شاب عاش ألف عام “ وبدأ النقاد من مريدي ”الواقعية الاشتراكية “ يهللون له تحدثت معه أن يتواخى الحذر وألا ينساق كثيرًا ورائهم لكي لا يكرر نفسه.“ يقول جبير.

الغيطاني صحفيّا

في ذات العام الذي أصدر فيه كتابه الأول عمل مراسلا حربيا لمؤسسة “أخبار اليوم” في جبهات القتال أثناء حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل (١٩٦٧- ١٩٧٣). ”عند عمله كمراسل حربي تعجبت من ذلك. هذا رجل يحب التاريخ والأدب، فما علاقته بالحرب.“ يقول جبير.

وفي عام ١٩٧٤ عمل بقسم التحقيقات الصحفية، بعدها سافر إلى العراق، وإيران، ولبنان في أوقات الحرب. وفي ١٩٨٥ أصبح رئيسا للقسم الأدبي بـ”أخبار اليوم”، وفي ١٩٩٣ أسس جريدة “أخبار الأدب” التي تولى رئاسة لتحريرها وصارت فيما بعد أهم الجرائد الثقافية في الوطن العربي.  

”أنا محظوظ لأني عملت مع الغيطاني. لأن الجو الذي أشاعه الغيطاني في جريدة ’أخبار الأدب’ كان حالة استثنائية. “ يقول ناجي الذي يعمل صحفيًا في الجريدة نفسها ويضيف : ”كان رئيس تحرير متواضع، في وقت لم يكن فيه رؤساء التحرير بمؤسسة الأخبار يرضون استقلال المصاعد مع الصحفيين، الجميع بالنسبة إليه زملاء من أول الفراش وحتى أصغر صحفي، حالة اجتماعية لطيفة مليئة بالتفاصيل الإنسانية أجاد الغيطاني صناعتها داخل أروقة الجريدة. وكان إن اقترح أحد من الصحفيين الصغار فكرة جديدة للعدد القادم جعله رئيسًا لتحرير العدد، فكانت هذه تجربة فريدة بالنسبة لنا نحن وقد كنا مانزال في مستهل الطريق.“

يستكمل ناجي: ”سنوات عمله كمراسل حربي، حببته في الحياة والنظام العسكري وهو ما جعله يبدو لكثيرين جهمًا وصارمًا. كان في عمله كاللواء داخل الكتيبة. وكان يعي ذلك ويعي أثر جهامته وصرامته على المحيطين به لكنه سرعان ماكان يكسر تلك الحالة برد فعل لا تتوقعه يكشف لك أن تلك الجهامة والصرامة ليست إلا قشرة خارجية. “     

”ذات مرة دخلت عليه مكتبه لأعلق على تصريح  قاله شخص ما. قلت له ’هذا شخص مجنون‘ فأجابني ’بالفعل إنه شخص مجنون‘ ثم سكت للحظة ثم عقب ’لكن أتعرف أنا أيضًا كنتُ أقول أشياء مجنونة….لأننا نحن الكُتاب مهما كنا مثاليين ومتعقلين فإن الأمر لا يخلو من شعرة جنون. وأنا عندي هذه الشعرة’.“ يتذكر ناجي.

الغيطاني الروائي الشغوف بالجديد

”عندما أصدرتُ مجموعة ”فارس على حصان من خشب “ فوجئت به في مكتبي وقد جاء ليجري معي حوارًا حول المجموعة.“ يقول الكاتب عبده جبير ”ساعتها أذهلني الأمر. فقد كان أكبر مني أدبيًا وكاتبًا متحققًا ويأتي لإجراء حوار معي وكنت مازال في مستهل مشواري الأدبي!! كانت تجمعنا صداقة سوية لا يشوبها شيء. وأذكر أنه عندما أنشأ جريدة أخبار الأدب دعاني للكتابة معه.“

”رغم مشاغله الكثيرة كان قارئًا مرعبًا. كان يتصفح كل ما يأتي مكتبه من كتب. ومنه تعلمت تعبير’شم الكتاب‘ – أي أن تتعرف على الكتاب وعلى لغته من التصفح الأولي.“ يقول ناجي.

