مثل كل صباح، اتجهت نيهال ثابت طبيبة الأطفال وحديثي الولادة لمقر عملها ب”مستشفى العبور العام”، وقبل أن تخرج من حجرة الأطباء لعيادة الكشف، وبعد ارتدائها للبالطو الأبيض، قامت بنزع ورقة النتيجة لتجد أن اليوم هو العاشر من أيار/مايو للعام 2015، ليرجعها هذا التاريخ لذكرى بعيدة نسبية من أربع سنوات، و أخرى أقرب، من عام واحد، وما تخلل التاريخين من أحداث جسام.

الإضراب الأول: “ايد واحدة”

مثل كل صباح، اتجهت نيهال ثابت طبيبة الأطفال وحديثي الولادة لمقر عملها ب”مستشفى العبور العام”، وقبل أن تخرج من حجرة الأطباء لعيادة الكشف، وبعد ارتدائها للبالطو الأبيض، قامت بنزع ورقة النتيجة لتجد أن اليوم هو العاشر من أيار/مايو للعام 2015، ليرجعها هذا التاريخ لذكرى بعيدة نسبية من أربع سنوات، و أخرى أقرب، من عام واحد، وما تخلل التاريخين من أحداث جسام.

الإضراب الأول: “ايد واحدة”

تتذكر ثابت الجمعية العمومية الحاشدة في آذار/مارس 2011، والتي حضرها أكثر من خمسة آلاف طبيب وهو عدد غير مسبوق في تاريخ الجمعيات العمومية للنقابة. وقد انعقدت بمركز القاهرة الدولى للمؤتمرات، وكان الاتفاق بين جموع الأطباء من جميع أنحاء القطر المصري واضحاً على مطالب محددة.

لم يعكر صفو هذا الاتفاق سوى اعتراض  نقيب الأطباء وقتها، الدكتور حمدي السيد، على فكرة حق الاضراب السلمي لأعضاء المهن الطبية ومغادرته للجمعية العمومية قبل انتهائها. إلا أن هذا لم يضعف عزيمة الأطباء المسكونين – وقتها- بروح الثورة ، والمصممين على تحقيق أهدافهم والتي تهدف في مجملها لتطوير وتحسين منظومة الصحة بأكملها لمصلحة المريض المصري، منها رفع ميزانية الصحة إلى 15% من الموازنة العامة للدولة.

ألتراس الأطباء

بعد توقيعها الكشف على ما يزيد على مائة طفل في بحر ساعتين تحكي لنا نيهال ثابت: “كان الاضراب الأول رمزياً لمدة يومين، هما العاشر والسابع عشر من أيار/مايو 2011، تلاه أخر في أيلول/سبتمبر وتشرين اول/أكتوبر لنفس العام استمر حوالي الشهرين وتوقف لشعور المشاركين بعدم الجدوى وبدء التذمر المجتمعي ضد الأطباء المضربين، ثم كان الإضراب الثالث في تشرين اول/أكتوبر 2012 في عهد مجلس النقابة “الإخواني” وهو الإضراب الأطول حيث استمر 82 يوماً وسط معارضة شديدة من مجلس النقابة (الدكتور خيري عبد الدايم نقيباً والذي لا يزال في منصبه، والدكتور عصام العريان – المعتقل حالياً – أميناً عاماً)”.

وتتابع ثابت أن الأطباء غير المنتمين للتيارات الاسلامية منعوا من حضور الجمعية العمومية لإقرار وقف الإضراب بالأغلبية، وحينها حدثت الواقعة الشهيرة بقيام أطباء الإخوان بالصلاة وقوفا على مقاعدهم لمنع غيرهم من شغلها، مما أدى لنشوب مشاجرات وتشابك بالأيدي بين أطباء من تيارات مختلفة، وبدأت روح الثورة في الخفوت ليعلو صوت السياسة ومصالح الانتخابات النقابية بين تيار الإخوان من جهة و”تيار الاستقلال” و”أطباء بلا حقوق” من جهة أخرى ، مما أدى لظهور ما يسمى ب “ألتراس أطباء” ، وهي حركة غير مؤدلجة غير نقابية تدعم أهداف الأطباء في حال تخاذل النقابة عن القيام بدورها.

