يشير أنيس قناوي (39 سنة) بإصبعه إلى العلم التونسي الذي يغطي جسدا نحيلا أنهكه الجوع ويقول: “أوصيت أن يكون هذا العلم كفنا يرافقني في الرحلة الأخير إلى القبر، الحكومة التونسية ترفض التفاوض معنا والنظر بجدية في مطالبنا”.
أنيس هو واحد من 8 معطلين عن العمل يخوضون إضرابا عن الطعام منذ 28 شباط/فبراير (أي قرابة الشهر) في مقر رابطة حقوق الإنسان في قابس (470 كم جنوب شرق العاصمة) نيابة عن نصف مليون شاب تونسي من خريجي الجامعات لم يظفروا لحد اليوم بوظيفة في القطاعين العام والخاص بحسب إحصائيات وزارة التشغيل التونسية.
يشير أنيس قناوي (39 سنة) بإصبعه إلى العلم التونسي الذي يغطي جسدا نحيلا أنهكه الجوع ويقول: “أوصيت أن يكون هذا العلم كفنا يرافقني في الرحلة الأخير إلى القبر، الحكومة التونسية ترفض التفاوض معنا والنظر بجدية في مطالبنا”.
أنيس هو واحد من 8 معطلين عن العمل يخوضون إضرابا عن الطعام منذ 28 شباط/فبراير (أي قرابة الشهر) في مقر رابطة حقوق الإنسان في قابس (470 كم جنوب شرق العاصمة) نيابة عن نصف مليون شاب تونسي من خريجي الجامعات لم يظفروا لحد اليوم بوظيفة في القطاعين العام والخاص بحسب إحصائيات وزارة التشغيل التونسية.
يقول أنيس: “فضلنا الجوع على الخضوع لأزمات اقتصادية تعيشها الدولة حالت دون دمجنا في سوق الشغل. لا ذنب لنا في الخيارات الاقتصادية الفاشلة التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة على حكم البلاد منذ سقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي”.
ويطالب المضربون بحق الشغل، خاصة أنهم لم يحصلوا على عمل منذ أكثر من 10 سنوات، وكان كثر منهم وقودا للثورة التونسية التي انطلقت شرارتها نهاية سنة 2010 احتجاجا على الفقر والبطالة.
احتفل أنيس هذه السنة بمرور 18 سنة على تخرجه من الجامعة التونسية وتسلم شهادة الأستاذية في الإلكترونيك الصناعي. يتذكر أن والدته هنأته آنذاك بإتمام دراسته العليا ظنا منها أن الشهادات الجامعية بمثابة بوابة الدخول للوظيفة العمومية في تونس، لكن هذا الظن تحول بمرور قرابة العشرين سنة إلى حلم صعب المنال. ويؤكد لمراسلون بصوت متقطع “حلمي صار كابوسا سرق طموح يسعى لتحقيق أهداف يحلم بها جميع أبناء جيلي”.
ويتابع أنيس متسائلاً: “سنة واحدة تفصلني عن العقد الأربعين، متى سأعمل وأدخر النقود اللازمة للزفاف بالفتاة التي أحببتها؟”.
وفيما يتحدث مستلقياً إلى جانب المضربين الآخرين وقد أعياه الإنهاك وفقد عدة كيلوغرامات من وزنه، يتوافد عشرات الزوار من كافة أنحاء البلاد إلى بهو مقر رابطة حقوق الإنسان للتضامن مع أصحاب الإضراب، يستقبلهم أعضاء لجنة التنظيم ويدونون أسماءهم. “دفتر أراد أصحابه أن يكون شهادة للتاريخ تروي حكاية الأمعاء الخاوية” يقول أنيس.
اتحاد للمعطلين
يرفض خريجو الجامعات التونسية تصنيفهم ضمن العاطلين عن العمل، ويصرون على فرض مصطلح “المعطلين” بناءً على رغبتهم الملّحة في العمل التي تعجز السلطات عن تلبيتها.
إصرارهم على فتح آفاق تشغيل في تونس دفعهم سنة 2006 إلى تأسيس هيكل تنظيمي اختاروا له تسمية “اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل” ليكون صوتهم لدى الهيئات الرسمية. لكن سياسة النظام السابق الرافضة لمبدأ الديمقراطية والتمرد على خيارات الدولة، جعلهم عرضة إلى القمع والسجن واعتبار نقابتهم تنظيم خارجا عن القانون.
أتاحت لهم الثورة التي كانوا عمودها الفقري في محافظات البلاد فرصة الحصول على رخصة النشاط القانوني والاعتراف بهم رسميا للتفاوض من أجل إيجاد حلول تنهي معاناة قرابة نصف مليون من خرجي الجامعات.
