1

أُطلق على ما حدث في العالم العربي من انتفاضات شعبية تسمية الربيع العربي وهي تسمية إعلامية غربية، ترتبط بالتسميات التي أطلقت على تحولات أوروبا الشرقية غداة سقوط جدار برلين، وعُرفت  بتسمية  “الثورات الملونة”. مثل الثورة البرتقالية والمخملية والخضراء والبنفسجية. وكذلك تحيل تسمية “الربيع العربي” إلى “ربيع براغ” في وصف انتفاضة تشيكوسلوفاكيا في ربيع 1968 والتي أجهضتها دبابات الاتحاد السوفيتي.

1

أُطلق على ما حدث في العالم العربي من انتفاضات شعبية تسمية الربيع العربي وهي تسمية إعلامية غربية، ترتبط بالتسميات التي أطلقت على تحولات أوروبا الشرقية غداة سقوط جدار برلين، وعُرفت  بتسمية  “الثورات الملونة”. مثل الثورة البرتقالية والمخملية والخضراء والبنفسجية. وكذلك تحيل تسمية “الربيع العربي” إلى “ربيع براغ” في وصف انتفاضة تشيكوسلوفاكيا في ربيع 1968 والتي أجهضتها دبابات الاتحاد السوفيتي.

لكن ما حدث في العالم العربي حدث في الشتاء. وله طبيعته الخاصة من حيث الظروف والمعطيات (المدخلات  والمخرجات). انتفاضات شعبية عفوية متقافزة من تونس إلى مصر فاليمن فليبيا.. ثم سوريا..

لم يكن ملائماً إسقاط تسمية مستقاة مما حدث في أوروبا على ما يحدث في واقع عربي معقد بطبيعة خصوصيته الاجتماعية والثقافية والدينية.

ما حدث في الواقع العربي لا علاقة له بالربيع ولا بالورود أو الزهور الملونة. إنه خارج فهم الغرب المعياري التبسيطي في الإلمام بما يحدث في مستعمراته السابقة. ومعروف أن فرنسا ساركوزي التزمت الصمت في البداية حيال قمع بن علي للمتظاهرين متحججاً بأن فرنسا لا تتدخل في شؤون الدول فيما أعلنت وزيرة خارجيته عن الاستعداد لدعم نظام الطاغية التونسي بأدوات أمنية لقمع التظاهرات. وكانت أمريكا تراقب بخبث داعية لضبط النفس.

ثم تغيرت المواقف الغربية بعد هروب بن علي وتأكد سقوط مبارك. تحول ساركوزي إلى نابليون منقذ الشعوب من “المماليك الجدد”. وكان دوره الحربي حاسماً من خلال قصف الطيران الفرنسي لأرتال كتائب القذافي التي كانت توشك على اجتياح بنغازي للقضاء على الانتفاضة الشعبية.

والحال بالنسبة لليبيا فإنه بوجود الناتو في السماء والثوار المسلحين على الأرض تم القضاء على القذافي ونظامه. وكان يُفترض بعد ذلك أن ليبيا تحررت من الطاغية الفردي وطغيانه السياسي على كامل الدولة والمجتمع. وتحرر  الناس  من أربعة عقود ونيف من  تكميم الأفواه ودمغ الوعي بالخنوع. وهو ما حدث فعلاً خلال الشهور الأولى بعد التحرير. إذ كانت حرية الرأي السياسي والتعبير دون رقابة رسمية. وحريات التجمع والتظاهر وإنشاء الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، مُشاعة بدون موانع.. ثم حدث، كما يحدث في حالة هيمنة فوضى السلاح في غياب  احتكار سلطة الدولة له، أن تفتتت قوة السلطة العسكرية الموحدة إلى قوى ميليشاوية متعددة (قبلياً وجهوياً وآيديولوجياً..).

