دفعته ظروف أسرته  للعمل في وقت مبكر في أحدى ورش الأخشاب بالمنطقة الصناعية المجاورة لقريته الصغيرة في محافظة سوهاج جنوب مصر. وفجأة وبدون سابق إنذار تعرض محمود حمدي الصبي ذو الإثنى عشر عاما لإصابة تسببت في بتر ذراعه، ليصبح محمود من ذوي الاعاقة، ويمر بمرحلة عصيبة من رفض المستشفيات لعلاجه بسبب عدم امتلاكه بطاقة تامين صحي ورفض صاحب العمل دفع مصاريف علاجه بحجة عدم وجود عقد ملزم له بذلك.

دفعته ظروف أسرته  للعمل في وقت مبكر في أحدى ورش الأخشاب بالمنطقة الصناعية المجاورة لقريته الصغيرة في محافظة سوهاج جنوب مصر. وفجأة وبدون سابق إنذار تعرض محمود حمدي الصبي ذو الإثنى عشر عاما لإصابة تسببت في بتر ذراعه، ليصبح محمود من ذوي الاعاقة، ويمر بمرحلة عصيبة من رفض المستشفيات لعلاجه بسبب عدم امتلاكه بطاقة تامين صحي ورفض صاحب العمل دفع مصاريف علاجه بحجة عدم وجود عقد ملزم له بذلك.

حالة الطفل محمود الذي بدأ العمل مبكرا ليست حالة فريدة، إذ يقول حاتم قطب مدير مؤسسة تيرديزوم Terre Des Hommes إن حجم عمالة الاطفال في مصر وفق تقديرات منظمة العمل الدولية يرقى إلى 2.2 مليون طفل بنسبة تصل إلى 26 %.

ووفقا لآخر إحصائية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء لعام 2013 فان العدد يقل ليصل الى 1.6 مليون طفل منهم 83% يعملون في الريف مقابل 16% في المدن، و46% من اجمالي هؤلاء الاطفال تتراوح اعمارهم بين 15 و17 عاما ويصل الذكور منهم الى 87% مقابل 22% للاناث.

ويشير قطب إلى أن عدد ساعات العمل التي يقضيها الاطفال تتعدى 9 ساعات يوميا في المتوسط وأكثر من ستة ايام في الاسبوع.

البيئة القانونية المنظمة

بصرف النظر عن أي التقديرين أكثر الدقة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف أمكن لهذا العدد الكبير من الأطفال أن يدخل سوق العمل رغم منعه؟ السبب هو وجود ثغرات قانونية.

فقد أوضحت الدكتورة سحر عبد الستار إمام أستاذ قانون المرافعات المدنية والتجارية بجامعة المنوفية، أوضحت في ورقة بحثية عن ظاهرة عمالة الاطفال أن المشرّع لم يمنع اشتغال الأطفال بأعمال بسيطة وغير خطيرة.

وتقول إن الدستور المصري لسنة 2014 حدد مرحلة الطفولة في نص  المادة (80) بمن هم دون سنّ  الثامنة عشر. وحرص الدستور على مد مظلة  التعليم الاساسي حني نهاية المرحلة الثانوية أو ما يعادلها  (م 19). كما نص في الفقرة الرابعة من ذات المادة علي حظر تشغيل الطفل قبل تجاوزه سن اتمام التعليم الاساسي “12 عام ” وأضاف بأنه يحظر تشغيله في الأعمال التي تعرضه للخطر.

عبد الستار تشير الى أنه بإضافته عبارة “يحظر تشغيله  في الأعمال التي تعرضه للخطر” يفيد أنه أباح تشغيل الطفل في مرحلة الطفولة وفق ضوابط معينه، بحيث يكون العمل الذي سيلتحق به الطفل مأمون العواقب ولا يؤثر سلبا علي حالته الصحية والنفسية، ولا يؤثر على استمراره بالتعليم.

