يقوم الباحث والأكاديمي المصري عمرو عبد الرحمن بإعادة تقييم لمسار ما بعد عزل محمد مرسي، حيث يرى المدرس بقسم القانون بالجامعة الأمريكية في القاهرة، ومدير وحدة الحريات المدنية بـ”المبادرة المصرية للحقوق الشخصية” أن القوى الديمقراطية والمدنية كانت الخاسر الأول، قبل الإسلاميين، منذ الأسبوع الأول لبدء خريطة الطريق المعلنة في 3 يوليو/ تموز 2013، ورغم ذلك أن هذا المسار كان الوحيد، لكن ذلك لا ينفي وجود أخطاء كبيرة، حيث تتجه أغلب الأحزاب المعبرة عن القوى المدنية الديمقراطية للمزيد من التأزم والتفكك.
يقوم الباحث والأكاديمي المصري عمرو عبد الرحمن بإعادة تقييم لمسار ما بعد عزل محمد مرسي، حيث يرى المدرس بقسم القانون بالجامعة الأمريكية في القاهرة، ومدير وحدة الحريات المدنية بـ”المبادرة المصرية للحقوق الشخصية” أن القوى الديمقراطية والمدنية كانت الخاسر الأول، قبل الإسلاميين، منذ الأسبوع الأول لبدء خريطة الطريق المعلنة في 3 يوليو/ تموز 2013، ورغم ذلك أن هذا المسار كان الوحيد، لكن ذلك لا ينفي وجود أخطاء كبيرة، حيث تتجه أغلب الأحزاب المعبرة عن القوى المدنية الديمقراطية للمزيد من التأزم والتفكك.
في حواره مع “مراسلون” يتحدث عبد الرحمن عن الأوضاع الحالية بمصر وكيفية توظيف الميراث القانوني لصناعة حالة من السلطوية يمكن وصفها بـ”السلطوية المرنة”، بحيث يمكن الاختيار بين عدة نصوص قانونية تصلح جميعها لمحاكمة “المُعارض” من أجل تحقيق العقوبة التي تراها هذه السلطة “مناسبة” ضد من تكره.
في هذه اللحظات، هل يتشكل مفهوم أوسع لسلطة الدولة، وكيف ترى موقع القوى الديمقراطية بها؟
أنا كنت مؤيدا لـ 30 يونيو و3 يوليو، لكن مشكلتي الرئيسية ليست مشاركة القوى المدنية والقوى الديمقراطية في الانقلاب، وهو انقلاب، وإنما لأنها لم تستطع أن تدير علاقة تسمح لهذه القوى بأن تعظم مكاسبها، بالعكس دخلت هذا الانقلاب من دون أي خطة وكانت أول الضحايا منذ الأيام الأولى. في البداية حدثت أكثر من ضربة لها أولها الإعلان الدستوري (الصادر في يوليو 2013)، حيث بدا واضحا أنها ليست حكومة ائتلافية، بل هو وضع أقرب لفكرة الإدارة العسكرية، التي كانت قائمة بعد تنحي مبارك عام 2011، وكل الأدوار المُلحة التي يجب طرحها للنقاش على الطاولة، تمّ تأجيلها لمدة سنة ونصف بعد الانتخابات الرئاسية.
وضع الإعلان الدستوري كل سلطات التشريع في يد رئيس الجمهورية، وكان من المفترض، لو كان هناك قدر من الرؤية والحساسية السياسية، ألا تكون هناك أولوية إلا لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، حسبما كان يفترض، كان هذا أول اتفاق تمّ لحسه بعد أسبوع. الخاسر في هذه اللحظة كان القوى المدنية الديمقراطية، بالمناسبة، وليس الإسلاميين، الذين كانوا يديرون معركتهم بطريقة أخرى من أول لحظة، كانت معركة بقاء.