ويستطرد”عندما أصدرت روايتي الأولى ”روجرز“ أعطيته نسخة من باب المجاملة – لم أتصور أنه سيقرأها- بعدها بثلاث أيام وأنا أمر على مكتبه استوقفني وجلسنا لفترة من الوقت نتحدث عن الرواية والكتابة، بل إنه استضافني في برنامجه التليفزيوني بمفردي دون ناقد أو ضيوف للحديث عن الرواية وعن طريقتي في الكتابة، وعن مدينة المنصورة التي تربيت فيها، وعن جدي وأبي.“

”أنا قارئ جيد للغيطاني. قرأت له قبل عملي في الصحافة. وكنت متحمسًا للعمل معه حتى قبل عملي في أخبار الأدب. تعجبني كثيرًا قصصه الطويلة. إنها قصص رائعة، لديه أعمال روائية تشعر أنه بدأها كقصة لكنها امتدت معه لتصبح رواية.“ يقول ناجي.

”الغيطاني كروائي إشكالية. “ يقول جبير ويضيف ”كان قد كتب قصص عادية دون تلوينها بالتاريخ، ومن بين هذه القصص كانت هناك قصة لشاب يترك المدينة ليعمل في قرية نائية وكان رئيسه في العمل رجل قويًا يفرض سلطته على كل من حوله لدرجة أن هذا المدير يحاول الاعتداء جسديًا على الشاب، هنا كانت موهبته تتألق ولغته الجميلة تنساب في نعومة.“

يقول أحمد ناجي ”مشروع الغيطاني الروائي منذ بدايته قائم على هندسة شديدة التعقيد، وهذا ما تجده جليّا في ”وقائع حارة الزعفراني” و””الزيني بركات “ ورسائل البصائرفي المصائر”، دهاليز من السرد وتداخل في البنيان الروائي أمور أشاد بها القراء والنقاد وحاصرت الغيطاني لكنه أحب التنوع في التركيب. “

”في كتاب ”التجليات“ و”دفاتر التدوين“ يغيب البنيان الروائي وينطلق الغيطاني في سرد مفتوح. كان يحكي لي ’أنا أكتب دون قيد أو شرط ”وأنا سايب إيدي“‘ لكن ذلك لم يستوعبه ويستصيغه قراء الغيطاني الذين استحبوا رواياته الأولى، لذا تجد أن أشهر أعمال الغيطاني في مصر والوطن العربي رواية الزيني بركات لكنه معروف في فرنسا وأوروبا بالتجليات. “

”أعتقد أن الغيطاني بعد عدة روايات صبغها باللون التاريخي، بدأ يخرج من هذا القالب وبدأ يكتب في كتاب ”التجليات“ و”دفاتر التدوين“ بشكل مختلف، إنها كتابات أشبه برحلات في الزمان والمكان متحررة من الشكل الروائي.“ يقول جبير.

”إصرار الغيطاني على توظيف اللغة التي كان يكتب بها الجبرتي وغيره من مؤرخي هذه الفترة التاريخية، لم يكن مبعثه التميز ولا إحياء هذه اللغة كما قال بعض النقاد.“ يقول ناجي ويستطرد ”بل يرجع الأمر في رأيّ لشغف الغيطاني بمنطق هذه اللغة. فهذه اللغة التي كان يكتبها إبن إياس والجبرتي وهما رجلا دين ولغة قبل أن يكونا مؤرخًين، كانت قادرة على استيعاب العامية والفصحى والفرنسية المعربة. وهذه المنطق في الاحتواء والاستيعاب هو ما جذب الغيطاني لهذه اللغة وجعله أسير قالبها.“

”لم يُقرأ الغيطاني جيدًا بحكم رئاسته لتحرير ’أخبار الأدب‘ التي وصلت من الشهرة وقتها لدرجة صارت معها الجريدة في الوسط الثقافي سلطة أدبية، وهو ما جعل أي موقف لأخبار الأدب هو موقف للغيطاني، وهذا جعل كثير ممن لهم مواقف ضد الجريدة، يصفون حساباتهم مع الجريدة في أعمال الغيطاني.“

كانت معاركه ملئ السمع وبخاصة مع وزير ثقافة نظام مبارك فاروق حسني، ورئيس مؤسسة ”أخبار اليوم“ الكاتب الصحفي ابراهيم سعدة. كما اتهمه موقع ”الإمبراطور“ بأنه الكاتب الحقيقي لرواية صدام حسين ”زبيبة والملك“ وهو ما نفاه بشدة. وكان الغيطاني قد أثار كثيرًا من اللغط بعد مطالبته بإلغاء جامعة الأزهر وضمها إلى جامعة عين شمس، بعد حراك طلابها احتجاجًا على عزل محمد مرسي، وهو ما اعتبرته الجامعة إساءة لها.

”أعرف أنني لن أعرف،“ يقول الغيطاني في شهادته الأخيرة ويستكمل ”وأعرف أن الإجابات التي لا أجدها الآن ربما يجيب عليها من يأتي بعدي، علمني أبو حيان التوحيدي أن السؤال أدل من الإجابة.“