إطارات السيارات المارة على الإسفلت الملتهب تصدر صوتًا يؤكد على شدة حرارة الجو.

إطارات السيارات المارة على الإسفلت الملتهب تصدر صوتًا يؤكد على شدة حرارة الجو. في الحقيقة لا شيء يدعو للخروج في يوم تجاوزت درجة حرارته الأربعين إلا إذا كان شيئًا هاماً. 

٨٨ ش القصر العيني، مقر دار الخدمات النقابية والعمالية، أهم وأقدم مؤسسات المجتمع المدني الضالعة في الحركة العمالية منذ ١٩٩٠، حيث يقام اليوم السبت ١٥ آب/أغسطس المؤتمر الصحفي للنقابات المستقلة التي شاركت في وقفة يوم ٨/١٠ بأعداد كبيرة لم تشهدها منطقة وسط البلد منذ عزل الرئيس مرسي وذلك للمطالبة بإلغاء قانون الخدمة المدنية.

وقانون الخدمة المدنية الجديد (رقم ١٨ لسنة ٢٠١٥) الصادر في ١٢ آذار/مارس الماضي عوضًا عن قانون (٤٧ لسنة ١٩٧٨)  هو قانون مثير للجدل حتى من قبل صدوره، تقول عنه الحكومة إنه جاء “لإصلاح الجهاز الإداري للدولة” ويقول عنه الموظفون بأنه “يعمق الفساد ويفرط بحقوق العاملين”.

قاعة القيادي العمالي الراحل نبيل عبد الغني – المقام بها المؤتمر- ممتلئة عن آخرها، بنقابيين وكاميرات قنوات فضائية وصحفيين ومصوري أخبار. لا شك أن أصداء الوقفة الحاشدة التي ملئت شارع عبد الخالق ثروت حيث توجد نقابة الصحفيين كانت كبيرة، فالوقفة التي وصفتها بعض وسائل الإعلام بـ “ثورة الموظفين” ووصفها البعض بإنها “فئوية” و”إخوانية” لم تكن بالمتوقعة، خاصة بعد أن قضى قانون التظاهر على مثل تلك الأمور. ثمة أصوات عالية ومطالبات متكررة بالصمت لسمع المتحدث على المنصة. 

طارق كعيب، رئيس النقابة العامة للعاملين بالضرائب العقارية، أول نقابة مستقلة عن اتحاد العمال الرسمي في مصر، خليفة القيادي العمالي الناصري الشهير كمال أبو عيطة، على المنصة يتحدث في انفعال:
 
” فوجئنا بأن الحكومة – التي من المفترض أنها حكومة انتقالية – تصدر قانون الخدمة العامة الذي يتحكم في مصير ٦ مليون موظف وأسرهم -أي ثلث الشعب المصري- دون حوار، دون تفاوض، إن هذا القانون أقرب للسخرة.”

ثم يستطرد كعيب، الهادئ الذي تبدو عليه أمارات الرجل المهموم، منفعلًا في حرارة أثلجت قلوب زملائه “كانت ضربة البداية يوم ٨/١٠، والنهاية حتما ستكون مع سقوط القانون.” فيقاطعه صوت تصفيق زملائه.  ليستكمل قائلًا في تصميم “قررنا استمرار ضغطنا نحن والنقابات الأخرى المستقلة التي تعمل معنا على الانطلاق في مليونية لا تهدف فقط لإسقاط القانون أو وزير المالية ووزير التخطيط، بل حكومة محلب.” ثم على صوت التصفيق مرة أخرى. 

هكذا هم موظفو الضرائب العقارية، أصحاب مفاجآت من العيار الثقيل، نشأة نقابتهم نفسها كانت مفاجأة من العيار الثقيل حتى لنظام “مبارك”. 

قصة الضرائب العقارية


في سبتمبر ٢٠٠٧ يشتعل فتيل الاضراب الشهير لموظفي الضرائب العقارية الذي سيبدأ بإضراب محدود في مأمورية الجيزة لتنتشر بعدها عدوى الإضرابات في باقي المأموريات على مستوى الجمهورية، وذلك للمطالبة بمساواتهم بموظفي الضرائب العامة في الأجور وإعادة مصلحة الضرائب العقارية إلى وزارة المالية بدلًا من تبعيتها للمحليات. 

يبدأ الموظفون يقودهم كمال أبو عيطة في التنسيق وتكوين لجان تعمل على التواصل بين موظفي المأموريات الأخرى، وبناء قاعدة عريضة من بينهم تتحرك للضغط من أجل تحقيق مطالبهم، إلى أن استطاعوا حشد آلاف العاملين الذين اعتصموا في ٣ كانون الأول/ديسمبر ٢٠٠٧ لعشرة أيام تقريبًا في شارع حسين حجازي أمام مجلس الوزراء حتى رضخت الحكومة لمطالبهم.

