بعد التحرير في تشرين أول/أكتوبر 2011 بدأ الصراع السياسي على السلطة بين ميليشيات مصراتة وميليشيات الزنتان اللتان كانتا تتقاسمان الهيمنة العسكرية على العاصمة طرابلس.
بدأ ذلك، تحديداً، مع انتخاب عبد الرحيم الكيب من طرف المجلس الوطني الانتقالي لتشكيل حكومة انتقالية بعد التحرير. فخضع في تشكيلها لضغوط القوتين المتنافستين (مصراتة ـ الزنتان) على اغتنام النفوذ السياسي والمكاسب المالية.
بعد التحرير في تشرين أول/أكتوبر 2011 بدأ الصراع السياسي على السلطة بين ميليشيات مصراتة وميليشيات الزنتان اللتان كانتا تتقاسمان الهيمنة العسكرية على العاصمة طرابلس.
بدأ ذلك، تحديداً، مع انتخاب عبد الرحيم الكيب من طرف المجلس الوطني الانتقالي لتشكيل حكومة انتقالية بعد التحرير. فخضع في تشكيلها لضغوط القوتين المتنافستين (مصراتة ـ الزنتان) على اغتنام النفوذ السياسي والمكاسب المالية.
الأولى تتبع مصالحها الجهوية بالدرجة الأولى وتناصر تيار الإسلام السياسي. والثانية تتبع مصالحها الجهوية كذلك، وتناصر تيار ما سوف يُعرف لاحقاً بتحالف القوى الوطنية. وكان أن انعكس نفوذهما العسكري في نفوذ سياسي داخل تشكيلة الحكومة وإدارة المؤسسات والهيئات.
فتم تعيين أسامة الجويلي (الزنتاني) وزيراً للدفاع، وتعين فوزي عبد العالي (المصراتي) وزيراً للداخلية. وبتأثير الإخوان حظي اللواء يوسف المنقوش (مصراتي) برئاسة هيئة الأركان، بدلاً من اللواء خليفة حفتر، الذي كان مدعوماً من ضباط بارزين في الجيش الليبي المهمش في عهد القذافي لصالح كتائبه العسكرية الأمنية.
جيفري فيلتمان مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى يقول في رسالته إلى وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون إن رفض رئيس الوزراء عبد الرحيم الكيب تعيين اللواء خليفة حفتر رئيساً للأركان سببه “عداوة شخصية” وهو تفسير سطحي وقاصر في نظري.
السبب الحقيقي والموضوعي وراء استبعاد حفتر من تولي المنصب أنه غير مرغوب فيه من القوتين الجهوتين المتنافستين على تقاسم النفوذ السياسي الغنائمي في العاصمة: مصراتة والزنتان. فالسيد الكيب كان رئيس وزراء تابع لجماعة الإخوان ولم يكن صاحب قرار في شأن ما يسمى “كتائب الثوار”.
وبخصوص الصراع بين كتائب الزنتان وكتائب مصراتة، نجد في رسائل هيلاري كلينتون رسالتين. الأولى من جفري فيلتمان، موجهة بتاريخ 6 كانون الثاني/يناير 2012 إلى جيكوب سوليفان (مدير إدارة التخطيط السياسي ونائب كبير موظفي وزارة الخارجية) وجين كريتز (أول سفير للولايات المتحدة في ليبيا) بالإضافة إلى وليام بيرنز (نائب وزير الخارجية) لتصل أخيراً إلى إيميل هيلاري رودهام كلينتون.
يتبين من رسالة جيفري فيلتمان أن أسامة الجويلي (الزنتاني) وزير الدفاع مقرب من الإمارات التي تدعم مليشيات الزنتان، فيما تدعم قطر ميليشيات مصراتة التي يمثلها في الحكومة فوزي عبد العال (المصراتي). ورسالة (جيفري) ملحقة بتعقيب من جين كريتز أكد فيه على ضرورة بقاء عبد الحكيم بلحاج خارج الحكومة كي يكون قادراً على “إحداث المشاكل”.
ثم يخاطب (جين) جيكوب سوليفان، قائلاً: “يا جيك ربما تتذكر أن (إيه بي زي) حذرك بالضبط من هذا الخطر في ذاك الاجتماع الغريب الذي أصرت عليه قطر على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة..”.
وفي رسالة ثانية في 9 كانون الثاني/يناير 2012 بعد ثلاثة أيام من الرسالة السابقة نجد إشارة استخباراتية مركّزة عن أفول نجم عبد الحكيم بلحاج. الرسالة من جين كيرتز. والمرسل إليه المباشر: جيفري فلتمان وجيكوب سوليفان. والموضوع (صديق هيلاري!!).
مضمون الرسالة المركزي يدور حول الأزمات التي تواجهها حكومة الكيب، وعدم القدرة على تنفيذ الخطة المفصلة التي وضعها وزيرا الداخلية (فوزي عبد العال) والدفاع (أسامة جويلي) بشأن إدراج 25 ألفًا من الثوار في قوات الأمن والقوات المسلحة والقطاع الخاص بمجموع 75 ألفًا.
ويُرجع جين كريتز عدم القدرة على التنفيذ إلى نقص التمويل وعدم استعداد “أيً من الميليشيات للتزحزح دون رؤية دليل على أن الآخرين ينوون فعل المثل.”.. ويؤكد أن نجم عبد الحكيم بلحاج قد أفل “خلال الأسابيع العدة الماضية” وأن الإسلاميين:” يطالبون بنصيبهم من الكعكة السياسية مثل الجميع، لا أكثر ولا أقل..”.
