يقف المصريون الآن على مسافات متفاوتة من حافة الموت: صور قتلى ومصابين تنتشر عبر وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي، أو ترى مرأى العين لمشارك في الحدث او لمن يضطره عمله او يأتيه القدر للمشاركة.

يقف المصريون الآن على مسافات متفاوتة من حافة الموت: صور قتلى ومصابين تنتشر عبر وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي، أو ترى مرأى العين لمشارك في الحدث او لمن يضطره عمله او يأتيه القدر للمشاركة.

تزايدت أحداث العنف في مصر خلال السنوات الماضية، خاصة مع القمع المتزايد للدولة لمواجهة الثورة. اعتاد المواطنون اخبار القتل الجماعي أو الفردي المفاجئ. فعلى سبيل المثال منذ نهاية كانون ثاني/يناير وحتى نهاية شباط/فبراير 2015 تقريبا شهدت مصر مقتل الناشطة السياسية شيماء الصباغ في تظاهرة سلمية بالزهور (نهاية يناير)، ثم أحداث الدفاع الجوي التي راح ضحيتها حوالي 29 شاب من مشجعي فريق الزمالك، وتلاها ذبح 22 مواطنا مصريا على يد داعش في ليبيا (فبراير الماضي) هذا بالاضافة إلى ما سبق وتلا ذلك من أحداث الاعتداءات على كمائن الأمن بالإضافة إلى التفجيرات المتكررة والتي يروح ضحيتها مدنيين وأفراد داخلية وجيش، ذلك الموت الذي لم يدركهم ترك عليهم آثارا بالغة وربما مزمنة.   

مربع المحكومين بالاعدام

خطر الموت كان ماثلا دائما لأن الأمور لم تكن منظمة وكان الضرب عشوائيا من الطرفين. لم يكن القتل مقصودا بالضرورة، ولكن المرة الأولى التي فكر بها أحد المشاركين في أحداث الثورة في الموت كان يوم جمعة الغضب في 28 كانون الثاني/يناير 2011.

يروي لنا المشارك (م.ن.) الذي لم يرغب في ذكر اسمه أنه حين فكر في الموت سأل نفسه إن كان راضيا عما فعل. حين زاد الخطر كان المتظاهرون يعدون فوق الجثث والدماء هربا من الموت، بينما هو لم يستطع فعل ذلك، لا سيما في أحداث محمد محمود عام 2011، والتي ردد المشاركون وقتها حكمة تقول “الرصاصة اللي هاتقتلك مش هاتسمعها”.

يقول (م.ن.) ” في محمد محمود ، انا عديت الحسابات بتاعة الموت وكنت بقف قدام في مربع المحكومين بالاعدام لاني لو مادخلتش مفيش حد هيسد، ومابحسبش حساب الامان الشخصي، انتبهت بعدين لما قعدت لوحدي لمين مات جنبي ولاني انا شخصيا كنت هاموت بس ضحكت.”

رغم ذلك كان الحدث الاصعب له هو الدفاع الجوي، لأن المشاركين ذهبوا بنية الاحتفال والغناء والتشجيع، وانقلب الأمر فجأة بعد هجوم الداخلية على المشجعين داخل ممر الموت، يقول “كل اللي نجا من الحدث ده شاف الموت، الموضوع كان صعب لأن الناس اللي شافت الموت كتير جدا شافت العجز .” ما أنقذه من الموت في ذلك اليوم هو فقط تجنبه للزحام.

قام علاء القمحاوي – المصور الصحفي بجريدة المصري اليوم- بتغطية أغلب أحداث الثورة وأحداث العنف في مصر خلال السنوات الماضية. يقول أنه لا يتأثر عاطفيا، خاصة أن الكاميرا تقوم بفصله عن الواقع، فهو عادة ما يكون منشغلا أكثر في زاوية التصوير والعدسة والضوء لكنه يفكر لاحقا فيما رآه.

أحداث فض رابعة العدوية في آب/أغسطس 2013 كانت الأكثر إيلاما له، “كانت المرة الاولى اللي وقفت تصوير عشان أسال نفسي ايه اللي بيحصل حواليا، شفت الصور تاني عشان اتأكد ان اللي بيحصل ده حقيقي، بس كملت عشان مكانش ينفع اسيب الناس تموت كده من غير توثيق.”

يحكي القمحاوي حين قرر الاقتراب من جانب الشرطة لتوثيق ما تفعله، “قربت جدا من المدرعة زحفا على الأرض بمسافة أقل من 100 متر، وابتدى الضرب يمين وشمال، كان في راجل جنبي بيعيط لأنه مش قادر يهرب، اتصاب بطلقة رصاص في راسه، وقفت عشان أصوره وانتبهت اني مصاب، عالجت الاصابة في مستشفى ميداني، وحسيت اني لازم اخرج من الجنون ده.”  