الحاجة الاقتصادية هي السبب الأهم في استغلال هذه الثغرة، إذ تقول والدة محمود “أعول  6 أطفال وتوفي زوجي بعد صراع مع السرطان قضى على الاخضر واليابس مما نمتلكه. واضطررت لأن اقوم بتشغيل أولادي في سن مبكر بينهم محمود رقم 3 وأخوته الأكبر منه يعملون أيضا في ورش الاخشاب المنتشرة بالمنطقة الصناعية، حيث يفضل أصحاب الورش في المنطقة  الاستعانة بالاطفال لانخفاض أجورهم”.

باب خلفي

عمل الأطفال ليس ممنوعا إذن على إطلاقه في مصر. فقد أباح المشرّع عمل الأطفال في المهن البسيطة كالحصاد وغيره، حيث يكثر اعتماد الأهالي على أبنائهم في هذه المواسم.

وتشير أستاذ القانون عبد الستار أن القوانين المنظمة لعمالة الطفل بدأت بقانون الطفل رقم 12 لسنة 1996وأفرد المشرع في الباب الخامس فصلا كاملا (الفصل الأول المواد من 64: 69) يتناول فيه الأحكام والقواعد المنظمة لرعاية الطفل العامل (السن، طبيعة العمل، التزامات رب العمل، المكافأة أو الأجر) إذ تنص المادة 64 من القانون المذكور علي حظر تشغيل الأطفال قبل بلوغهم أربع عشرة سنة ميلادية، كما يحظر تدريبه قبل بلوغ اثنتي عشر سنة.

وأجاز المشرع في الفقرة الأخيرة من ذات المادة الترخيص بتشغيل الأطفال من سن اثنتي عشرة إلي أربع عشرة سنة  في أعمال موسمية مأمونة المخاطر بحيث لا تضر بصحتهم أو نموهم ولا تخل بمواظبتهم على الدراسة، وإجازة تشغيلهم في هذه الأعمال مرهون بصدور قرار من المحافظ المختص بعد موافقة وزير التعليم. وأحال القانون للائحة التنفيذية لبيان نظام تشغيل الأطفال والظروف والشروط والأحوال التي يجوز فيها التشغيل.

ولاشك أن فتح باب الاستثناءات بالسماح بتدريب الأطفال اعتبارا من 12 سنة، يعد ثغرة يمكن أن يتسلل منها أصحاب الأعمال لتشغيلهم عند هذه السن تحت ذريعة تدريبهم لتعلم مهنة كما أن السماح للأطفال بين 12 – 14 سنة بالاشتغال فى أعمال موسمية تكون عادة فى الزراعة التي لا يخضع العاملين بها صغاراً أو كباراً لأحكام قانون العمل وبالتالي لايلتزم فيها صاحب العمل بأي قواعد في تشغيل الأطفال والتي يحدث فيها انتهاكات صارخة لحقوق الطفل.

ثغرة أخرى تركها القانون هي وضعية المتدرج. ففي قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 المعدل بالقانون رقم 180 لسنة 2008 فيما يتعلق بالعمال المتدرجين، أي المتدربين الذين يتعلمون المهنة بدون أجر، أفرد المشرع الباب الخامس من قانون العمل لتنظيم التدرج، إلا أنه لم يضع  معايير معينة (السن أو طبيعة ونوعية العمل ) يمكن من خلالها معرفة المقصود بهذا المصطلح، إذ  يعتبر متدرجا وفق المادة 141 كل من يلتحق لدى صاحب عمل بقصد تعلم مهنه أو صنعه.

كما أعطت  المادة 143  لصاحب العمل الحق في إنهاء اتفاق التدرج إذا ثبت لديه عدم صلاحية المتدرج أو عدم استعداده لتعلم المهنة أو الصنعة بصورة حسنه. وهو الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لتشغيل الأطفال وإنهاء عملهم وقتما يشاء صاحب العمل تحت ستار التدرج مما يعد ثغرة في القانون تستغل للتحايل علي أحكام القانون وستارا للتحلل من التزامات رب العمل تجاه  الطفل العامل مستغلا حالة الضعف والفقر لديه.

