“يا رب توكلت عليك”.. بهذه العبارة استهل عادل يومه للقيام برحلة جديدة محفوفة بالمخاطر لاقتناء بعض السلع المهربة من الجزائر وتحديدا من منطقة أولاد مرزوق بقرية ماجل بلعباس التابعة لمحافظة القصرين المتاخمة للجزائر.

هذه المرة لن يكون عادل وحيدا في رحلته حيث وافق أن يرافقه موفد “مراسلون” في هذه المغامرة التي ستعبر طرقات طويلة بعضها يخضع لرقابة مشددة من قبل قوات الحرس والجيش التونسي.

170 كلم/الساعة

“يا رب توكلت عليك”.. بهذه العبارة استهل عادل يومه للقيام برحلة جديدة محفوفة بالمخاطر لاقتناء بعض السلع المهربة من الجزائر وتحديدا من منطقة أولاد مرزوق بقرية ماجل بلعباس التابعة لمحافظة القصرين المتاخمة للجزائر.

هذه المرة لن يكون عادل وحيدا في رحلته حيث وافق أن يرافقه موفد “مراسلون” في هذه المغامرة التي ستعبر طرقات طويلة بعضها يخضع لرقابة مشددة من قبل قوات الحرس والجيش التونسي.

170 كلم/الساعة

بعدما تفحص عادل الثلاثيني محرك شاحنته الصغيرة عن كثب، رشف قدحا من القهوة وراح ينفث الدخان من سيجارة أشعلها مطلقا نظراته في الأفق البعيد وكأنه يفكر فيما تخفيه أسرار مغامرته الجديدة التي يعوّل عليها لجني المال.

لحظة إشعال محرك سيارته أشارت عقارب الساعة للخامسة صباحا حيث بدأت خيوط ضوء النهار تتسلل شيئا فشيئا في الأفق وكانت حرارة الطقس تنبئ بقدوم يوم حار كسخونة هذه المغامرة.

يقول عادل الذي أطلق العنان لسيارته بالطريق الفارغ إن أهم ما يجب أن يتمتع به المهرب هو الاعتناء بمظهره والتركيز في أبسط الجزئيات وحب المغامرة حتى النهاية بحسب ما ذكره.

بدأ عادل يتجاذب أطراف الحديث ونظراته الثاقبة تدقق في كل الاتجاهات بينما كان يدوس برجله اليمنى بأقصى قوة على دواسة البنزين طاويا بسيارته الأرض طيا وكأنه ملاحق من الخلف.

ورغم أن عداد السرعة فاق في أغلب الأوقات سرعة 170 كلم/الساعة كانت السرعة بالنسبة له عادية وهو يشق الطرقات الملتوية التي تؤدي من محافظة سيدي بوزيد الجنوبية باتجاه مدينة القصرين.

كنت أحلم بأن..

لم تكن علامات التردد أو الاضطراب بادية على وجه عادل الذي تباهى بقيادته السريعة وقدرته على التحكم بمقود سيارته التي كانت تلف المنعرجات الحادة يمينا ويسارا بسلاسة وتوازن كبيرين.

بكثير من الثقة في النفس يقول عادل “لقد علمتنا هذه المهنة أن نكون محترفين وأن نبقي على تركيزنا عاليا ولا نخشى السرعة.. فإمّا أن نركز ونسرع وإما أن نبقى مذعورين في منازلنا”.

لكن هذه السرعة لا تجعله يخطئ في تقدير حساباته أو التهور فتراه أحيانا يخفض من السرعة كلما اقترب من بعض الحواجز الأمنية المنتشرة بالطريق لمراقبة جولان السيارات العابرة، حتى يتجنب إثارة شكوك الأمن حول مقصده.

لا يخفي عادل مخاوفه من إيقافه من الشرطة في الطريق، لكنه يقول إنه أصبح مجبرا على كسب رزقه من رحلات تهريب السلع بين الحدود التونسية الجزائرية مع أن الرقابة الأمنية هناك أصبحت مشددة عقب تصاعد الهجمات الإرهابية.

