في بداية التسعينات اتجهت الدولة والمجتمع بطرق مختلفة في محاولة للحد من انتشار مخدر الهيروين في مصر، بعد ازدهاره الرهيب في الثمانينيات وظهور أعراضه المدمرة على قطاعات واسعة من الشباب. من تلك النقطة تحديداً بدأ السطوع  الأول لنجم جديد في سوق المخدرات المصري، الترامادول، والذي كان يستخدم، كما هو استخدامه الطبي الأصلي، كمخدر قوي وقاتل للآلام الشديدة -كأحد الأعراض الانسحابية-  أثناء العلاج من إدمان تعاطي الهيروين.

سلم الموت

في بداية التسعينات اتجهت الدولة والمجتمع بطرق مختلفة في محاولة للحد من انتشار مخدر الهيروين في مصر، بعد ازدهاره الرهيب في الثمانينيات وظهور أعراضه المدمرة على قطاعات واسعة من الشباب. من تلك النقطة تحديداً بدأ السطوع  الأول لنجم جديد في سوق المخدرات المصري، الترامادول، والذي كان يستخدم، كما هو استخدامه الطبي الأصلي، كمخدر قوي وقاتل للآلام الشديدة -كأحد الأعراض الانسحابية-  أثناء العلاج من إدمان تعاطي الهيروين.

سلم الموت

يخبرنا ياسر عبد الغفار، 27 عاما، وهو طالب أوقف دراسته بكلية الهندسة جامعة القاهرة منذ أربع سنوات دون أن ينهيها، عن رحلته مع الترامادول، والتي استمرت طوال تسع سنوات تطورت من التجربة إلى التعاطي إلى الإدمان وصولاً إلى الإتجار، تخللتها محاولات عديدة للعلاج ، باءت جميعها بالفشل.

كانت البداية هي التجربة. “جرب الكبسولة  دي”، نصيحة مجانية ودواء مجاني من صديق مخلص في أولى سنوات الدراسة الجامعية والنزوح إلى العاصمة، إحساس رائع، العقار يساعد على التركيز والتحصيل والمذاكرة والسهر طول الليل، كما أنه يقوم بإلغاء كل المؤرقات العادية، آلام الظهر، الصداع، حتى الجوع والعطش يقلل الإحساس بهما لأقصى درجة. بعد الترامادول أنت لا ترغب سوى في الشاي والسجائر وبعد انتهاء التجربة أنت لاترغب سوى في تكرارها.

بمرور الوقت لم تعد الجرعة “50 ميلليجرام” تكفي ياسر، لم تعد تحقق له التأثير المرجو، وفي خلال أسابيع من التعاطي اليومي قام بمضاعفة الجرعة ثلاث مرات، وفي خلال عام أصبحت الجرعة اليومية التي يعتقد أنه لا يستطيع الحياة بدونها هي “400 ميلليجرام ” أي ثماني أضعاف الجرعة التي بدأ بها، على هيئة قرصين كل قرص فئة الـ “200  ميلليجرام”، يتناول أحدهما في بداية اليوم والآخر في منتصفه.

يصف ياسر عبد الغفار رحلته مع الترامادول بالصعود على سلم الموت. بعد سنوات من التعاطي ومضاعفة الجرعات لم يعد يشعر بكونه انساناً، بل هو مجرد عبد للعقار. الترامادول “أسلوب حياة”، هكذا يصفه، فقد كان يأكل فقط حتى لا يقع من الإعياء ليستمر في التعاطي، يشرب الشاي بلا توقف لجعل “الحباية” تعمل بشكل أسرع وأفضل. يشرب الحشيش بشراهة لأن هذا المزيج يضاعف الإحساس، الإحساس باللاإحساس.

بعد دخول الترامادول لقائمة الأدوية المخدرة أصبح من الصعب صرفه من الصيدليات. لجأ ياسر وغيره من متعاطي العقار إلى الترامادول المستورد، الأرخص سعراً لكنه أقل فعالية. ففي 2010 وصلت جرعة ياسر اليومية إلى “1200 ميلليجرام” باليوم الواحد، ومع الاتساع المفرط للسوق السوداء للترامادول ودخوله البلاد بشكل كبير مع وبعد الثورة بدأ ياسر يشعر بتزايد أعراض كان يتجاهلها. بدأ يحس بالذي يراه الجميع وينكره هو من انخفاض وزنه بشكل كبير وتدهور صحته العامة. بدأ يشعر بارتعاشات بذراعيه وقدميه، تطورت لتشنجات ازدادت حدتها مع الوقت، مع مشاكل حادة في الهضم، مع عودة لآلام كبيرة في مفصل الكتف إثر حادث قديم، كانت قد صمتت لسنوات، بسبب الترامادول، هاهي تعود بضراوة، ولا يجدي معها رفع الجرعات الكبير شيئاً.