تمّ تجاهل البرادعي، ثم قرار فض اعتصامي ميدان رابعة العدوية والنهضة، والذي حدث بتجاهل رأي زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزارء وقتها. كما بدأت حملة في الإعلام موجهة ضد التيار المدني الديمقراطي. وفي إطار إعادة التقييم لا أجد نقدا ذاتيا، بل الناس تعلن عن تبرؤها مما حدث بشكل أخلاقي وطفولي وغير مفيد، وليس دقيقاً. لم يكن هناك أي مسار ممكن للأحداث، غير ما حدث، وعلى الجانب الآخر هناك مَن لا يرى أن هناك أخطاء حدثت ويسير بالقصور الذاتي، حتى أن أغلب الأحزاب المعبرة عن القوى المدنية الديمقراطية أحوالها التنظيمية تتجه للمزيد من التأزم والتفكك. الوضع الآن ديكتاتورية متكاملة الأركان، لا أحب أن أصفها بالسلطوية العسكرية لأنها ليست كذلك. أنت أمام نخبة تحكم، وهي قريبة الشبه بالنخبة التي كانت تحكم أيام حسني مبارك قبل صعود نجله جمال. نخبة أمنية من رؤساء أجهزة مثل المخابرات وأمن الدولة والمخابرات الحربية، التي يتصاعد دورها، إلى جانب نخبة عسكرية تضم مجموعة من المتنفذين العسكريين، وتلعب هذه النخبة العسكرية أدوارا اقتصادية أيضا، ونخبة أخرى في مؤسسة الرئاسة، وهم من المدنيين المحيطين بالرئيس من خلفيات الدبلوماسية المصرية وغيرها، وقد جاء أغلبهم من البيروقراطية المصرية. هدف كل من ينتمون لهذه النخب الحاكمة -وهو هدف غريب للغاية – الاستئثار بالقرار بالكامل، وتعمل على عزل نفسها عن المجتمع، وعن أجواء السياسة كذلك، حتى أنها لا تريد أن تتأثر بضغوط الرأسمالية التقليدية ومطالب رجال الأعمال، في محاولة أنها تعمل على تنفيذ خطة إنقاذ من وجهة نظرها.
مؤخرا تم إصدار قوانين عدة أثارت جدلا، لماذا هذا الإصرار على القيام بتشريع هذه القوانين الجديدة، وما هي رؤيتك للبنية القانونية في مصر؟
منذ يوليو 1952 حتى الآن تحكم علاقة النخب الحاكمة في مصر بالقانون علاقة خاصة جدا. أن الحكم لا بد أن يكون من خلال قانون، وفي الوقت نفسه هناك طرق لتجاهله أو التحايل عليه. مصر لم تصل لمرحلة أن تكون مثل ليبيا أو سوريا أيام الأسد الأب أو العراق خلال فترة رئاسة صدام حسين. ليست محكومة بالهوى المطلق للحاكم مثلا. هناك إصرار شديد على وضع القانون، وفي الوقت نفسه التحايل عليه، وهذا ما حكم البناء القانوني الذي تتعاطي معه مسائل الشئون السياسية والمدنية في مصر. قوانين مصنوعة بحرفية معقولة، بالقياس مع المنطقة التي نعيش فيها. الوضع في مصر تجد به إقرار لكل المبادئ الدستورية الحديثة، لكن هذه القوانين تترك مساحة لتدخل النخبة الحاكمة، بحيث يمكن التوجيه بالكامل عبر صيغ مثل الأمن القومي، النظام العام، والأخلاق العامة.
الإرهاب أصبح ينظمه 3 قوانين، منها قانون 2015 وقانون كان قد صدر عام 1992، إلى جانب قانون العقوبات. المنطق يقول أن هذا ينسخ الآخر، لكن النخبة الحاكمة تريد مساحة تتحرك فيها. كما أن أغلظ عقوبة بقانون التظاهر لا تتجاوز الحبس لمدة ستة أشهر، بينما كل المحبوسين مدانين بالحبس لمدد أكبر، لأنهم حوكموا بمواد في قانوني البلطجة 2011 والتجمهر 1914. هي حالة من حالات الركام التشريعي، وفي هذه الحالة النيابة العامة توجه عريضة الإتهام حسب أي من هذه القوانين، والقاضي عليه أن يأخذ بهذا الكلام أو لا يأخذ به.
نعيش وضع بالغ الغرابة لا هو نظام حكم قائم على المزاج الشخصي للحاكم وليست سلطوية منضبطة. لا يوجد أبشع من هتلر وموسوليني لكن مستحيل أن تجد لديهم أكثر من نص قانوني للجريمة الواحدة. المشكلة تترك مفتوحة لأن نوايا النخبة متغيرة يمكننا أن نعتبر أن البناء القانوني يسمح بحرية الحركة، لنكون أمام نموذج من السلطوية المرنة.
حرب الإرهاب تبدو كعنوان للمرحلة الحالية، لكن نريد التحدث عن الآثار الجانبية لهذه الحرب؟
قبل أي كلام لابد أن نعترف أن الإرهاب يمثل خطرا حقيقيا. يختلف عما كان عليه الوضع في التسعينيات، مثلا، كانت هناك ظاهرة إسلامية ضخمة، لكنها محلية والأفق الأيديولوجي لها لم يكن واضحاً. لم يكن مفهوما طبيعة أفعال “الجماعة الإسلامية”، مثلا، في التسعينيات وكانت أغلب الأعمال بمثابة رد فعل لعنف الدولة ضد هذه الجماعة، إلى حد كبير كان الأمر أقرب لحلقة مفرغة. لكن الوضع الآن مختلف، لست أمام ردود أفعال، وليست حربا عشوائية، إنما هي حرب منظمة ضد المجتمعات وليس الأنظمة السياسية. “داعش” يشن حربا منظمة على مناطق لم تعد تحت سيطرة أي من النظامين السوري أو العراقي، بل هو يحارب مجتمع متشكل بالفعل وينسفه تماما ويشكل مجتمعه الجديد.
