يتأمل سالم القاسمي (73 سنة) سكة الحديد الصدئة التي غاصت في الأرض بفعل السنين، وتعود به الذاكرة إلى أكثر من خمسين عاما حين بدأ حياته كعامل في سكة الحديد قبل أن يتحول إلى تاجر توابل.

يتأمل سالم القاسمي (73 سنة) سكة الحديد الصدئة التي غاصت في الأرض بفعل السنين، وتعود به الذاكرة إلى أكثر من خمسين عاما حين بدأ حياته كعامل في سكة الحديد قبل أن يتحول إلى تاجر توابل.

اشتغل سالم بضعة أشهر في شركة السكك الحديدية عندما كان شابا يافعا. حينها كانت محطة القطار على مرمى حجر من منزل والديه بمنطقة زعفرانة (16 كلم تبعد عن مدينة القيروان). يروى لـ”مراسلون” كيف كان يشاهد العربات الطويلة في صغره تحمل عشرات المسافرين المحملين بالسّلع والبضائع والدواب إما الى منزل الميهري (40كلم جنوب القيروان) أو الى السّاحل (60كلم شرقا). ويتذكر أن القطار كان وسيلة النقل الجماعي الوحيدة نحو مدن الجوار والعاصمة.

“كان الأهالي يرتمون في القطار ليأخذهم إلى البحر صيفا هروبا من حر صيف القيروان الذي يتجاوز أحيانا 40 درجة مئوية في الظل”.

أشرف يريد قطاراً

مبنى المحطة العتيق مصمم على شاكلة المعمار الأوروبي ذي الأسقف القرميدية المائلة. تشير لافتة بالأبيض والأسود إلى أن المبنى يتبع اليوم للشرطة البلديّة التي بدأت تستخدمه بعد ثورة 14 جانفي/يناير 2011. وقد كان قبل ذلك مستغلاً من قبل الجيش الوطني في تجنيد الشبّان. وتطل شرفاته على حامية الجيش التي تعيش حالة تأهّب بسبب تهديدات الارهاب المتواصلة.

أمام المبنى يقف شاب يحمل حقيبتين، يتطلع عبر نظارته الشمسيّة إلى عقارب الساعة المتجهة الى ساعات المساء. كان كمن ينتظر شيئا في موعده. ولكن بعد انتظار مملّ، وبعد أن يأس من تحيّة أصدقائه كمن يودع أحباءه الى سفر يغادر مكانه أمام محطّة القطار ولا يسافر. القطار لم يأت بعد.

هذه الوقفة الرمزيّة التي أدّاها الشاب العشريني أشرف النقاطي، وهو ناشط مدني (خريج ماجستير إنجليزية)، تعبّر عن انتظار أهالي القيروان للقطار الذي حدثه عنه والداه مما سمعاه من كبار العائلة والجيران.

ينوب أشرف عن أمثاله من الشباب الحالم بتنمية شاملة بجهة توصف بكونها “حاضرة تاريخيّة ودينيّة” بها 600 ألف ساكن. وانطلاقا من أحلامهم وأمنياتهم، انبرى أشرف يجسم بشكل عملي معالم هذا الحلم من أجل تحقيقه.

يستفيد أشرف من انخراطه في جمعيّة “نحن نحب القيروان” للإشراف على لقاء وطني يجمع أكبر عدد من المسؤولين الجهويين بالقيروان ووزراء أو من ينوبهم، لمناقشة المشاريع التنمويّة التي تهم جهة القيروان ويكون القطار محورها.

حماسة بعض الشبّان الذين قاموا بنشر مقاطع فيديو ومقالات وحوارات وشهادات حيّة، أوعزت للناشط أشرف النقاطي تنظيم ملتقى لمناقشة المشروع وبدأ التنسيق بينهما لتحقيق هدف شبابي مشترك.