عندما زادت جرعاته ولم يعد مصروفه بالاضافة لمصاريف الدروس الخصوصية الوهمية والكتب والملازم التي لا يشتريها يكفي للانفاق على الترامادول، بدأ يبيع لأصدقاؤه، ويرى أن هذه التجارة حلال طالما لم يحرم الدين الترامادول، وأن الدولة هي من تمنعه لأنها ترغب في بيعه بنفسها. وبالرغم من المكاسب التى حققها ياسر، لسهولة حمل وتخزين وجلب واخفاء العقار واشتراك كافة طبقات المجتمع المادية والمهنية والعمرية في تعاطيه، إلا أنه فقدها كلها بل واستدان بعد بداية رحلة العلاج.

نتائج عكسية لمحاولة غلق الصنبور

في أيلول/سبتمبر 2009 اعتمد وزير الصحة وقتها الدكتور حاتم الجبلي قراراً بأن يتم صرف الأدوية التي تحتوي على عقار الترامادول بموجب وصفة طبية، يدّون فيها اسم الطبيب والمريض، مع احتفاظ الصيدلية بالوصفة.

وفي شباط/فبراير 2012 تم تضييق الخناق أكثر على الترامادول المصري والمستورد حين أصدر الدكتور فؤاد النواوي وزير الصحة قرارا بإضافة الترامادول لأدوية “الجدول الأول للمخدرات” على أن يتم معاملته قانوناً كالمورفين، وهو ما يعني منع صرفه نهائياً سوى بالروشتة (الوصفة) الحمراء الممنوحة من وزارة الصحة، وهو ما اعتبرته نقابة الصيادلة قراراً كارثياً. فقد ذكر الدكتور أشرف مكاوي عضو مجلس نقابة الصيادلة أن هذا القرار يحوّل مسؤولية تداول العقار من الصيادلة إلى تجار الشنطة ومصانع “بير السلم”، مما سيجعل الإقبال عليه يتضاعف. وأضاف مكاوي في تصريحات صحفية أطلقها على هامش مؤتمر المركز المصري للدراسات الدوائية أن هذا القرار من أخطر القرارات التي تم اتخاذها دون دراسة، حيث أن حجم تجارة الترامادول أثناء بيعه بالصيدليات بلغ من 9 إلى 12 مليون جنيه في العام، وصل بعد القرار إلى 100 مليون جنيه قابلة للزيادة، أعتماداً على الترامادول المُهرَب.

زيارة إلى ميناء السخنة

الدولة لا تصنع الترامادول تقريباً ولا تستورده إلا في أضيق الحدود، لدرجة أن مستحقيه الأصليين من المرضى يحصلون عليه بصعوبة تقترب من الاستحالة. من أين تأتي إذن كل هذه الكميات المهولة من الترامادول والتي وصلت في الشهور الأخيرة إلى أن كل شارع به تاجر ترامادول، كما أصبح المخدر رقم واحد في حجم التداول في سوق المخدرات المصري؟

للإجابة على هذه التساؤلات قام معدّ هذا التحقيق بزيارة لميناء السخنة، وهي أكبر الموانيء المصرية استقبالاً للبضائع القادمة من دول جنوب شرق آسيا، وهناك كان لنا لقاء مع المخلّص الجمركي محمد عرفة والذي حاول أن يوضح لنا بعض الحقائق حول تهريب الترامادول.

يخبرنا عرفة أن ميناء السخنة هو المدخل الأكبر للترامادول في مصر، حيث أن دول المنشأ الأساسية الخاصة بالعقار هي الصين والهند. وبالرغم من كون النسبة الأكبر من الحاويات التي تدخل الميناء هي من الصين، إلا أن النسبة الأكبر من الحاويات التي يتم العثور فيها على شحنات ترامادول تكون مهربة من الهند، وأن نوعية الشحنات التي يتم تهريب الترامادول بداخلها هي في الأغلب لعب أطفال، لذلك جاء قرار وزير الصناعة والتجارة بمنع استيراد فوانيس رمضان ولعب الأطفال بشكل عام ليس لحماية الصناعة المصرية فقط، لكن للحد أيضاً من دخول الأدوية المهربة بداخلها، خاصة الترامادول والعلاجات الجنسية.

سر ارتفاع سعر الترامادول  

وعن ما يسمى بـ “أزمة الترامادول” أو الارتفاع الكبير في سعره الذي وصل لعشر أضعاف السعر فقط في الأسابيع القليلة الماضية، شرح لنا محمد عرفة الأسباب مع مقدمة عن كيفية التحايل على الجمارك لتهريب الأدوية المخدرة والمنشطات الجنسية وعلى رأسها الترامادول. 

