“نعم نقوم بصيد التماسيح، هكذا أجبرتنا الدولة على ذلك، فهل ننتظر الموت، أن نصطاد هذا الكائن الذي وهبه الله ليكون مصدر رزقنا، أم ننتظر الدولة حتى تتحرك، وهو أمر لا نتوقع حدوثه، لذلك نحن نصطاد التماسيح، التي التهمت رزقنا من الأسماك”.. كانت تلك كلمات “محمد”- الذي رفض الكشف عن هويته فاستبدلناه بهذا الاسم.
“نعم نقوم بصيد التماسيح، هكذا أجبرتنا الدولة على ذلك، فهل ننتظر الموت، أن نصطاد هذا الكائن الذي وهبه الله ليكون مصدر رزقنا، أم ننتظر الدولة حتى تتحرك، وهو أمر لا نتوقع حدوثه، لذلك نحن نصطاد التماسيح، التي التهمت رزقنا من الأسماك”.. كانت تلك كلمات “محمد”- الذي رفض الكشف عن هويته فاستبدلناه بهذا الاسم.
“محمد” الذي اقترب عمره من الأربعين، ويعول أسرة مكونة من والدته وزوجته وأطفاله الثلاثة، يعمل صيادا في بحيرة ناصر، ويقول إن أعداد التماسيح في بحيرة ناصر فاق 30 ألف تمساحاً، يلتهم الواحد منها 20 كيلو من أجود الأسماك في العالم يومياً، ما يعني إهدار 60 طن من الأسماك يومياً، هي مصدر رزق صيادي البحيرة، وتمثل إهدار للدخل القومي. محمد يتحسر على إهدار هذا الكم من الأسماك الذي يدفع الدولة لاستيراد الأسماك من الخارج، ما يجعل الدولة من وجهة نظره مطالبة بإيجاد حل لأزمة تغول التماسيح في مياه البحيرة.
رحلة في قلب البحيرة
فواز محمد، صياد آخر تخطى عمره السبعين خريفاً، قال وهو ينظر للبحيرة: “الحكومة تركت التماسيح لحد ما كبرت وتغولت، وحرمت الصيادين من الصيد، ما تسبب في تغيير الكثير من الصيادين لمهنتهم من صيد الأسماك، لصيد التماسيح، التي يعتبرونها عدوهم ومصدر سعدهم في وقت واحد، لأنها حرمتهم من صيد الأسماك، ومخاطرتهم بحياتهم في عملية صيدها، لكنها تدر عليهم دخلا كبيرا حيث يتراوح سعر التمساح بين 800 جنيه و10 ألاف جنيه، حسب نوعه”.
يقول “فواز” إن نجليه تركا مهنة صيد الأسماك وتحولا إلى صيد التماسيح، مثل المئات من الصيادين، غير عابئين بالمخاطر والملاحقات الأمنية لهما، وذلك بعدما انخفضت كميات الأسماك في النيل، مؤكداً أن عملية صيد الأسماك لم تعد مجدية، خاصة أنها أصبحت تتطلب مجهوداً كبيراً، لا يتماشى مع عائدها المادي.
4 محاولات
“أحمد” النجل الأصغر لـ”فواز”، قال إنه تعب من عمليه صيد الأسماك في البحيرة، خاصة في ظل توحش التماسيح النيلية، التي التهمت أكثر من نصف رزق الصيادين، ما يجعله مطالباً ببذل مجهود مضاعف لاصطياد كمية تكفيه للصرف على أسرته.
وأوضح أنه قبل 5 سنوات كان يخرج لرحلة الصيد التي لا تستغرق أكثر من ساعة، يعود بعدها بكمية وافرة من الأسماك، لا تقل عن 50 كيلو سمك، لكن الآن يضطر للصيد 3 أو أربعة مرات، للعودة بنصف هذه الكمية، حيث أن تغول التماسيح يجعل نصف الأسماك الخارجة في “شباك الصيد” تالفة بعدما التهم التمساح “نصف السمكة”، ما يجعله يضطر لتنظيف الشباك وإلقاء الأسماك التالفة في البحيرة مرة أخرى، وإعادة الكرة للصيد مرة أخرى، متهماً الحكومة بإهمال الصيادين، وعدم ضمهم لمظلة التأمين الصحي، ما يجعلهم مضطرين لمواجهة التماسيح، للحصول على أية أموال تساعدهم على مواجهة أعباء الحياة، وتحمي أولادهم من “غدر الزمان”.
تقسيم البحيرة
يقول أحمد محمد محمود، شيخ مشايخ صيادي بحيرة ناصر: “في الرابع عشر من أغسطس عام 2004، أصدر وزير الزراعة الأسبق يوسف والى قرارًا بإعادة تقسيم البحيرة إلى ست مناطق، يوزع 40 % منها على المستثمرين لصيد الأعماق، و60% لجمعيات صيد الأسماك بأسوان، وكان شرط صيد الأعماق هو استخدام أساليب حديثة ومراكب كبيرة للصيد، بهدف تطوير الإنتاج، لكن المستثمرين فشلوا في صيد الأعماق، فقررت الدولة منحهم احتكار شراء الأسماك المنتجة من البحيرة، وهو ما جعل الصيادين، البالغ عددهم قرابة 15 ألف صياد، يقعون ضحية للمستثمرين الذين تحولوا إلى سماسرة كل همهم تحقيق المكاسب، من خلال فرض أسعار مجحفة على الصيادين لشراء انتاج البحيرة بعدما منحتهم الدولة احتكار انتاجية الأسماك”.
