بدلا من أن يعود أحمد العمامي لأطفاله بعد انتهاء دوام عمله بابتسامة وشوق، أصبح يعود كدراً مهموماً بعد إصابته بمرض جلدي معدٍ نتيجة عمله في بيئة غير آمنة صحيًّا ومليئة بالمخاطر، لاسيما وأنه يتعامل مع الجثث المكدسة في مركز بنغازي الطبي دون أي معدات وقاية.

بمجرد أن انتشرت في بنغازي إشاعات عن إصابة عدد من موظفي المركز الطبي العاملين بمبنى ثلاجة الموتى، حتى توجه موقع “مراسلون” إلى المبنى في محاولة لمتابعة واستقصاء ما يحدث هناك، وكانت كل الأسئلة تقود إلى جواب واحد أقرب ما يكون لعنوان فيلم سينمائي “القاتل الصامت”.

بدلا من أن يعود أحمد العمامي لأطفاله بعد انتهاء دوام عمله بابتسامة وشوق، أصبح يعود كدراً مهموماً بعد إصابته بمرض جلدي معدٍ نتيجة عمله في بيئة غير آمنة صحيًّا ومليئة بالمخاطر، لاسيما وأنه يتعامل مع الجثث المكدسة في مركز بنغازي الطبي دون أي معدات وقاية.

بمجرد أن انتشرت في بنغازي إشاعات عن إصابة عدد من موظفي المركز الطبي العاملين بمبنى ثلاجة الموتى، حتى توجه موقع “مراسلون” إلى المبنى في محاولة لمتابعة واستقصاء ما يحدث هناك، وكانت كل الأسئلة تقود إلى جواب واحد أقرب ما يكون لعنوان فيلم سينمائي “القاتل الصامت”.

هروب من الخطر

بدأ “مراسلون” جولته بين أروقة المركز الذي يحوي قرابة 2433 موظف صحبة بعض الأطباء، قاصدين الثلاجة البشرية التي يجدر تسميتها غرف حفظ الموتى، ترجّل إلينا أحمد العمامي بوجه عابس خارجاً من ذلك المبنى، ومن تعابيره عرفنا أن لديه الكثير ليرويه لنا.

العمامي – 45 عاماً – هو المشرف العام على مبنى الثلاجة بالمركز، حكى لـ”مراسلون” كيف بدأ العمل في غرف حفظ الموتى كمتطوعٍ أيام ثورة فبراير 2011، حيث كانت الجثث كثيرة لدرجة أنها توضع في الممرات؛ لأن غرف التشريح لاتستوعب أكثر من 18 جثمانًا، وكانت الجثث تصل بشكل كبير بسبب الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة بنغازي تلك الفترة.

يقول أحمد إن كثيراً من العاملين بغرف حفظ الموتى يتركون العمل بسرعة، أو بمعنى أصح يهربون من الخطر المحيط بهم، وحتى العامل الجديد لا يبقى أكثر من أسبوع أو اثنين حسب كلامه، وذلك بسبب عدم توفر معدات الوقاية التي تحميهم من الأمراض، وزيادة على ذلك فإن العاملين بتلك الغرف لا تصرف لهم علاوة خطر الإصابة بهذه الأمراض، “وهذا في حد ذاته كفيل بأن يصرف العاملين عن هذه المهنة” يضيف أحمد.

رفض ومناشدة

حسب قول أحمد فإنه لا يساعده إلا ثلاثة عاملين إداريين غير مدربين على كيفية التعامل مع الجثث، في الوقت الذي تزداد الحاجة لموظفين جدد مع ازدياد عنف الاشتباكات، وقد وصل في فترة سابقة عدد الجثث الموجودة بالثلاجة إلى 266 جثة.

أحمد لم يجد سبيلاً سوى الهرب من هذه الوظيفة بطلب كتابي يطالب فيه بنقله من هذا القسم بعد إصابته بالمرض الجلدي، “لكن هذا الطلب رُفِض بحجة افتقار المركز للعاملين”.