2

عدتُ إلى طرابلس من المنفى الألماني بعد تحريرها بأسابيع. كان الناس في حالة فرح وابتهاج. كان حلم معظمهم واضحاً وبسيطاً: بناء نظام حكم رشيد. أي نظام حكم دستوري ديموقراطي كالذي تحكم به معظم دول العالم. ومنها أندونيسيا أكبر دولة إسلامية.

إلا أنه نتيجة لسذاجة الوعي السياسي للأصابع المغموسة في الحبر البنفسجي لانتخابات (7/7/2012) نتج ما يسمى مؤتمراً وطنياً عاماً، كانت أولى فتوحاته العبقرية أن وقف أحد أعضائه الإسلامويين مؤذناً للصلاة في خضم نقاش جلسة المؤتمر المنقولة تلفزيونياً مباشرة.

كنت أتابع وقائع نقل جلسة المؤتمر بصحبة صحفي ألماني حاولت أن أترجم له حسب معرفتي غير الطليقة باللغة الألمانية خلاصة ما يدور. لكنه لاحظ أني سكتتُ مطولاَ حتى بعد انتهاء المؤذن العضو.. ماذا أترجم له؟! أترجم له إنه لا يؤذن في حقيقة الأمر للصلاة إنما يعلن عن سيطرة تياره المتطرف على قرار ما يسمى مؤتمر وطني عام، مسنوداً في الخارج بميليشيات ذوي اللحي المتهدلة. وهي الميليشيات التي عندما أدركتْ لاحقاً أنها خسرت سيطرتها في انتخابات مجلس النواب الجديد التي جرت يوم 25/6/2014، اجتاحت العاصمة وسيطرت عليها عسكرياً وسياسياً.

وكما أذّن مؤذنهم في المؤتمر الوطني العام صرخ قائدهم الميلشياوي صلاح بادي: الله أكبر الله  أكبر الله أكبر، فيما كانت قواته تدمر مطار طرابلس عن بكرة طائراته الرابضة وحتى تلك التي لم تطر منذ قدم النظام القديم. وسموا عمليتهم لاجتياح العاصمة وحكمها بسلاحهم الآيديولوجي القهري: “فجر ليبيا”..

طرابلس بعد “فجر ليبيا” لم تعد تلك التي قبلها. شاع الخوف واختفت التظاهرات المنادية بحل المليشيات وسحب أسلحتها. أوقفت وسائل التعبير، من صحف ومحطات تلفزيونية وإذاعية، المحسوبة على الرأي الآخر المعارض لحكم الإسلاميين. أمست أحاديث المقاهي الانتقادية لسيطرة ميليشيات “فجر ليبيا”  تدور همساً.  

صار المرء يتلفت حواليه قبل أن يُعبر عن رأيه المخالف أو يعلن مناصرته للجنرال حفتر وحربه ضد الميليشيات الإسلامية المتطرفة في بنغازي..

شخصياً تعرضتُ للاختطاف من مقهى معروف في وسط العاصمة على يد ميليشيا أمير الحرب صلاح البركي وسجنت عدة أيام لأني انتقدت في لقاء تلفزيوني اجتياح ميليشيات “فجر ليبيا” للعاصمة طرابلس وحربها العبثية المُخرِّبة للمسار الديموقراطي.

كنتُ محظوظاً أن أطلق سراحي مبكراً. فهربتُ من طرابلس إلى مدينتي البيضاء. لكن كثيرين غيري من إعلاميين ونشطاء سياسيين وجمعويين وأفراد عاديين، لا يزالون في حالة اختفاء قسري في سجون “فجر ليبيا” الدامس. وعديد آخرين تم اغتيالهم بدم بارد.  

3

كم لا يزال يلزمنا من أريحية إنسية عقلانية كي نموضع دستورياً الإمام في الجامع والمواطن في الدولة؟! وكم لا يزال يلزمنا من منسوب التسامح الفكري المبدئي المنطقي (وليس الأخلاقي) كي نعبد من نشاء ونكفر بمن نشاء، حيث: “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فلست عليهم بمسيطر”. ونفكر ونبحث ونعبر بلا رقيب ولا حسيب حتى لو كانت ذواتنا…؟!