ثغرة في قانون التأمين الصحي

تشير والدة محمود الى أن العقبة الاولى التي واجهتها في رحلة علاج محمود هي عدم وجود بطاقة تأمين صحي لأن محمود لم يدخل المدرسة وبالتالي لم يتم عمل بطاقة تأمين صحي له وهو ما تسبب في رفض المستشفيات لعلاجه.

الدكتور سامي عبد العزيز مدير الهيئة العامة للتأمين الصحي بقطاع وسط وشمال الصعيد يقول إن التأمين الصحي عملية مساهمة بين الطالب والهيئة حيث يقوم الطالب بدفع 8 جنيهات سنويا وتدفع الدولة 12 جنيها وبالتالي يتم استخراج البطاقة الخاصة بالتامين الصحي والربط هنا ربما لمنع التسرب من التعليم.

محمد عبد الرحمن مدير مشروع الجمعية الأهلية “اسمعني” لحماية الاطفال العاملين بالمناطق الصناعية بأسيوط يقول “واجهنا مشكلة في قضايا الاطفال المصابة لأن التأمين الصحي يرفض معالجتهم بحجة عدم امتلاكهم البطاقة واكتشفنا ان هناك ثغره في القانون الخاص بالتامين الصحي على الاطفال جيث يربط القانون استخراج الشهادة بدخول الطفل للتعليم الاساسي ولكن هؤلاء الاطفال لظروف الفقر دُفعوا للعمل فلم يتمكنوا من استخراج البطاقة العلاجية، ولذلك سعينا للتنسيق بين مكتب العمل والصحة لعمل مكتب صحة في المنطقة الصناعية ببني غالب في اسيوط واستطعنا حصر 1472 طفل وقمنا بالمساعدة في التامين عليهم وربطهم بقانون التدريب والتدرج”.

يُذكر أن قانون الطفل رقم 12 لسنة 96 وتعديلاته بالقانون 126 لسنة 2008 ينص في المادة 29 على أنه “يجب تقديم البطاقة الصحية مع أوراق التحاق الطفل بمرحلتي التعليم قبل الجامعى وتحفظ البطاقة بالملف المدرسي ويسجل بها طبيب المدرسة نتيجة متابعة الحالة الصحية للطفل طول مرحلتي الدراسة”.

أطفال دون تأمين

يضيف المحامي أحمد سعد بان المشرّع أعفى أصحاب الأعمال الذين يتدرب لديهم المتدرجون من سداد اشتراكات التأمين تشجيعا لهم على الحاقهم بالعمل، مما جعل أصحاب الاعمال يدّعون أن الأطفال العاملين لديهم من أفراد أسرهم ويخفونهم أحيانا، وبالتالي لا يخضعون لقواعد الفحص الطبي الدوري التي تفرضها القوانين للوقاية من أمراض المهنة، ويسقط الكثير منهم صرعى المرض أو الاصابات ويخرجون من سوق العمل حيث ان 25 % من اصابات العمل تقع بين الاطفال.

يتمنى محمود أن يعود ليلعب مع اصدقائه لكن ذراعه التي تم بترها تعوقه دون تحقيق طفولته كباقي اطفال الحي وأيضا لم يقتنع اي من اصحاب الاعمال بالمنطقة الصناعية تشغيله ولو بنصف الاجر.

تقول والدته “نحن فقراء والاصابة استطعنا علاجها عن طريق اهل الخير”. لكنها تتساءل عن ماذا سيفعل محمود وهو لا يمتلك شهادة تعليمية، فحتى شهادة التأهيل لن تمنحه أكثر من مساعدة مالية بقيمة 150جنيه شهريا، كما أنه لن يستفيد من نسبة الـ 5 % المعوقين الذين يتم تعيينهم بالجهاز الحكومي لأنه لم يلتحق بالدراسة”.