دفن الجثث الموجودة في الثلاجة بحسب أحمد يحتاج تصريحاً من وزارة العدل، خاصة وأن معظمها لم يأتِ أحد لاستلامها، ويناشد وزارة العدل قائلاً “اتقوا الله، وأسرعوا في دفن هذه الجثث التي يتزايد عددها كل يوم”، مؤكدا أن الثلاجة تحتاج إلى الصيانة العاجلة، “فتركُها هكذا يبشر بكارثة بيئية، يحاسبكم عليها الله، وتحاسبكم الأجيال القادمة” يختتم أحمد حديثه.

الثلاجة لا تعمل

مناشدة أحمد وحزنه العميق على وضعه وخوفه على أسرته من انتقال الأمراض إليهم، قادنا إلى الدكتورة ريم بوكمار مدير مكتب مكافحة العدوى بمركز بنغازي الطبي، والتي أوضحت لنا أن الثلاجة البشرية هندسيًا تتكون من غرفتين بهما أربعة ألواح، درجة التبريد بهما تتراوح بين 0 – 2 درجة مئوية؛ أي أنهما لا تصلحان للاحتفاظ بالجثث فترة تزيد عن 24 ساعة، أما بالنسبة للثلاجة المخصصة للتجميد التي يمكنها الاحتفاظ بالجثث لمدة طويلة بها 6 أدراج، لكنها لا تعمل، بل بالأحرى لم تكن تعمل عند استلام المستشفى عام 2009 حسب تأكيد بوكمار.

ما يزيد من تفاقم المشكلة بحسب بو كمار هو وجود الجثث مجهولة الهوية، والتي من المفترض أن تتبع إجراءات دفنها لوزارة العدل والداخلية والطب الشرعي، ولا تتبع المركز الذي يعمل على حالات الوفاة الطبيعية التي لا تأخذ وقتًا طويلًا في الثلاجة.

ليسوا متخصصين

إضافة إلى ما سبق ذكره من مشاكل تقول بوكمار إن العاملين بغرفة حفظ الموتى كلهم إداريون، ولا يوجد ممرض أو معاون صحي يمتلك خبرة كافية في كيفية التعامل مع الجثث طبيًّا؛ ناهيك عن بعض الجثث التي تأتي متحللة؛ ما يجعلها سببًا في نقل كثير من الأمراض الخطرة التي يكون أصحابها مصابين بها؛ خاصة فيروس التهاب الكبد الوبائي B الذي يبقى فترة طويلة حتى بعد وفاة الإنسان.

تردف بوكمار أن العاملين قد يضطرون إلى ملامسة هذه الجثث ملامسة مباشرة عند نقلها من وإلى الثلاجة؛ نتيجة نقص أدوات التعقيم، كما أن هناك نقصاً شديداً في أكياس الجثث والذي بسببه تنبعث الروائح الكريهة، “ليس في مبنى الثلاجة فقط؛ بل وصلت حتى إلى بعض الأقسام الطبية في المركز” تؤكد بوكمار.

هويّة القاتل

وعن القاتل الصامت تقول “ريم” إنها عندما أخذت عينات من لوح التشريح سنة 2013، تبين أن هناك نوعًا خطرًا من البكتيريا التي تسبب سمية في الدم، وإن لم يعالج صاحب الإصابة بشكل مستعجل فإن النتيجة ستكون موتا محتما حسب وصفها، ويطلق على هذه البكتيريا مجازاً اسم “القاتل الصامت”.

وعند سؤال “مراسلون” إن كان أحمد العمامي مصاباً بهذا النوع من البكتريا؟ أجابت بوكمار “لا”، فأحمد كما قالت مصاب بمرض جلدي يسببه طفيل الجرب، وكلاهما ينتج من الجثث المتعفنة.

تسترسل بوكمار بقلق في وصفها لهذه البكتيريا التي طورت أجهزتها المناعية حتى أصبحت مقاومة لأقوى أنواع المضاد الحيوي، وبالرغم من أن المركز قام بتعقيم هذه الألواح والقضاء على “القاتل الصامت” إلا أن الخوف ما يزال قائما من تواجدها في الغرفة الأخرى التي يوجد بها أربعة ألواح تشريح، “ومن المتوقع أن تكون البكتيريا موجودة، بشكل كبير” تنهي بوكمار حديثها لـ”مراسلون”.