لم تكن تلك هي المرة الوحيدة التي اصيب فيها، فقد أصيب مرة سابقة اثناء عمله، ” القدر والحظ هما اللي انقذوني من الموت رغم علمي بالسلامة المهنية، خاصة وانه مش بيكون في واقي رصاص للاعلاميين او اي وسائل تأمين للصحفيين”.

أثر الموت لا يزول

عن أثر الموت يقول القمحاوي إنه في بعض الأوقات لا يشعر بشئ على الاطلاق، وفي أوقات أخرى يشعر باكتئاب شديد ولا يستطيع التحدث مع أحد عن الحدث او حتى اعادة مشاهدة الصور التي قام بتصويرها، وقد يبكي إن شاهدها مجددا.

يضيف “انا بقيت اقوى نفسيا، وبقيت متعود اكتر، وده بيظهر في التعامل مع اشخاص بيعيشوا حياة طبيعية فعادة بيكون رد فعلي على اخبار الموت اقل ومش طبيعي. انا اتقبل الموت دلوقتي وحتى موتي أنا شخصيا، بقيت اكثر رومانسية وبحاول اعيش مبسوط،  يمكن اللي مزعلني اني مبقتش بعرف اصور حاجة جميلة”.

يقول الشاب (م.ن.) الذي يشارك في الأحداث بصفته الشخصية عن أثر الموت ” القلب بيقسى جدا، وفي حاجة في الروح بتتقفل، بس ده كويس عشان الواحد يبطل يزعل او يتجلط”.

ويضيف “انا اعرف ناس انضمت لداعش بعد مواجهة الموت كتير وكل الحتت المفتحة في روحهم اتقفلت وبقوا طاقات تدميرية. حتى لو ماشافوش اشتباكات مباشرة بس اصحابهم ماتوا وهم اتقبض عليهم واتعذبوا ومابقاش عندهم احلام في ثورة ومفيش غير يأس”.

يتحدث أيضا عن الوجع المتعلق باحلام من ماتوا ولم تتحقق، عن اللحظة التي فاتتهم، عن العجز حتى في المطالبة بحقهم، يحكي عن الخوف من الموت الذي جعل الثورة تنحسر من الشوارع والسعادة تنحسر من البيوت، ويحكي كيف انه اصبح مرتبطا أكثر بالواقع وقلقا اكثر على الحياة وتفاصيلها.

لا تعفي المسافة الأبعد من الموت من أثره الذي لا يزول، فليليان مجدي مصممة ديكور، توقفت عن المشاركة في احداث سياسية منذ بداية الثورة، بعد أن رأت الناس تموت بطرق بشعة بجوارها، وأصبحت تخاف النزول خاصة بعد ان اصبح لديها طفل صغير، لكنها متابعة جيدة للأخبار.

تقول” انا بغصب على نفسي اشوف كل الفيديوهات والصور عشان بحس اني قاعدة في بيتنا وهم نازلين عشاني ولهم جميل علي”.

تحكي مجدي عن الصور التي شاهدتها وكانت مؤلمة للغاية. شاهدت الكر والفر في وسط المدينة وقت الاعتداء على تظاهرة ماسبيرو في خريف عام 2011، ورأت صور “الولاد المهروسين” وشعرت بالخوف الشديد لأنها مسيحية ولم تفهم لما قتلوا بهذا الشكل. شاهدت أيضا صور الجثث وهي تلقى في القمامة في احداث محمد محمود.

تقول مجدي “وقت رابعة حسيت إن الدولة بتتحول لبلطجية، حتى لو كانوا ضدي بس أنا ليا في المواطنين دول وحقهم في التظاهر والحرية”. صورة شيماء الصباغ وهي ممسكة بيد زميلها وعلى وجهها نظرة الخوف كانت مؤلمة جدا، ولكن حينما شاهدت فيديو ذبح الاقباط المصريين في ليبيا لم تتأثر كثيرا، تقول انها بكت فقط في مشهد الدعاء “يارب يا يسوع”، ولكنها بعكس آخرين شاهدت الفيديو حتى نهايته.

وعن الأثر النفسي الذي تركته هذه الأحداث تقول “الصور بقت بتيجي في عينيا فجأة وانا بعمل اي حاجة في البيت او باشتغل وبتبقى الصورة واضحة جدا وبتطفي، وبقى عندي ارق طول الوقت. واوقات كتير وانا قاعدة في البيت بابقى قاعدة منتظرة كارثة تحصل شبه طيارات هتفجر العمارة او قنبلة”.