وحول سبب عدم توجهه لعمل آخر أكثر أمنا يقول “كنت أحلم في صغري بأن أصبح تاجرا ناجحا وأن أؤسس مشروعا لبيع السلع الاستهلاكية بعد أن انقطعت عن الدراسة لكن وضعي المادي المتردي لم يسمح لي بذلك”.

ميسورة والحمد لله

اضطر عادل للعمل في صغره في مهن عديدة بدءا بصانع ميكانيكي ثمّ صانع خباز إلى عامل لدى أحد التجار في سيدي بوزيد إلى أن تعرف على أحد المهربين فراح يعمل معه لسنوات جانيا ربحا وافرا من ذلك.

بعد سنوات مضنية ومليئة بالمخاطر من العمل بالتهريب يقول عادل إنه استطاع أن يحقق ما كان يعجز على فعله كعامل بسيط فقد نجح في جني الكثير من المال حتى حقق أمنيته الأولى في شراء شاحنة رباعية الدفع قبل حوالي خمس سنوات وصار يعمل عليها هذه المرة لحسابه الخاص في مجال التهريب.

كسب عادل أضعاف ما كان يجنيه في السابق، حيث يقول “أوضاعي أصبحت ميسورة والحمد لله، لقد طورت تجارتي وكل مليم كان من الحلال فأنا لا أتاجر في الحرام، تجارتي تقتصر على تهريب المواد الغذائية وفي أحيان أخرى على تهريب البنزين، فالمتاجرة بالبنزين ربحها وفير ومرضي للغاية”.

وعن المخاطر التي يخفيها هذا الربح الوافر يقول “هي تجارة متعبة فعلا وفيها الكثير من المخاطر، فقد كدت ذات مرة أن أتعرض للرمي بالرصاص من أحد أعوان الأمن لأني لم أمتثل لأوامره بالوقوف، بما أن سيارتي كانت محملة ببضاعة يقدر ثمنها بأكثر من خمسة ألاف دينار (2500 دولار)”.

وقد أعلنت وزارة الداخلية التونسية مرارا في السابق عن إطلاق النار عن سيارات رفضت الامتثال بالتوقف لدى مراكز التفتيش في الطرقات. وتبرر قوات الامن التونسي إطلاقها النار على تلك السيارات بأنها تخشى بأن تكون عناصر إرهابية على متنها.

خلية نحل

أشعل عادل سيجارة أخرى ثم تنهد بشكل مسموع وفي صوته عبارات الغبطة والنصر، متحدثا عن نجاته من رصاص الأمن “لقد انتصرت عليهم. كانت مطاردة قوية وسريعة للغاية امتدت لأكثر من خمسة كيلومترات لكن سيارتي لم تخذلني، وحتى صوت طلقات الرصاص من قبل أعوان الأمن لم ترهبني، لقد واصلت القيادة بسرعة جنونية قبل أن أنجو”.

بعد حوالي الساعتين من نقطة الانطلاق، وصل عادل المكان المقصود، وبمجرد الوصول ظهر سرب من السيارات الصغيرة والشاحنات بمختلف الأنواع التي وصلت قبله لاقتناء بعض السلع المهربة من الجزائر.

في منطقة أولاد مرزوق الموجودة في قرية ماجل بلعباس التابعة لمحافظة القصرين والمتاخمة للجزائر أقيمت مخازن كبيرة لتوزيع سلع مهربة من الجزائر على التجار مقابل المال. وكانت السلع المعروضة متنوعة تضمنت مواد البناء وأجهزة كهربائية وبنزين وسجائر وبقول جافة وحتى بنادق الصيد كانت موجودة ولكن في الخفاء بحسب ما قاله عادل.

حاول موفد “مراسلون” تصوير لقطات من المشهد الشبيه بخلية نحل لكن أحد حراس المخازن تفطن للكاميرا وكاد أن ينزعها لو لا تدخل عادل الذي هدأ من روعه وأنقذ الموقف بحكم معارفه.

بعد مضي حوالي نصف ساعة من الترقب، عاد عادل وعلامات الرضا بادية على محياه، ودون أن يتحدث بكلمة فتح الباب الخلفي للسيارة وبدأ في شحن عدد كبير من العلب الكرتونية المحملة بالسجائر والبن والموز.

