رغم الجهود الحثيثة للمبعوث الأممي إلى ليبيا إلا أن مسوّداته المتعاقبة افتقدت للعنصر الأهم في القطع مع حالة الفوضى وإعادة تجميع أشلاء الكيان السياسي الليبي؛ وهو صناعة مفهوم مشترك للأمن القومي تتحقق به وحدة هذا الكيان ويكون نواة لأي سلطة سيادية ممثلة للدولة الليبية.
السيّد برناردينو ليون يعلم –قطعاً- أن السبب الرئيس لوجود هذه الدولة ضمن المنظومة الإقليمية والعالمية هو وجود هذا المفهوم الأمني المشترك الذي تُعرّف من خلاله جملة المخاطر التي تهدد الشعب.
المبعوث الدولي من خلال إدارته للحوار بين المؤتمر الوطني العام (مقره طرابلس غربي البلاد) ومجلس النواب المنتخب (مقره طبرق شرقيها) تجاوز استحقاقات لا غنى عنها لإحياء الكيان السياسي الليبي، الذي لم يعد له وجود من الناحية العملية، وافترض الحل في تشكيل حكومة وحدة وطنية دون محاولة إيجاد أرضية مشتركة من الثوابت ينطلق منها هذا المشروع.
الاتفاق على حكومة الوحدة الوطنية أتى بعد جولة من المفاوضات ومسودة اتفاق جرى تعديلها خمس مرات، ووقعت جميع الأطراف عليها، باستثناء الجناح المتشدد في المؤتمر الوطني العام.
وفي اجتماع الخميس الذي سيعقد في مدينة الصخيرات المغربية يتوقع أن يوافق المؤتمر على المسودة مع بعض التعديلات، ويتوقع طرح أسماء مرشحين لتولي رئاسة حكومة الوفاق الوطني التي ستستلم السلطة بعد التوقيع. لكن كيف ستتجسّد هذه الوحدة مالم تكن هناك ثوابت مشتركة واضحة بين الأطراف التي ستتشكل منها هذه الحكومة؟ وما هي قيمة أي كيان سياسي يضم مجموعات تتناقض أولوياتها الأمنية وما مدى قابلية هذا الكيان للاستمرار؟ ولماذا يتم توطين دولة فاشلة عاجزة وظيفياً لا تمتلك القدرة على رعاية مصالح مواطنيها وتفتقد للسيطرة على مقدراتها ولا تكاد تكون لها إرادة سياسية مستقلة؟
قضية صناعة الثوابت يترتّب عليها بقاء هذا الكيان السياسي من عدمه، والإمعان في التغافل عن صناعة هذه الثوابت يعني تقويض مشروع الدولة الليبية. ولا يسع فريق المتحاورين الانسياق خلف رؤية الوسيط الدولي بإخفاء بذور الأزمة الوطنية، فالمخاطر والتحديات التي تهدد استقرار هذا الكيان ليست خافية، ومن خلالها قد ينفذ المتحاورون إلى بوادر الحل إذا تحلّوا بالشجاعة والمسؤولية اللازمة لمواجهتها.
أهم تلك القضايا هي قضية الإرهاب المتمدد إقليمياً والوقوف على أرضية مشتركة لمكافحته. القضية الثانية هي كيفية إدارة الموارد الطبيعية في ليبيا بعيداً عن نظام السلة المركزية. وأخيراً قضية التغوّل المناطقي والقبلي والحزازات بين المدن والمناطق ومصير مشروع العدالة الانتقالية.
التفاهم المبدئي حول هذه القضايا مجتمعة يشكّل أساس الخارطة الأمنية ونواة الأمن القومي الذي يجب أن يرتكز عليه الكيان السياسي الليبي الجامع.
هذا الاستحقاق التاريخي لن يقوم به المبعوث الدولي ولا غيره من الوسطاء، بل هي مسؤولية فريق الحوار بكافة أطيافه والمؤثّرين في مساره من الجانب الليبي، فحاجة الليبيين للسلم والتسوية وتجاوز هذه المرحلة الكارثية لا تعفي المتحاورين من مسؤولية بناء خيار عقلاني بمبادرة ذاتية ورؤية محلية يجنّب الليبيين ويلات الفوضى والحروب.
أمّا الأطراف الدولية الراعية للحوار فلن تكون أكثر حرصاً من الليبيين أنفسهم، وهي تدرك جيداً النقطة التي وصلت إليها “أزمة الدولة الوطنية” في ليبيا وفي المنطقة العربية عموماً، بل ويتحدث قادتها وزعمائها ومراكز الأبحاث لديها صراحةً أن “سايكس بيكو” لم تعد تعمل، وتبدو بحاجة إلى إعادة نظر وتحسين في بعض الجوانب!!، وقد يكون لهم تأثير في الدفع نحو إعادة ترتيب المنطقة سياسياً، خصوصاً في ظل وجود آثار مباشرة لانهيار المنظومة السياسية العربية على الجانب الاوروبي، وعلى رأسها ملف الهجرة غير الشرعية المتنامية عبر المتوسط.
المفهوم المشترك للأمن القومي هو نواة الدولة الواحدة أما الأولويات الأمنية المتناقضة داخل الكيان السياسي فهي سمة الكيانات الهلامية الفاشلة، وهي بذور خامدة للحروب الأهلية ومطيّة لاستنزاف البلد اقتصادياً.
فسلطة المنطقة الخضراء لن تكون إلا بوابة دخول وخروج للسفارات والبعثات الأجنبية ووسيلة للتصرّف في موارد الشعب بعيداً عن مصلحة المواطن وعلى حساب توطين الأزمات وترحيلها إلى أجل غير مسمى.
الشعوب لا تستقي أسباب وجودها من شعارات أو خطابات سريعة الزوال، بل ترتكز على رؤية عقلانية جامعة للأمن والاقتصاد وحقوق الأفراد والعدالة الاجتماعية.. انفراط عقد الثوابت حول هذه القضايا يضع تحديات حقيقية أمام استمرار هذا الشعب وقدرته على إيجاد كيانه السياسي داخل المنظومة الدولية الحديثة.