أمراض ما بعد الصدمة

الأحداث الصادمة وغير الاعتيادية لها تأثير ولكن ليس وحده، هناك عوامل تتعلق بماهية الصدمة، وكيف كانت صادمة، وهل هي متكررة أم لا بالاضافة الى مدتها الزمنية، كما أنه هناك عوامل تخص الشخص الذي يستقبل الصدمة مثل سنه ومستوى تعليمه وخلفيته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهناك عوامل تخص الدعم مثل العائلة أو الجماعة او الاصدقاء، بالإضافة إلى العوامل التي تخص المجتمع مثل احتمالية تعرضه لهذه الصدمات مجددا، تتفاعل كل هذه العوامل سويا وتترك تأثيرا يختلف من شخص لآخر. هذا ما بدأت به د. منى حامد الطبيبة النفسية في مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب حديثها.

تضيف أنه في وقت الصدمة عادة ما تكون الأعراض ماثلة في الخوف والقلق الشديد والتوتر الزائد والأرق والتحفز وسرعة الاستثارة، وقد يحدث ألا تظهر أي أعراض على الشخص وقد يكون متجمدا أو يشعر بالخدلان.

أما الامراض المرتبطة بالصدمة فعادة ما تكون اما Accute reaction”  “distress  التفاعل الحاد مع الكرب، او كرب ما بعد الصدمة ” post traumatic stress disorder” وهو يكون بعد فترة من الحدث حيث تزيد العصبية والقلق والتوتر والأرق والكوابيس وقد يصل الأمر إلى اليقظة المفرطة أو أن تفرض الذاكرة نفسها وتعيد الصورة بشكل حي بالصوت والصورة والرائحة كأن الشخص يعيش الحدث. والكلام دوماً للطبيبة حامد.

قد يحاول الشخص تجنب الأمر بالعزلة التامة وفقدان القدرة تماما على التعامل مع أي شخص لأنه قد يفتح الموضوع، وهذا يمنع الأشخاص من الحصول على مساعدة، وقد يصل إلى مرض الذهان حيث يختلط عليه الخيال بالواقع، والمرض الأخير “adjustment disorder” اضطراب التكيف.

تستطرد حامد أن الدماغ بشكل عام يحمي نفسه من الدمار، واحدى هذه الطرق غض النظر عن اي مشهد مؤلم او السخرية من الامر، او الهروب، او الانكار ونفي المشهد، وهذا يحدث بشكل غير واع لحماية المخ من الانفجار او الجنون، ولكن استخدام هذه الوسائل بقدر كبير سيمد الخط لاستقامته فيتم انكار كل الاشياء، “ان قرر المخ ان يمتنع عن الاحساس سيقود ذلك لعدم الاحساس نهائيا او الانهيار المفاجئ لتسقط كل الوسائل الدفاعية”.

ترى د. منى حامد ان المجتمع المصري قد تغير سلبا وايجابا خلال السنوات الماضية فيما رآه من صدمات، “فالعدوانية والتحفز والحزن هي من الاثار السلبية، ولكن أصبح هناك وعي بما يحدث، حيث يعتبر الأشخاص أنفسهم موجودين ومتورطين ولهم دور في المجتمع”.

وتتمنى حامد  “أن يحصل الأشخاص الذين يتعرضون لعنف على الدعم النفسي، لأن تاثير الصدمات والتعب النفسي هو رد فعل طبيعي لحدث مش طبيعي”.

كما أنها ترى ضرورة للوقاية الدورية خصوصاً للأشخاص الذين يواجهون أحداث عنف بشكل دوري. ففي حالات الحزن العادية كالوفاة الطبيعية لأحد الأقارب يكون رد الفعل الكافي هو تلقي الدعم الاسري ومن الاصدقاء، “لكن الاحداث الاستثنائية والتي اصبحت غير استثنائية لا يمكن التعامل معها بنفس الطريقة، فهناك واجب على الاشخاص تجاه انفسهم للحصول على اجازات بشكل دوري، والتواجد مع الاقرباء والاصدقاء وخاصة من لديه القدرة على “الطبطبة” او الاستماع، ممارسة الرياضة او الاسترخاء، او تكوين علاقة مع الطبيعة، اللجوء للصلاة  للمؤمنين، فعل أشياء يحبها الشخص. وقبل كل ذلك يجب على الشخص الاعتراف بانه غير سليم بالضرورة إن كان قادرا على الوقوف على قدميه”.