شيوخ وذكريات طفولة

يذكر صالح عبروق وهو شيخ بلغ الـ 89 عاما (صاحب محل صيانة أجهزة الراديو) أن القطار كان وسيلة النقل الجماعي الوحيدة نحو مدن الجوار والعاصمة، سيّما عندما كان الأهالي يرتمون في القطار ليأخذهم إلى البحر صيفا وباتجاه المعاهد والكلّيات بالنسبة للطلبة طيلة العام الدراسي.

ويذكر أنه حينما كان في الثانية عشرة من عمره رافق أسرته إلى الشاطئ على متن القطار، إذ لم تكن هناك سيّارات أجرة ولا حافلات. أمّا اليوم فيتنقل الشيخ صالح بسيارة أبنائه. وأفاد أن أولاده لم يدركوا القطار الذي توقف منذ فيضانات 1969. ويرى الشيخ أن عودة القطار “ستتيح نقل الأشخاص والبضاعة وتنشط البلاد اقتصاديّا”.

قبل انسحابه سنة 1969، كان قطار الشركة التونسية للسكك الحديدية، وهي شركة عموميّة، ينقل الركاب ويحمل البضائع في خط متواصل يربط بين تونس العاصمة ومحافظات سوسة والقيروان وصولا الى محافظة القصرين.

أمّا اليوم فالسكّة الحديدية التي غلّفها الصدأ وعبثت بها أيادي التخريب تشهد على إهمال أشبه بالفساد. بل إن القضبان التي كانت مساراً لقطار يأتي من بعيد، تحوّلت إلى جزء من سقف المنازل وأعمدة لأكواخ قريبة من السكّة.

يتّهم الأهالي فيضان وادي سد سيدي سعد بمعتمديّة نصر الله، الذي غمرت مياهه مدينة القيروان عام 1969، وهدمت منازل ومزارع،  بكونه كان الحجّة في اقناع الحكومة بإحالة ذلك القطار القادم من العاصمة تونس على التقاعد بعد طول سفر عبر عمق القيروان بما فيها من جبال راسية وبيئة غنيّة وتضاريس متنوّعة وإنتاج فلاحي وافر مختلف الألوان، متجها الى محافظة القصرين.

ولا تزال أثار فيضان الماء الذي جرف أجزاء من السّكة الحديديّة ومنع قدوم القطار مجدّدا تاركا صدى صفيره الذي طالما ملأ الآذان وعايش أهل القيروان مراحل تطوّره تحت وطأة الاستعمار الفرنسي الذي استعمل القطار في جلب ما في بطون المناجم من ثروات بيضاء وسوداء وما فوق الأرض من حجر وبشر.

الفيضانات مجرد ذريعة

يمتلك المؤرخ حسين القهواجي تفاصيل تاريخية أكثر دقّة استمدها من الصور الفوتوغرافية للمصور المؤرخ “لاندروك”. ويذكر بدايات القطار في القيروان منذ سنة 1880 عندما حينما كان في شكل عربة تجرها الخيول تأتي من منطقة ذراع التمّار شمال القيروان (بين 5 و10 كلم) التي توجد بها ضيعات فلاحية على ملك بعض أعيان المدينة.

وعرفت القيروان تجربة القطار البخاري وبعدها جاء “الترامواي” ثم “الأوتوراي” إلى أن أخذ القطار شكله المعاصر قبل أن تكسر الفيضانات السكة الحديدية وتمنع الاهالي من مشاهدة القطار السريع وركوبه بلا عودة.

ويعتقد القهواجي أن القطار في القيروان “لم تكن له جدوى اقتصاديّة كبرى في تلك الفترة” وأن “الفيضانات كانت ذريعة من دولة الاستقلال لإيقافه” في زمن حكم الرئيس الحبيب بورقيبة.

خلف مكتبه مباشرة يضع محمد الهادي السعيدي المدير الجهوي للنقل، صورة قطار عتيق بالأبيض والأسود قال إنه اختارها لتكون رمزا لهدف وضعه نصب عينية يحفّزه على متابعة ملف مشروع القطار الذي تم اقراره ضمن برنامج تنموي أقرته حكومة ما قبل “ثورة الياسمين” أي منذ 2009. ورصدت له بعد الثورة ميزانية للدراسة بقيمة 500 ألف دينار (حوالي250 الف دولار).