بعد عام من الاعتصام أعلن العاملون بالضرائب العقارية إنشاء نقابتهم لتكون أول نقابة مستقلة عن الاتحاد العمالي الوحيد -اتحاد عمال مصر- الذي لا تعترف الدولة بسواه، وكان الاتحاد قد خذلهم عند عرض مطالبهم على الحكومة، بل عمل أعضاء مجلس إدارته، الذين تختارهم الحكومة، على تفريغ الاعتصام من قوته بإشاعة الإحباط أو ترهيب الموظفين من بطش الدولة.

شن الاتحاد حملات ضد النقابة الوليدة بحجة أنها غير معترف بها. وبمساعدة دار الخدمات وعدد من الناشطين في الحركة العمالية محليًا ودوليًا، قَبَل الاتحاد الدولي للخدمات العامة عضوية النقابة، وكان ذلك بمثابة اعتراف دولي. ومن أجل الحصول على اعتراف الدولة، استغل أعضاء النقابة زيارة لجنة المراقبة على تطبيق المعايير التابعة لمنظمة العمل الدولية لوزارة القوى العاملة لمتابعة مدى موائمة التشريعات المصرية مع اتفاقية ٨٧ الخاصة بالحرية في التنظيم، ليقدموا أوراقهم اعتماد نقابتهم للوزيرة التي لم يكن أمامها إلا قبول أوراقهم وإلا سجلت لجنة المعايير تعنت الدولة أمام الحرية النقابية التي تكفلها اتفاقية منظمة العمل الدولية. 

فتح انتصار نقابة العاملين بالضرائب العقارية على الدولة وإجبارها على الاعتراف بها الباب أمام نقابات مستقلة أخرى لتتشكل وتمثل قطاعات عمالية لم يكن بها تمثيل نقابي من قبل، وألهم نقابات تتبع الاتحاد الرسمي برفض تلك التابعية وإعلان استقلاليتها.

بعد الثورة قادت نقابة الضرائب العقارية الحركة النقابية الجديدة، وأسهمت مع نقابات أخرى في إنشاء أول اتحاد للنقابات المستقلة ليصبح رئيسها كمال أبو عيطة رئيسًا للاتحاد الجديد، ثم بعد ذلك وزيرًا للقوى العاملة في عام ٢٠١٣.      

مباراة جديدة


وهاهي نقابة الضرائب العقارية تواجه الحكومة ثانية، لكن هذه المرة في ظروف مختلفة. فهي لم تعد نقابة صغيرة بل نقابة متمرسة، اثقلتها خبرتها النقابية، كما أنها لا تقف وحدها بل يشاركها النقابة العامة للعاملين بالضرائب العامة والنقابة العامة للعاملين بالضرائب على المبيعات وكيانات نقابية أخرى أمام حكومة أصدرت قانونًا للتظاهر لا يسمح بأية حرك مجتمعي، فضلًا عن فزاعة الإسلام السياسي التي يستخدمها النظام الحالي لإسكات المعارضة وقانون الإرهاب الجديد. واللعب سيكون إما بإسقاط قانون الخدمة المدنية كما تريد النقابات المستقلة أو الإبقاء عليه كما أرادت الحكومة.

ينهي طارق كعيب كلمته ويترك الميكروفون لبعض المشاركين الذين يؤكدون على أن القانون جاء لتتخلص الحكومة من الأعباء المالية للجهاز الإداري في الموازنة العامة من خلال تسريح الموظفين بإعطاء الصلاحيات لمرؤوسيهم بتقييم أدائهم في العمل والتخلص ممن يرونه غير صالح للعمل، مع التقليل من الحوافز والزيادات بربطها بحد أقصى لا يمكن تجاوزه. 

ثم أنهت فاطمة فؤاد، رئيس النقابة العامة للعاملين بالضرائب على المبيعات التي يصفها زملاؤها بــ “ست بميت راجل” (سيدة بمئة رجل) المؤتمر الصحفي، بصوتها الذي أنهكه الهتاف، قائلة “نحتاج لأن نجمع كل الفئات المتضررة من القانون لمناقشته علينا أن نعمل لكسب المزيد إلى صفوفنا. جروبات الفيسبوك تحت المراقبة، التليفونات تحت المراقبة وهناك من يعمل معنا ولكنه في الأصل يعمل ضدنا.” ثم أضافت في إصرار ” لذا علينا استكمال ما بدأناه لأننا لا نخاف أحد، نحن لا نعمل ضد مصلحة الدولة.. نحن نعمل من أجل مصلحة المواطن. علينا أن نقرر موعد المليونية بالتوافق مع باقي النقابات لإسقاط القانون.”   