يوضح لنا الرجل أن أي عملية استيراد – أو تصدير- تتم عبر أربع أشخاص، المورد والمستورد والمخلص الجمركي ومأمور الجمرك. المورد يقوم بإخفاء المواد المهربة داخل شحنات من أنواع عديدة أغلبها شحنات لعب الأطفال، المستورد يستقبل البضاعة عن طريق المخلص الجمركي ويقوم بالأمور الادارية والروتينية مثل إعداد المستندات وحساب الضريبة الجمركية للبضائع، كما أنه يقوم بدفع نصف الضريبة الجمركية مقدماً ويسهل الاتصال بين المستورد والمورد ومصلحة الضرائب، بينما يقوم المأمور الجمركي بتفتيش الشحنة قدر المستطاع.

المستورد أمام  اختيارين، إما أن يثق بالحظ الجيد ولا يخبر المخلّص عن محتوى الشحنة غير الشرعي، وبذلك يوفّر فرق المبلغ الذي سيطلبه المخلص إن علم بطبيعة الشحنة ونجح في تخليصها. للمخلصين أساليبهم، وبالطبع هناك نسب رشاوي، لكن جهود المكافحة في الأشهر الأخيرة أتت بنتائجها، حيث تم رفع “تأشيرة كشف الحاويات” وهي “نسب الحاويات التي سيتم فتحها كعينة من الشحنة” من عشرة بالمائة إلى مائة بالمائة، كما أن تقنية الكشف بآشعة إكس كانت تطبّق على نوعيات معينة من البضائع دون غيرها، أصبحت تطبق على أغلب إن لم يكن كل أنواع البضائع، وبالرغم من ارتفاع نسب المضبوط من الترامادول إلا أنه من شبه المستحيل منعه نهائياً لابتكار طرق اخفاء جديد كل يوم، حتى وإن قلت كمية المعروض وارتفع السعر، إلا أنه سيظل يدخل ولو بكميات قليلة مخفاة بعناية داخل الحاويات العملاقة.

تحليل قرص ترامادول

بتحليل قرص ترامادول صيني مهرب وجد إحتوائه على المواد :

باراسيتامول               مادة مسكنة             بنسبة 10 % من محتوى القرص

كافيين                      مادة منبهة               بنسبة 5 % من محتوى القرص

ديازيبام                    مادة مهدئة              بنسبة 10 % من محتوى القرص

سيلدينافيل                 علاج لسرعة القذف     بنسبة 8 % من محتوى القرص

كلوروفينيرامين           مضاد للحساسية         بنسبة 15% من محتوى القرص

ميترونيدازول             مطهر معوي             بنسبة 6% من محتوى القرص

ترامادول هيدروكلوريد  قاتل للألم                  بنسبة 11% من محتوى القرص

مواد غير معروفة        مجهولة التأثير            بنسبة 35 % من محتوى القرص

يكون عقار الترامادول الذي تنتجه شركات الأدوية – بالضرورة – محتوياً على 100% من المادة الفعالة ترامادول هيدوكلوريد القاتلة للألم، والتي تستخدم في تسكين الآلام المبرحة للعظام، الكسور، بعد العمليات الجراحية وفي تخفيف بعض الآلام السرطانية، كما يخبرنا الدكتور أحمد عبد اللطيف الطبيب النفسي ومعالج الإدمان.

ويؤكد على أن الترامادول المُهرب والمنتشر بكثافة بين أوساط المدمنين له مخاطر محتملة رهيبة. مبدئياً هو مجهول المصدر، ثانياً يحتوى على نسبة ضئيلة جداً من المادة الفعالة، ولا يقتصر إدمانه على الإدمان السيكولوجي مثل الحشيش، بل يمتد لإدمان فزيولوجي مثل الهيروين، حيث أنك تمد الجسم بخلطة من المواد  بكميات كبيرة فيتوقف الجسم عن افرازها ويعتمد بشكل أساسي على القادم إليه من الخارج. وكلما طالت فترة التعاطي الخاطيء مع رفع الجرعات سيزيد هذا من كسل الخلايا، وقد تتوقف بعضها نهائيا عن العمل. والخلايا الأخطر التي يظهر عليها  هذا التأثير هي الخلايا العصبية غير القابلة للتجدد، والتي يظهر على المتعاطي دليل تأثرها عبر تشنجات بسيطة تتطور إلى نوبات تشنجية، كما يؤدي تأثير الترامادول المُهرب السلبي على الشهية للطعام إلى فقدان سريع في المعادن والاملاح والفيتامينات إضافة إلى الفقدان المرضي في الوزن والضعف العام والهزال ومراحل متقدمة من الأنيميا (فقر الدم).