ويروي أنيس القناوي أن توصيات أول حكومة مؤقتة بعد الثورة، فتحت آفاقا جديدة للعاطلين خاصة أن السلطات قررت الاعتماد على أقدمية التخرج والظروف الاجتماعية في الانتداب للعمل صلب الوظيفة العمومية.
لكن منح الأولوية للمتمتعين بالعفو التشريعي العام (الذين سجنوا قبل الثورة وأغلبهم من الاسلاميين، وهو امتياز قامت به حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة الاسلامية) كان منعرجا أجهض حلم أنيس ورفاقه. فقد التحق 6 آلاف شخص للعمل بالإدارات التونسية دون إجراء مناظرات تعويضاً عن الضرر المادي والنفسي الذي لحقهم بسبب الاعتقال والتعذيب خلال فترة حكم الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. إضافة إلى تشغيل 3 آلاف مواطن تونسي بذات الطريقة بعد منحهم صفة جرحى الثورة.
ويقول أنيس في حديثه لمراسلون “هذه الإجراءات الاستثنائية أعادتنا إلى نقطة الصفر وخوض معارك جديدة بمختلف الأشكال، كان آخرها الإضراب عن الطعام الذي نخوضه منذ أسابيع ويعرض حياتنا لخطر الموت”.
صفارات إنذار سيارات الإسعاف التي وصلت مقر رابطة حقوق الإنسان، تقطع حديث أنيس العاجز عن النهوض للتثبت من أسباب مجيئها. يركض أعوان الحماية المدنية للدخول إلى مكتب الأرشيف الذي تحول إلى غرفة إضراب أصحاب الأمعاء الخاوية، لنقل 4 مضربين عن العمل إلى المستشفى بعد تدهور حالتهم الصحية.
حالة الفزع في صفوف المتضامنين تظهر خطورة الوضع الصحي وضرورة تعليق الإضراب عن الطعام، وهو ما يرفضه المتضررين من تحرك احتجاجي سيؤدي إلى نهاية حياتهم ويصرون على مواصلة المشوار إلى حين تحقيق مطالبهم.
مساندة واسعة، ولكن
يحظى هذا الإضراب بمساندة واسعة من طرف المنظمات النقابية والحقوقية والأحزاب السياسية وآلاف المواطنين الذين يتناوبون على زيارة المضربين من أجل مساندتهم ورفع معنوياتهم.
وفي هذا الصدد يقول نبراس شمام، وهو فنان موسيقي معروف كان حاضراً للتضامن مع المضربين: “الواجب الأخلاقي يفرض على الحقوقيين والسياسيين تبني هذه المطالب المشروعة. حق الشغل يكفله الدستور الجديد ومن واجب الدولة توفير لقمة العيش لمواطنيها”.
ويستغرب شمام الصمت الذي رافق موقف السلطات المحلية والمركزية اتجاه مطالب المضربين. ويضيف “سياسة التشغيل الهش وغياب استراتجيات واضحة تنهي أزمة البطالة في البلاد، دفعت المضربين إلى إشهار السلاح الأخير في وجه الحكومة رغم العلم بخطورة مغامرة الامتناع عن الطعام لإبلاغ صوتهم للجهات المعنية”.
ولا يخفي خشيته من إمكانية موت عدد من المضربين بحسب تقارير اللجنة الطبية المتابعة يوميا لحالتهم الصحية، والتي تتمسك بضرورة إقناعهم بالتعجيل في إنهاء الإضراب عن الطعام اعتمادا على معطيات طبية وعلمية تشير إلى انهيار شبه كلي لخلايا الجسد”. ويؤكد شمام أن موت أحد المضربين سيكون شرارة انتفاضة شعبية تهدد بقاء حكومة الحبيب الصيد على رأس البلاد.
وبحسب أحد المسؤولين الجهويين فإن السلطات ليست عاجزة عن توفير 8 مواطن شغل لأنيس ورفاقه، لكن التخوف من انخراط بقية أصحاب الشهادات العاطلين عن العمل في تحركات مماثلة يمنعها من الاستجابة للمطالب المذكورة.
وقال أنيس في سرد روايته أن محافظ ولاية قابس زارهم منذ اليوم الأول للإضراب وتعهد بدارسة ملفاتهم، لكن رفض تحديد جدول زمني يلزم الحكومة بتشغيلهم أمام الرأي العام.
تعطش الشاب أنيس القناوي للعمل يطغى على تلبية حاجيات أمعائه الخاوية التي تصر على مناقضة موقفه الرافض لتعليق الإضراب. وجهه الشاحب عينيه الغائرتين وعدم قدرته على مغادرة الفراش، دلالات تترجم مراحل موت بطئ يهدد حياة حالم بالشغل.
في الأثناء تتعمق الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس بسبب عدة عوامل على غرار تراجع الاستثمارات والعجز التجاري وعائدات العملة الصعبة التي ستتفاقم أزمتها بعد حادثة باردو وتؤدي إلى مضاعفة معاناة العاطلين العمل.