على خلاف بقية المديرين الجهويين بمحافظة القيروان، مدير النقل هو شاب نشيط، يجيب السائلين من أعضاء البرلمان وكل من له شغف بمشروع القطار مثل أشرف، بالوثائق الدالّة والأدلّة الدامغة التي جمعها. يسحب ملفّا أزرقا انتفخ من كثرة البرقيّات التي وجّهها إلى وزارة النقل والى شركة السكّة الحديديّة بتونس العاصمة، ليذكرها بالمشروع ويستحثها لتنفذه ويجدد المراسلات كلّما رأى منهما سهوا أو غفلة.

سنة السكة الحديدية

ربما كان تنشيط السكة الحديدية بالقيروان من قبيل الدعاية السياسيّة ضمن ما عرف بتونس بـ”سنة السكة الحديدية” سنة 2010. يومها أدرج القطار ضمن حزمة مشاريع تنموية واقتصادية ترتكز على إقامة مشروع المياه العميقة بالنفيضة (بسوسة) ليصبح ميناء يشع على شمال افريقيا والبحر المتوسط. وقد تم حينها اعداد دراسة أوليّة لقياس النجاعة الاقتصاديّة وتفاصيل فنيّة أخرى موثقة.

ومع اندلاع الثورة التونسيّة توقفت دراسة المشروع كأنه تركة غير مرغوب فيها. ولم تتم اثارة المشروع رسميّا، سوى بعد 3 سنوات من النسيان، في مجلس وزاري بتاريخ 8 جانفي/كانون الثاني 2014 في فترة حكومة حمّادي الجبالي قبل تسليم الحكومة الى مهدي جمعة الذي لم يضع شيئا على السكّة الخالية.

تقنيّا، قدمت الدراسة الأوّليّة عدّة فرضيات حول المسار والتكلفة. بين فرضية في شكل خطين بتكلفة 141 مليون دينار (حوالي75 مليون دولار) وفرضية بخط واحد بتكلفة 114 مليون دينار (65 مليون دولار) حسب أسعار 2010. وفرضية خط النفيضة القيروان بتكلفة 47.5 مليون دينار ( 25 مليون دولار) تتضمن مصاريف الاشغال وانتزاع الأراضي. وهناك بحث عن تمويل أجنبي لتنفيذ المشروع.

نصف قرن من العزلة

استفاد المستعمر الفرنسي من القطار في نقل الجنود وفي نقل الموارد الطبيعيّة والبضائع إلى حين الخروج من تونس. وبعدها بنحو عقد من الزمن استمر استخدام القطار لنفس الوظائف. لكن ذلك الفيضان المفاجئ قطع همزة الوصل بين الشمال وعمق الوسط. فغرقت القيروان ومعها القصرين في عزلة تنمويّة تواصلت آثارها المضرّة إلى ما بعد صدور دستور ينص على اللامركزيّة والتمييز الايجابي.

يشدد مدير النقل لـ”مراسلون” على أنّ دواعي عودة القطار يجب أن تكون اقتصادية مرتبطة بالتصدير والاستثمار مشيرا إلى ان 80 بالمائة من المبادلات التجارية تتم عبر ميناء رادس (تونس) وتحتاج القيروان الى خط بين القيروان والنفيضة لتحقيق نجاعة اقتصادية وليكون للقطار اشعاع تنموي وتحسين للتشغيل عن طريق تلك الحركيّة التجاريّة.

كل الصعوبات لا تمثل بالنسبة لأشرف عائقا لعودة القطار. وهو يعوّل أكثر على ضغط المجتمع المدني في إثارة هذا المطلب. ويكرر مقولة الشاعر العراقي أبو تمام “وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا”.