ترامادول للحج والعمرة

وعن  بداية ظهور ما يسمى بإدمان الترامادول في مصر وأسباب ذلك الإدمان يخبرنا عبد اللطيف بأن بداية ظهور الترامادول مع استخدامه في تخفيف آلام انسحاب الهيروين، فوجد المدمنون تأثيره الجيد في تحسين الحالة المزاجية، والتي تحدث كنتيجة طبيعية لتخفيف آلامهم الشديدة ، حيث تحفز تلك الآلام المخ لإفراز مواد تبعث على الحباط والكآبة واليأس وهو ما يعرف بـ “التأثيرات الجسمنفسية ” كما أن الزوج الذي زالت آلامه الجسدية بالقطع سيحصل على علاقة زوجية أفضل، وهذا أحد الأسباب الكبرى التي تؤدي لإدمانه.

الخطير في الاستخدام المفرط لعقار الترامادول ، خاصة المهرب منه هو الـ “tolerance” أو اعتياد الجسم على جرعة الدواء، والقيام برفعها يشعر الشخص بالألم فيتعاطى جرعة ما من الترامادول. بعد فترة قصيرة لا تكفي نفس الجرعة لتخفيف نفس الألم. ومع رفع الجرعات المتزايد يتفاقم الألم دون أن يدري صاحبه، مما يؤدي لنمو وانتشار السرطانات أو انفجار الزائدة الدودية الذي قد يعقبه ” تسمم بريتوني” قد يؤدي للوفاة المفاجئة في بعض الحالات.

وعن ادمان الترامادول يؤكد دكتور أحمد عبد اللطيف أن البدايات كانت مع استغلال فئات بعينها لبعض الآثار الجانبية للعقار، مثل الصعوبة في النوم إذا تم تعاطيه مساءً، فاتجه إليه الحرفيين وأصحاب الأعمال الليلية، سائقو النقل، عمال البناء والطلبة في مواسم الاختبارات. 

وسبب انتشار الترامادول هو رخص ثمنه وسهولة تجربته وعدم رفضه دينيا ومجتمعياً لدرجة أن أحد شركات السياحة المسؤولة عن تسفير الحجاج والمعتمرين كانوا يصرفون شريط لكل مسافر لتحمل مشاق آداء الفريضة الإسلامية، كما أن ما زاد من انتشاره هو القرار الخاطيء بمنعه من الصيدليات، فكل ممنوع مرغوب.

كيف العلاج؟

علاج إدمان هذا القرص الدوائي يتطلب بحسب الطبيب بشكل أساسي رغبة المتعاطي وإرادته للتوقف، كما يبدأ بالعزل من خمسة أيام لأسبوع، يليها علاج وتأهيل نفسي وبدني واجتماعي يمتد من ستة أشهر حتى عامين أو أكثر حسب شدة الحالة، كما أن كل الحالات معرضة للإنتكاسات، وهي العودة للتعاطي ، حيث لا تتجاوز نسبة النجاح في العلاج دون حدوث انتكاسات خمسة بالمائة من إجمالي الحالات المتقدمة للعلاج.

ما يذكره الطبيب عن محاولات التوقف عن التعاطي تؤكد تجربة الشاب ياسر عبد الغفار. فطوال ثلاث سنوات يحاول ياسر العلاج بكل الوسائل والسبل، ويفشل. جرّب كل شيء، العلاج النفسي والاجتماعي والسلوكي، الطب الشعبي والحجامة و”الخزعبلات”، جلسات العلاج الجماعي والسيكودراما والبرنامج الأمريكي في العلاج. ذهب ليحجز نفسه في مصحات علاج الإدمان خمس مرات، ثلاثة منها بإرادته، وواحدة مقيدا من قبل أصدقاؤه والأخيرة في غيبوبة. ياسر متوقف الآن عن تعاطي الترامادول منذ خمسة عشر يوماً بسبب جرعة صباحية عبارة عن نصف شريط/خمس أقراص حمراء جرعة الـ “200 ميللي” ، نزل بعدها إلى الشارع قبل أن يتوقف في حالة أشبه بفقدان الذاكرة المفاجيء.

لم يتوقف عبد الغفار عن بيع الترامادول ويأمل أن يعود لإكمال الجامعة. يظل يردد أنه يتمنى لو لم يجرب الترامادول في حياته وأن ما فعله هذا العقار بحياته أشبه بكونه نام في السابعة عشر واستيقظ في السابعة والعشرين.