ويسترسل كيرتز في توضيح مغزى ما يطالب به الإسلاميون من خلال سرد قصة مفككة بغرض تقديم استنتاجات قاطعة بشأن ما يريده الليبيون. إذ يروي: “التقيت مصدرًا ليبيًا بالأمس قابل رجل ميليشيا من الزنتان، رئيس هذه المجموعة طالب بكتابة دور المرأة في الدستور وفقًا للشريعة، وفي حال عدم حدوث ذلك هدد الرجل برفع الأسلحة مرة أخرى…”، وكأن ما قاله هذا القائد الميليشاوي من الزنتان مطالبة جازمة من كل الليبيين. وهو لم يشرح ولم يكن يقدر أن يشرح مقصود كلام الرجل الميليشاوي الزنتاني بشأن دور المرأة وفقاً للشريعة.. أي شريعة؟! أهي الشريعة بتفسير الفقه المالكي اليسير الذي يتبعه الليبيون منذ مئات السنين؟! أم هي الشريعة بالتفسير الوهابي القاعدي الداعشي الوافد كوباء؟!.
ما لم يدركه (جين) لما كتب رسالته، في كانون الثاني/يناير 2012، أن الليبيين سوف يمتنعون، في انتخابات آب/أغسطس 2014 عن إعطاء غالبية أصواتهم الساحقة لمن أدركوا أنهم ممثلو تيار الإسلام السياسي. لأن معظم الليبيين تبين لهم أن (الإسلاميين) الذين انتخبوهم للمؤتمر الوطني العام في شباط/فبراير 2012 ليسوا أولياء صالحين. وإنهم مثلهم مثل غيرهم من البشر، ليسوا محصنين من الكذب والتدليس والفساد والإفساد.
وبالتالي أسفرت انتخابات مجلس النواب التي جرت بنظام المستقلين عن هزيمة نكراء لقوى الإسلام السياسي المتمثل في تحالف الإخوان والجماعة المقاتلة والسلفيين المتسيسين، مقابل فوز عريض للقوى السياسية المدنية متمثلة في نواب مستقلين. فاعتبرت ميليشات مصراتة (التي في معظم مكوناتها ليست إسلامية آيديولوجيا، لكنها جهوية صميمة) خسارة الإسلاميين للانتخابات نصراً لميليشيات الزنتان (عدوها اللدود)، فقامت بغزو العاصمة طرابلس وطرد مليشيات الزنتان ما بعد الزاوية (50 كيلومتر خارج طرابلس غرباً) وأعادت إحياء ما كان يُسمى بالمؤتمر الوطني العام وفرضت عليه أن يشكل حكومة تنال رضاها.
ومع ذلك استمرت السياسية الخارجية الأمريكية من خلال سفيرتها في طرابلس (ديبورا جونز) المقيمة خارج ليبيا حريصة على اقحام ممثلي المؤتمر الوطني وحكومته (المختلقة) وأمراء الميليشيات المهيمنين بحكم القوة القاهرة على العاصمة، طرفاً لا بد منه في صياغة أي اتفاق توافقي محتمل بشأن مستقبل ليبيا، حتى أنه لما تم التوقيع على “اتفاق الصخيرات” المغربي بالأحرف الأولى ورفضه بقايا المؤتمر الوطني العام، عادت السفيرة الأمريكية إلى استخراج فذلكات سياسية تشكك ضمناً في قيمة الاتفاق.
وبالعودة للحالة الليبية في وقت تحرير الرسالتين الآنف ذكرهما، نتوقف عند التقييم الأمريكي لعملية نزع سلاح الميليشيات، ومفادها أنها: “لا تسير كما كنا سنريدها.. ورغم ذلك قال لي وزير الداخلية (فوزي عبد العال) على هامش نقاش رئيس الوزراء مع نائب رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية اليوم إن الأمور جيدة…”، ويتفاءل السيد جين كيرتز بـ”شعاع ضوء واحد إيجابي”، لأن ممثلي مجلس طرابلس المحلي أخبروه أنه بدأ تسجيل الثوار لتحديد أي من القطاعات الثلاثة المحتملة سيتم إدخالهم فيه..”.
بينما كان ما يراه “شعاع ضوء واحد إيجابي” لم يكن، في الواقع الليبي الذي أخبر تفاصيله المعقدة، سوى ألعاباً نارية خادعة. إذ كان رئيس الأركان يوسف المنقوش (المصراتي) يصرف مئات الملايين، رواتب وأسلحة، لتقوية الميليشيات الجهوية المصراتية والإسلامية (جماعة إخوان والجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة) فيما يقوي وزير الداخلية فوزي عبد العال (المصراتي) نفوذها في القوى الأمنية التابعة لوزارته وبالمقابل عمل أسامة الجويلي على تقوية ميليشات الزنتان بالأسلحة والمال.
وهكذا لم يفهم الأمريكان ومعهم الأوروبيون أو قلّ لم يريدوا أن يفهموا أن أس الفوضى والاحتراب بعد التحرير سببه عدم إخراج ميليشيات مصراتة والزنتان من العاصمة السياسية (طرابلس). وهو ما كان تحقيقه ممكناً لو أن القوى الغربية (أمريكا، فرنسا، بريطانيا) لم تنسحب من دورها المساعد والضاغط بعد سقوط النظام ومقتل القذافي.