إضراب رابع وأخير

وعن العاشر من أيار/مايو 2014 تخبرنا ثابت أنه تاريخ آخر من تواريخ التسويف والمماطلة، إذ قررت اللجنة العليا للإضراب وقف إضراب استمر بنجاح من الثامن من آذار/مارس بحجة انتظار المجلس التشريعي القادم – والذي لم ينعقد حتى الآن – ليقر مشروعاً متكاملاً لكادر خاص بأعضاء المهن الطبية، مع حزمة من المكاسب الوهمية، منها تحمل وزارة الصحة لتكاليف الدراسات العليا للأطباء. وما حدث بالفعل هو رفع الجامعات لتكاليف مصروفات هذه الدراسات، وتخصيص مستشفيات للعلاج المجاني للأطباء وهو ما لم يحدث، ورفع مرتب الطبيب حديث التعيين إلى 400 دولار والواقع أنه حتى الآن لا يتجاوز ال 150 دولار ، أي أن مرتب أمين الشرطة الأساسي دون البدلات يتجاوز ذلك المبلغ.

أزمة الطيارين ورأي الأطباء

في مطلع أيار/مايو الحالي تحركت الحكومة و الرئاسة سريعا لمحاولة احتواء أزمة الاستقالات الجماعية ل 243 طيار من طياري مصر للطيران، والمطالبة برفع رواتبهم ومساواتها بالرواتب العالمية، من 11 ل 18 ألف دولار أي ما يتجاوز تكلفة إجمالي الراتب الشهري ل 100 طبيب أو أكثر، ورفع راتب مساعد الطيار من 7 ل 11 ألف دولار شهرياً، في حين تتعثر من خمس سنوات جهود تطبيق صورة شديدة التشويه لمرحلة مبدئية من كادر خاص للأطباء ليصل اجمالى ما يتقاضاه الطبيب أقل من 180 دولار بعد خمس سنوات من الخبرة.

تصادف أزمة الطيارين مع ذكرى تعليق إضراب الأطباء جعلنا نترك الدكتورة نيهال ثابت مع طابور مرضاها الطويل أمام العيادة المخصصة للكشف لنستطلع أراء بعض زملائها العاملين بالحقل الطبي ثم العودة إليها مرة أخرى.

الطيار له الحق والطبيب له الله

يتضامن دكتور محمد عبد اللطيف عضو مجلس النقابة العامة لأطباء أسنان مصر مع كل من يطالب بحقوقه ويرى أن من حق الطيارين أن يتركوا الشركة و يتجهوا لمن يدفع لهم مرتبات أفضل لأنهم “سلعة نادرة”.

فالطيار عندما يعلم أولاده تعليما يليق بهم لن يجد من يخفض له المصاريف بسبب ظروف البلد أو خلافه وعندما يمرض لن يجد من يخفف عنه تكاليف العلاج ،” أما عن الأطباء فلهم الله، كثير جدا من الأطباء قدموا استقالات أو إجازات و هاجروا لأمريكا وكند وألمانيا واستراليا أو يعملوا بالخليج مما تسبب في عجز كبير في الأخصائئين والاستشاريين في كثير من التخصصات، لكن عندما تتحدث عن نظام يقتل مواطنيه فبالتأكيد من السذاجة أن تتخيل حرصه على صحتهم وعلاجهم”.

الأولوية للأمن

على صعيد آخر يرى الدكتور خالد عبد الرحمن الطبيب البشري والعضو بحركة “الاشتراكيين الثوريين” أن الفكرة في أولويات الدولة وانحيازاتها، بمعنى أن أولويات الدولة هي الأمن، وبالتالي التقدير والاهتمام والموازنة موجهة شبه بالكامل لأدوات حماية أمن النظام من جيش وداخلية، وإن كانت الأولوية للمواطن سيكون إهتمام الموازنة الأول الإهتمام بالطبيب والمعلم والعامل والفلاح، كما أن عبد الرحمن لا يعترض مطلقا على مطالب الطيارين لكنه يطالب بتحقيقها وفق منظومة متكاملة لتغيير انحيازات الدولة لتحقيق الرفاهية لكل المواطنين.