“القانون بالأساس ولد من عدم، لأن الجهة التي أصدرته غير مختصة، وهي لجنة الإصلاح الإداري بوزارة التخطيط، والآولى بإصدار مثل هذا القانون هو الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة.” يقول مبروك عبد المنعم، عضو مجلس إدارة اللجنة النقابية للعاملين المركزي للتنظيم والإدارة، لــ”مراسلون” ويضيف “بالنسبة لشق تطبيق الإجور، نجد أن معدلات الزيادة التي يقرها القانون لا تتماشى مع نسبة التضخم. أما بالنسبة للشق الإداري في القانون فبه عيوب دستورية وانتقص من حقوق الموظفين التي تكفلها الدولة.”

وقفة ٨/١٠

“بعد تجاهل الحكومة لنا، وتجميل الإعلام للقانون. واكتشاف العاملين لإجحاف القانون، رأينا ضرورة عمل وقفة احتجاجية لتنبيه المجتمع بعوار القانون الذي أخرجته الحكومة في غفلة من الجميع.” تقول فاطمة فؤاد لـــ “مراسلون” وتضيف “١٨ لجنة تنسقية كانت تعمل على مستوى الجمهورية لتوعية العاملين بأضرار القانون والحشد للوقفة الاحتجاجية في ٨/١٠ ، كما أسسنا غرفة للعمليات ظلت تعمل من بداية رمضان الماضي. وقدمنا إخطارًا للأمن، وحاولت إدارتنا في المصلحة أن تشيع أن الأمن ألغى الوقفة.”

“عندما تقدمت نقابة العاملين بالضرائب على المبيعات بإخطار بالوقفة التي سمح بها الأمن لم تكن الحكومة تتوقع مشاركة هذا العدد الكبير.” يقول طارق كعيب لــ “مراسلون” ويضيف “ساندنا زملائنا من خلال ٢٧ لجنة على مستوى المحافظات، في توعية العاملين في مصالح الضرائب بالقضية، والمتابعة اليومية وحل المشكلات، ثم أعلننا تضامنّا معهم في بيان صدر من نقابة الضرائب العقارية.”

ويستطرد كعيب قائلًا “انتظرنا لحظة تطبيق الأجور بحسب قانون الخدمة المدنية الجديد، للحشد للوقفة، فبعد أن وجد العاملون نقصًا في نسبة العلاوة المقررة، أصبح جليًا أثر القانون على العاملين. وإلا لم يكن شق الأجور قد طُبق وفق القانون الجديد ما كنا سنقوم بالوقفة. نحن الآن في مرحلة جزر، والدولة الآن في عنفوانها وتستغل كل وسائلها الأمنية لتثبيت النظام الجديد، لكن استجابة الناس ضد قانون الخدمة المدنية كانت مؤشرًا إيجابيًا للحركة النقابية.” 

وبعد أن تواترت الأنباء عن التهديد بــ”مليونية” رفض القانون، اجتمع ابراهيم محلب رئيس الوزراء بممثلي نقابتي الضرائب العامة والضرائب على المبيعات في ٨/١٧ دون حضور طارق كعيب ممثلًا عن الضرائب العقارية، لمناقشة القانون وما عليه من اعتراضات، إلا أن النقابات المشاركة أعلنت فشل الاجتماع بعد انتهائه دون جدوى. كما رفض الأمن طلب نقابة الضرائب العقارية إقامة وقفة في ذات اليوم أمام وزارة المالية احتجاجًا على القانون. 

يقول كعيب “قررنا التصعيد، بعد إلغاء وقفة ٨/١٧، لقد وفروا علينا مرحلة، فنحن لم نكن لنكتفي بتلك الوقفة، نحن نعمل علي الانطلاق في مليونية لإسقاط القانون.”

الآن تتسارع الأحداث، والنقابات المستقلة وعت الدرس وتعلمت سبل التنسيق والتحرك المدروس وأنشئت فيما بينها تنسيقية أو تحالف يضم ١٩ نقابة مستقلة تحت اسم “تضامن” وشعار واحد “لا لقانون الخدمة المدنية”، وأعلن التحالف يوم ١٢ أيلول/سبتمبر القادم موعدًا لمليونية ستقام في حديقة الفسطاط بالقاهرة. 

فهل ستنجح النقابات المستقلة في إسقاط القانون وإلقاء حجر كبير في مياه الحراك المجتمعي الراكدة في مصر أم أن الحكومة سترغم الجميع بالأمر الواقع؟