صديق قديم

خمس دقائق فقط على الشحن كانت كافية لتعبئة الشاحنة الخفيفة بالسلع، ثم تبادل بعدها عادل التحية مع بعض العاملين في المخازن، لتنطلق رحلة عودته المحفوفة بالمخاطر إلى محافظة سيدي بوزيد.

باستفساره عن تلك المخازن الخارجة عن الرقابة الأمنية يقول عادل “كل هؤلاء العمال في المخازن أغلبهم تجار يدخلون بشكل يكاد يكون يوميا من التراب الجزائري بعدما يشترون السلع بأسعار رخيصة هناك ليتم بعد ذلك إيداعها لتلك المخازن ثم توزيعها على التجار الذين يأتون من مختلف الجهات التونسية لاقتنائها ثم بيعها في الأسواق الداخلية”.

لم يكد عادل ينهي كلامه حول مسالك تهريب السلع من الجزائر وعن تجارة السوق السوداء في البلاد، حتى استوقفته إحدى الدوريات الأمنية وسط طريق العودة، لكن دون أي وجل أو خوف نزل عادل من سيارته، ليتحدث قليلا مع عون الأمن، ثم امتطى السيارة مجددا وعلامات الارتياح بادية عليه، مشيرا إلى أن ذلك عون الأمن الذي استوقفه “صديق قديم كثيرا ما ساعدني في الخروج من المآزق على الطريق”.

لكن السماح له بالعودة أدراجه دون إشكال لم يكن مجانا فقد كان المقابل دوما “بعض المال” كما قال عادل.

“هذه هي قواعد اللعبة، يجب علينا شراء الطريق للمرور دون تفتيش”، هكذا برر عادل علاقته بأعوان الأمن، فهو يدرك جيدا التوقيت المناسب الذي يكون خلاله “أصدقائه” في نقاط التفتيش ويعرف التوقيت الذي يحدث خلاله تغيير الدوريات.

تهريب وترهيب

مضى عادل في الطريق قدما دون مشاكل أو مفاجآت سيئة، وبسؤاله عن علاقة هذا النوع من التهريب بإدخال السلاح يقول “كانت الأمور جيدة للغاية قبل الثورة ولم يكن الحديث عن تهريب الأسلحة مطروحا، كان الجميع يتعامل بشكل مثالي وخاصة في منطقة التبادل التجاري على الحدود التونسية الليبية، لكن بعد أحداث الثورة أصبحت تجارة الأسلحة مزدهرة للغاية في تلك المناطق الحدودية بين البلدين، سامح الله البعض الذين أفسدوا علينا عملنا، ولهذا السبب غيرت وجهتي نحو السوق الجزائرية”.

ثم يضيف “ربما هناك رابط كبير بين التهريب والإرهاب، فكل الأسلحة يتم إدخالها خلسة، ولكن دعني أقول بحكم تجربتي أن أغلب الأسلحة التي ولجت التراب التونسي كانت من قبل أشخاص نافذين، وهم يدفعون أموالا طائلة لإدخالها، ولكم أن تتصورا قيمة الأرباح التي يمكن أن يجنيها مهرب الأسلحة، إذ أن توصيلة واحدة قد يصل ربحها إلى عشرة آلاف دينار (5 آلاف دولار)”.

من جديد.. 170 كلم/الساعة

مع اقتراب آخر نقطة تفتيش في مداخل مدينة سيدي بوزيد خفض عادل من سرعة سيارته ليمر بجانب تلك الدورية دون أن يوقفه أحد وكأن الوضع عادي ثم عاد بعدها للدوس بقوة على دواسة البنزين حتى كاد صوت محرك سيارته المثقلة بالسلع أن ينفجر.

كالعادة اقترب مؤشر سرعة سيارته إلى 170 كلم/الساعة غير أن قطيعا من الأغنام تسرب إلى وسط الطريق كاد أن ينهي رحلته الطويلة بكارثة حقيقية قبل أن يدوس بقوة على مكابح السيارة فتنزلق بعيدا عن الأغنام على حافة الطريق الذي سيبقى دوما محفوفا بالمخاطر في كل رحلة تهريب.