المنطقة تعاني من فراغ استراتيجي، لم تعد متأثرة أو خاضعة لصراع الحرب الباردة، ولم تعد هناك قوة إقليمية حقيقية تتحكم بها، ولا حتى السعودية. المملكة مشغولة بحرب في جبال وهضاب وسهول اليمن ضد ميليشيات الحوثي والولايات المتحدة مأزومة. تستفيد الحرب التي يشنها داعش من هذا الفراغ الإستراتيجي. هناك سياق جديد في المنطقة بأكملها، وهذه المقدمة مهمة حتى نكون جادين في التحدث عن الإرهاب، وحربه الدائرة في مصر، لكن كل ما تقعله النخبة الحاكمة في مصر لا يؤدي إلا لتدعيم خطر الجماعات الإرهابية على المجتمع المصري. كل الإجراءات لا تعني إلا أنها تصب الحَبّ والماء في طاحون الحرب الدائرة الآن.
كما أن هناك رغبة شديدة، لدى هذه النخبة، لتصفية الحسابات مع جماعات ليست بالضرورة على علاقة بالإرهاب، كما يتمّ إغلاق المجال العام بشكل يخنق القوى الديمقراطية والمدنية، وليس الإرهاب. تركيب الجماعات الإرهابية طائفي وهذا التركيب لا يحتاج للمجال العام ليعيش فيه، لكن المواطن المصري والقوى الديمقراطية تريد وتحتاج لمجال عام. المواطن يريد أن تكون هناك نقابات، وصحافة، ورابطة عضوية تجمعه مع آخرين، لأنه لا يمتلك عمقا طائفيا يرجع إليه مثلا. تصورات النخبة الحاكمة أنه كلما تم خنق المجال العام يتم منع الإرهاب غير صحيحة، لأن ذلك سيساهم في إغلاق الطريق أمام حائط الصد في مواجهة الأفكار المتطرفة، أقصد الحالة المدنية، وتعطيلها يكون في ظل ممارسات الشرطة في السجون أو بإصدار قوانين مثل “الإرهاب”، وهو أقرب لمادة خام تسمح للسلطوية المرنة بأن توّسع مفهوم الارهاب لتستخدمه وقتما تحب ضد من تكره.
-
لكن حاليا يتم فرض العديد من القيود على الإعلام، كيف تقيمها؟
التضييق على الإعلام يأتي من هاجس لدى النخبة الحاكمة بالسيطرة. الحالة التي تشكلت قبل 30 يونيو لعب الإعلام دورا رئيسياً في تشكيلها، ولكن النخبة الحاكمة لا تزال تتحدث للجمهور المؤيد، ولم تكسب مساحات جديدة. هاجس الحاجة للإعلام، والرغبة في السيطرة عليه بالكامل كذلك، يرجع لعدم وجود حزب ينتمي له الرئيس، أو طبقة سياسية..لهذا فإن الإعلام بالنسبة له مسألة مهمة، وهو وسيلته للوصول للناس. لكن كل هذا لا يبرر المواد العجائبية والغرائبية لقانون الإرهاب، أو إلزام الصحافة بنشر تصريحات وزارة الدفاع فقط..ماذا سيحدث لو أخطأ المتحدث العسكري!؟
كما أن القانون يعاقب المُحرِّض بتهمة الإرهاب، وهذا يهدر بالكامل المشروعية الجنائية، وكل ما يمكن أن يكون مرتبطا بفكرة أن الجريمة شخصية، بأن يجعل التحريض أو السب مكافئا للقتل، حتى تكون هناك حالة من الشعور بالخوف لدى كل من سيظهر في التليفزيون أو يجري مقابلة مع جريدة أجنبية. كما أن هناك مادة بهذا القانون مرتبطة بفرض حالة الطوارئ، رغم أن الدستور ينظم فرض حالة الطوارئ ..ليكون هناك حظر طوارئ عادة وآخر مخصوص!
-
كيف يمكن توظيف النظام العام كآلية للتقييد؟
النخبة الحاكمة حاليا جاءت وعلى جدول أعمالها إنقاذ للدولة والمجتمع وهو أمر يتسم بالتناقض، لأن التصور بأن ذلك سيتم بدعم طابعها السلطوي هو وهم، بل سيؤدي ذلك لغرق الدولة!