“شيخ الصيادين” أكد أن قرار الدولة دفع الصيادين للتهرب من بيع انتاجهم من الأسماك للمستثمرين، وهو ما كان سبباً في ظهور عمليات الصيد الجائر واستنزاف أسماك البحيرة.
صيد التماسيح بالسم
لكن تغول التماسيح وعدم اتخاذ اجراءات من قبل الدولة لمواجهتها، دفع الصيادين لاتباع إجراءات مجرمة لصيد التماسيح، فكما يقول الصياد صبحى عادل، فإن صيادي التماسيح المتوحشة- التي يصل طولها إلى 6 أمتار، يلجؤون إلى صيد التماسيح الكبيرة وسلخها من أجل الحصول على الجلد وبيعه بمبالغ مالية كبيرة، مشيراً إلى أن بعض الصيادين يستخدمون “الصبغة” والسم لقتل التماسيح، قبل صيدها، انتقاماً منها بعد تعرض شباكهم للتمزيق.
لا نستطيع منعها من الأكل
إزاء الأزمة التي تفاقمت خلال الأشهر الماضية، بعدما تحول عدد كبير من صيادي الأسماك لصيد التماسيح، قال اللواء مصطفي يسري، محافظ أسوان: “لا يمكن أن نعتبر أن التماسيح وحدها هي السبب الوحيد في تدهور الثروة السمكية بالبحيرة”، مضيفاً: “لا نستطيع منع التماسيح من الأكل، خاصة أنها تصنع توازن بيئي في البحيرة، ولا يمكن صيدها للحفاظ عليها من خطر الانقراض”.
“يسري” أكد أن بعض الصيادين يضطرون لصيد التماسيح التي تصل للمناطق المخصصة لصيد الأسماك، كما أن بعض التماسيح الصغيرة تقع في شباك الصيادين دون قصد.
لكن خالد فهمي، وزير البيئة، نفى أن تكون البحيرة “محمية طبيعية”، مؤكداً أنها تخضع لولاية وزارة الري في الأساس، باعتبارها البحيرة الأهم في مصر نظرا لتخزين مياه نهر النيل بها.
وعن أزمة التماسيح قال: “مشكلة توغل التماسيح في البحيرة يرجع إلى تكاثر التماسيح الضخمة، ما يجعلها تتغذى على الأسماك الصغيرة، حتي يمكنها التعايش، ودورنا في وزارة البيئة يتوقف على رصد أعدادها، وتأثير ذلك على انتاج البحيرة من الأسماك، ودراسة التخلص من بعض التماسيح إما بالصيد، أو إعادته للمناطق التي جاء منها”.
“فهمي” أكد أن الوزارة تتفاوض حالياً مع إحدى الجهات الدولية لمعاونتها في رصد أعداد التماسيح، لوضع حل حاسم لمشكلة تغولها التي أثرت على إنتاجية البحيرة من الأسماك.
قرارات متضاربة
لكن الدكتور وحيد سلامة، رئيس الادارة المركزية للتنوع البيولوجي بوزارة البيئة، أرجع الأزمة إلى تعدد الجهات المشرفة على البحيرة، مثل هيئة الثروة السمكية وهيئة تنمية بحيرة السد العالي التابعة لهيئة تنمية المشروعات، مؤكداً أن الدولة وضعت العديد من التشريعات الوطنية لتنظيم عملية الإتجار بالحيوانات المهددة بالانقراض، لافتاً إلى أن الهدف من حماية التمساح النيلي هو الحفاظ على النوع من خطر التدهور والإنقراض، والتحكم في أعداد التماسيح وتحقيق الاستثمار الدائم من منتجاتها، ما يعود بالنفع على المجتمعات المحلية.
وقال إن أعداد التماسيح في البحيرة لا تقل عن 43 ألف تمساح، حسب أخر رصد من قبل باحثي وزارة البيئة، نهاية عام 2014، مشيراً إلى أن التمساح النيلي يتميز بعدة وظائف بيئية في غاية الأهمية، حيث يعمل على الحد من زيادة الأسماك القططية، مثل القراميط والشال والشلبة، ويعمل على تنظيف البحيرة من الجثث النافقة، ولذلك يطلق عليه اسم ’’كنّاس الماء‘‘، لافتاً إلى أنه يمكن استثمار وجود التماسيح في بحيرة ناصر في الترويج السياحي، بتنظيم زيارات سياحية في أماكن وجوده أثناء الرحلات التي يتم تنظيمها لزيارة المعابد الموجودة في المنطقة، وهو ما يخلق فرص عمل للعديد من شباب أسوان.
وطالب بضرورة الالتزام بتطبيق القانون رقم 1241 لعام 1983 الذى يلزم الصياد بمركب صيد واحد لكل رخصة، ويحدد فتحة الشباك بـ7 إلى 8 فتحات في نصف المتر المربع، وتطبيق العقوبات التي نص عليها القانون.
سنوات من الكلام
كلمات المسؤولين لم تلق قبولاً لدى “محمد”، الذي قال إنه ملّ من كثرة وعود المسؤولين بإيجاد حل لإلتهام التماسيح لأرزاقهم، من الأسماك، ما يجعله مضطر لصيد التماسيح، التي تدر عليه دخلاً جيداً، موضحاً أنه يقوم ببيع التمساح على عدة أجزاء، للعطارين الذين يصنعون منه أدوية ومنشطات جنسية وعطور، وتجار الجلود، الذين يصنعون منه أفضل الأحذية العالمية.
وختم حديثه بالقول: “طالما لم تجد الدولة حل لمشكلة قلة الانتاج وتمزيق شباك الصيد، سنظل نصطاد التماسيح، فإما أن نموت جوعاً أو تموت التماسيح، لا حل آخر”.