رأسمالية الدولة العرجاء

يرى الدكتور أحمد مسعد أنور طبيب مقيم التخدير ب”مستشفى أحمد ماهر التعليمي” أن الامر شديد التعقيد لسببين اولهما أن المقارنة بين الطبيب والطيار لا تستقيم من وجه نظر صناع القرار في الدولة، أولهما يدر دخلا للدولة وثانيهما عبء على كاهل الدولة لأن القطاع الذى يعمل به قطاع خدمي فى المقام الأول، والسبب الثاني أنه كطبيب لا دخل له بما يتقاضاه غيره، ولو منحته الدولة ما يكفيه فلن يعنيه كم يتقاضى الطيار أو أي شخص اخر.

المشكلة بحسب مسعد أن “سياسات الدولة تنتهج نهجا رأسماليا بحتا وتطبقه أيضا بطريقتها العرجاء، هم يفكرون فقط في ما يأتي بالأموال وأي شئ آخر لا يعنيهم”.

ويتابع الطبيب قائلا إن الصحة في مصر تحتاج إلى ماهو أكثر من كادر للأطباء، ولكن الكادر في حد ذاته خطوة هامة على طريق إصلاح المنظومة الصحية بأكملها، فهو على الأقل سيمنح الأطباء سببا لتقديم الخدمة في المستشفيات بشكل أفضل.

كما يؤكد مسعد أن الاستفادة الحقيقية من أزمة الطيارين هي أنهم شكلوا ضغطا على النظام بإتفاقهم على كلمة واحدة، “يمكن تلخيص الأمر فى نقاط بسيطة لحصر المشكلة: أطباء غير متفقين على رأي واحد، مع نظام لا يملك خطة واضحة ولا يستجيب إلا للضغوط الكارثية، ولا يراعي الحقوق الأساسية للمواطن، ولا يراعى حقوق مقدمي الخدمات الاساسية للمجتمع، ومواطنين مستسلمين وغير واعين أن مطالب الأطباء ستعود عليهم في النهاية بالنفع الذي يستحقوه، هي الأسباب الرئيسية لتعثر مشوار النضال الطبي للحصول على أقل القليل من المطالب المشروعة”.

الإهانة مستمرة في الداخل والخارج

وبعد أن انتهت من الكشف على مرضاها عدنا للدكتورة نيهال ثابت لنسألها عن كيفية الكشف على كل هذا العدد من الحالات في هذا الوقت القصير وعن تعليقها على أزمة الطيارين.

أخبرتنا أن الوضع “غير آدمي” بالمرة، لكنه الحال بأغلب المستشفيات العامة، فالطبيب ملزم بتوقيع الكشف ووصف العلاج والتثقيف الصحي لأهل الطفل كل على حدة، إلى جانب المهام الإضافية مثل مشاجرات الدور، من يدخل قبل من، والنقص في بعض أنواع الدواء.

كما أن الأطباء -تضيف ثابت- يتعرضون للضرب والإهانة أحياناً مما يؤكد عدم تنفيذ واحد من أهم مطالبهم وهو تأمين المستشفيات، حتى عندما يقرر الطبيب السفر يتلقى أقل راتب بين أقرانه لعلم مشغليه أن دولته تعطيه أقل من ذلك بكثير وأنه لن يرفض، أي أن إهانة الداخل تبعتها بالضرورة إهانة الخارج.

وعن الطيارين قالت إن الدولة ترى الطيار مهماً بينما لا ترى الطبيب كذلك، حيث تنتفض من أجل الطيار حين يطالب بحقه وتنتفض ضد الطبيب حين يطالب بنفس الحق.