تريد السلطة أن تسيطر على الشارع وأن تنحي الإسلاميين جانبا بأن تقمع كل الأشكال التي تسمح للإسلاميين بأن يعملوا، لا بد أن يخرس الجميع، سواء كانوا من الملحدين أو حتى من المثليين، لهذا نجد أننا أمام ميّل لفرض حالة من الانضباط، لكنها متوهمة. حينما يتم فرض برنامج إصلاح اقتصادي حسب مزاج هذه النخبة الحاكمة يتم الاستناد على ميراث قانوني، ويقمع المجال العام عن طريق الميراث نفسه. لديك تناقض وفجوات في القوانين متاحة على مدار 150 سنة، وهذا ابن الدولة وتناقضاتها. مفهوم النظام العام، ليس مقحم عليها، بل هو جزء من مسارها، ويعكس تناقضات داخل بنائها، لتجده حتى يحافظ على حرية المواطن وحياته الفردية لابد أن يمنع ويقمع أشكال محددة من إهانة معتقداته سيؤدي ذلك لإنشاء محافظة لا تشبه الفكر المحافظ الخاص بالإسلاميين، وإنما هي محافظة ابنة للدولة المصرية.
-
ما الحل؟
الإمكانية الوحيدة للحفاظ على الدولة الحديثة هي بدمقرطتها، لأن المشكلة الجوهرية في مصر أن هناك إستبعاد بالكامل للقوى الاجتماعية الفاعلة من مساحة صناعة القرار، من أول الطبقة الرأسمالية حتى الحرافيش ممنوع عليهم التواجد بهذه المساحة، ومسألة الحكم مختطفة لصالح نخبة محددة، والحل الوحيد هو دمقرطة هذه الدولة وهذه كانت الفكرة الرئيسية لثورة يناير 2011، وإلا ستقع هذه الدولة في يد القوى الإسلامية مستقبلا، لتكون دولة لا تحبها أو ترضاها، لأن اكتمالها الرئيسي سيكون عبر سيطرة نماذج مثل داعش.
-
لكن هل هذا ممكن أن يتحقق؟
مشكلة التشريع تاريخيا أنه مهنة يقوم بها القانونيون، ولا يمكن أن تكون مهمة التشريع خاصة بأهل المهنة.. القانوني هو ترزي (خياط)، وهذا ليس عيبا، لكنه يعمل لصالح برلمان. الجزء الأساسي من دمقرطة التشريع أن يكون هناك برلمان منتخب وقضاء مفتوح للعامة، وهو ما يعرف بحق التقاضي، وهو حق منسى تماما، أن القضاء سلطة من سلطات الدولة، لهذا يحق له أن يستخدمه. لا يمكن لأي مواطن أن يذهب للمحكمة الدستورية وأن يطعن أمامها بعدم دستورية قانون إلا إذا كانت لديه قضية أمام المحاكم المصرية تدفع بعدم دستورية نص تشريعي. جزء من عملية دمقرطة القانون أن تكون قاعات المحاكم مقتحمة من قِبل المواطنين. لا يوجد لديك قنوات تشريعية تسمح للمواطن بأن يُشرِّع ولا تفتح قاعات محاكم له ..لهذا فإن مسار دمقرطة القانون مجهض من المنبع.
كنت تعتبر أن الوضع في مصر يتشابه مع جمهورية فايمر الألمانية (1919 حتى 1930). كيف تقيم ذلك الآن؟
أراجع موقفي الآن. “فايمر” كان بها قوى سياسية قديمة، تعرضت لاختبار صعب حينما كانت ألمانيا بين حربين وهناك ظروف اقتصادية معقدة، لكن كانت هناك طبقة سياسية موجودة بعمق، لكن في مصر كان الوضع مختلفا، فقد كان واضحا جدا من يوم 3 يوليو أن هذه طبقة سياسية جديدة، وليست قديمة، سواء محمد البرادعي أو غيره من وجوه هذا اليوم. كما أن مصر ليس بها تجربة راسخة في الديمقراطية التمثيلية. النظم المختلفة للدولة التي تشكلت بعد 23 يوليو 1952 كان عداءها الرئيسي هو فكرة وجود طبقة سياسية مستقلة عن الدولة.
كان المشهد في 2013 أقرب لتجمعات لوجوه وشخصيات ونشطاء تشكلت على عجل بعد 25 يناير 2011، تحت ضغط الأحداث، لكن لم يكن عندها ثقافة تنظيمية أو معرفة بالعمل الجماعي أو رؤية استراتيجية للأوضاع في مصر والأقليم، كل الروئ كانت قاصرة جدا و محلية ومؤقتة كذلك، كما لم يكن لديها نفس كفاحي.