يقول الدكتور علاء الدين الصلابي وهو عضو هيئة تدريس بقسم الصحة البيئية كلية الصحة العامة بجامعة بنغازي ومتعاون في مكافحة ومنع العدوى بمركز بنغازي الطبي، إن المسح الذي جرى في عام 2013 أظهر وجود بعض أنواع البكتيريا الموجبة والسالبة لصبغة جرام.

أحد تلك الأنواع وهي “A. baumannii” بحسب الصلابي خطير جداً وبالذات على الأشخاص الذين يعانون من نقص في المناعة أو السكري أو أمراض الجهاز التنفسي وخاصة أمراض الرئة المزمنة، فأولئك الأشخاص هم أخطر فئة يمكن أن تتعرض لخطر الإصابة بهذه البكتيريا، التي اتفق وصفه لها مع بو كمار بأنها تقاوم جميع أنواع المضادات الحيوية.

وأظهرت نتائج المسحات أيضاً وجود بكتيريا أخرى مثل “P. putida” وهذا النوع تم عزله من المغسلة، وتم تصنيفه حديثاً أنه بكتيريا مسببة لعدوى المستشفيات، وتم أيضا عزل بكتيريا “C. indoleges” والتي من المتوقع أن تصبح من مسببات العدوى عند إهمال برامج التنظيف والتطهير، وكلاهما مقاوم للمضادات الحيوية، بحسب الصلابي.

وصية بالإغلاق

الخلل في شروط حفظ الجثث داخل المبنى المخصص لذلك تتعدى حدود التبريد والتعقيم، حيث يقول أحمد الربيعي المهندس بقسم الشؤون الفنية بالمركز إن  المبنى غير مطابق للمواصفات الفنية التي تؤهله لاستقبال وحفظ الجثامين، موضحاً أن المشكلة الأساسية تكمن في تصميم المبنى الذي نتج عنه مشكلات فنية أدت إلى انتشار العدوى بين الموظفين.

مشكلات يلخصها الربيعي في وضعية المعدات وطريقة إنشاء الصرف الصحي والتهوية والتبريد والتكييف، كما أن بعض المعدات داخل المبنى تم تركيبها عن طريق الشركة المنفذة من دون تنسيق مع الشؤون الفنية للمركز.

ولا يغفل الربيعي الإشارة إلى طول عمر المعدات في المركز بصفة عامة وفي مبنى الثلاجة بصفة خاصة، بالإضافة إلى أنهم يواجهون مشكلة حقيقية في الحصول على قطع الغيار للأجهزة المرتبطة بثلاجة الموتى.

الحل من وجهة نظره يتمثل في إغلاق مبنى ثلاجة الموتى لفترة مؤقتة لإجراء الصيانة؛ وللقضاء على البكتيريا والطفيليات التي سببتها الجثث المتحللة.

هل هناك تأمين؟

كل ما سبق قادنا للسؤال البديهي هل هناك تأمين صحي على حياة الموظفين بمبنى ثلاجة الموتى؟.

وبناءً عليه توجه “مراسلون” بالاستفسارات إلى رئيس قسم الصحة المهنية وعيادة الموظفين دكتورة نجلاء المهدوي، التي كانت متحفظة جدًا في إبداء أي تصريح بوجود حالات من العاملين أصيبت بأمراض معدية أو لا، واكتفت بالقول إن العاملين بالثلاجة إداريون وهذا خطأ كبير.

وأكدت المهدوي أن مهمتهم تنحصر في الكشف الأولي عن العاملين قبل التوظيف وتوقيع العقود، وأيضاً علاج إصابات العمل وتحويل الحالات إلى العناصر الطبية حسب إصابة الحالة، وكذلك توفير خدمات التعقيم للعاملين والتوثيق الصحي والتوعوي، وكل هذه الخدمات حسب ما رأينا لم تكن متوفرة.

أثناء خروجنا من المركز الذي افتتح في سبتمبر 2009 بسعة 270 سرير واعتمد مركزاً مرجعياً تعليمياً، قابلنا أحمد العمامي عند بوابة المركز الخارجية، فبادرنا قائلاً “دخلت المركز متطوعاً من أجل الوطن، وخرجت منه بمرضٍ معدٍ”، لتنتهي بذلك جولة “مراسلون” من دون معرفة مالذي يفكر به أحمد عند دخوله يوميا لغرفة “القاتل الصامت”.