على أطراف قرية “الجراح” التي تبعد 15 كيلومتراً عن مدينة المنصورة، عاصمة محافظة الدقهلية في الدلتا، وعلى الجانب الشرقي لبحر المنصورة، وقفت ريهام محمد، الفتاة الثلاثينة، تمارس عملها في مساحة لا تتعدى مترين في مترين. فى تلك المساحة تعمل في تفريغ العبوات البلاستيكية التالفة داخل موقد نار “خاص” لتخرج من الجانب الآخر عبارة عن أقراص بلاستيكية معاد تدويرها.

على أطراف قرية “الجراح” التي تبعد 15 كيلومتراً عن مدينة المنصورة، عاصمة محافظة الدقهلية في الدلتا، وعلى الجانب الشرقي لبحر المنصورة، وقفت ريهام محمد، الفتاة الثلاثينة، تمارس عملها في مساحة لا تتعدى مترين في مترين. فى تلك المساحة تعمل في تفريغ العبوات البلاستيكية التالفة داخل موقد نار “خاص” لتخرج من الجانب الآخر عبارة عن أقراص بلاستيكية معاد تدويرها.

تقول “الفتاة” إن عملها يحتم عليها الاستيقاظ في الخامسة فجراً كل يوم، لتركب سيارة من مدينة أجا في السادسة صباحاً حتى تكون في السابعة على رأس عملها الذي يسمى بـ”الكتالة” في قرية الجراح، وينتهي عادة في الساعة الثالثة عصرا.

العمل كما تقول ريهام مستمر طوال اليوم ومقسم على ثلاث ورديات، تختص هي وزميلة لها بالأولى منهم، حيث يتطلب عملها أن تضع العبوات الالبلاستيكية فى موقد النار، لتخرج من الكتالة اقراص مادة صلبة بلاستيكية، تساعدها خلال هذه العملية زميلتها رشا التي تقوم باستقبال الأقراص من الجانب الآخر، عقب صهرها، ومرورها فى مجرى مائي لتتحول لمادة صلبة على شكل قرص بلاستيكي، ليقوم صاحب الكتالة ببيعها إلى أصحاب المصانع لتدخل من جديد فى صناعة الشماعات البلاستيكية.

صناعة قضت على البطالة

مهنة الكتالة هي إحدى “مهن النار” التي تزدهر في قرية جراح. فقد اكتسبت القرية شهرة واسعة بسبب احتوائها على ثلاثة مصانع الزجاج، وما يقرب من 300 ورشة زخرفة وتلوين للزجاج. ورغم أن تعداد سكانها لا يتجاوز 12 ألف نسمة إلا أنها استطاعت أن تجذب الأيدى العاملة إليها من كل القرى والمدن المحيطة القرية. حتى أن أبناء القرية يتفاخرون بانخفاض معدل البطالة، وسرعة زواج الشباب بفضل انتظام العائد المادي لعملهم في ورش الزجاج.

بداية توجه القرية إلى صناعة الزجاج تعود إلى نحو منتصف قرن ماضي. فيقول شكرى محمد عامل بأحد مصانع الزجاج “دخلت صناعة الزجاج فى القرية على يد الحاج مهدى ابو سعده منذ 45 سنة حينما صنع بوتقة فى منزله وصنع “لمبة الجاز”  ثم اشترى خراط فورمة وبدأ بصناعة الاطباق الزجاجية والكؤوس، واشتغل مع الحاج مهدى وقتها 40 عامل ثم دخلت القرية كلها فى صناعة الزجاج”.

ويواصل شكري قائلا “إن المصانع الموجودة بالقرية تركز على تصنيع الكأس البلدية، والكوب الشعبي و”الشفشق”، وأطقم الشربات، وهذه الأصناف تصنع من الزجاج الكسر وأسعارها في متناول الجميع. ويقوم العامل بسحق الزجاج وخلطه بالرمل الجبلي المحلي ذي اللون الأبيض وبمادة مستوردة اسمها “صدا” وذلك في حفر عميقة، ثم يوضع هذا الخليط في فرن مبني من الطوب الحراري له مواصفات خاصة وتصل درجة حرارته إلى ألف درجة مئوية حتى يتحول إلي عجينة سهلة لينة صالحة للتشكيل”.

ويتابع: “بعد تحويل الخليط إلي عجينة تبدأ مرحلة التشكيل فيأخذ العامل قطعة صغيرة من العجينة بواسطة سيخ من الحديد مفرغ من الداخل لنفخ الهواء فيه وكل ذلك يتم خلال دقيقتين فقط  قبل أن تبرد”.

دعم محدود

بعد تصنيع الزجاج تبدأ مرحلة زخرفته. والزخرفة من الفنون الجميلة التي تمارسها القرية، والتي تبدأ بالرسم على الزجاج بأشكال مختلفة من الرسومات تتماشي مع السوق المحلية، ثم النحت لتفريغ هذه الرسومات بواسطة حجر يعمل بالكهرباء ثم زخرفتها بأشكال مختلفة من ماء الذهب وغيره. وبعدها تدخل الفرن في دراجات حرارة عالية لتثبيت الالوان ثم مرحلة التطقيم والتعبئة في كراتين.

صناعة الزجاج التي ساهمت في خفض معدلات البطالة في القرية والأنحاء المجاورة تتعرض لمصاعب عدة، منها صعوبة الحصول على تمويل من أجل بدء مشاريع جديدة.

السيد حمادة صاحب ورشة زخرفة يروى معاناته في افتتاح ورشة خاصة به قائلا: “عملت نحو 20 عاما في مصنع للزجاج بعدها فكرت في امتلاك ورشة خاصة لنحت وزخرفة الزجاج فكان لابد من توفير مكان وأفران ومعدات ورأس مال وكل ذلك كان صعب جدا. فكرت في الصندوق الاجتماعي للتنمية فطلبوا اشياء كثيرة ووجدتهم في النهاية يقولون “اتصرف مع البنك” فقمت بعمل جمعية مع بعض الأصدقاء في القرية ادخرت فيها فلوسي وعندما قبضت الجمعية بدأت في تجهيز الورشة والتي تحتاج  إلى نحو 20 الف جنية الا أنها توفر أكثر من 15 فرصة عمل وهذه الفرص أنا أوفرها على الدولة والمفروض تساعدنا لا أن تضع العراقيل أمامنا”.

منافسة شرسة

تواجه صناعة الزجاج اليوم منافسة قوية من الزجاج المستورد في ظل ارتفاع أسعار المواد الخام، فيقول السيد “خلال الفترة الأخيرة ارتفعت أسعار المواد الا اننا نقوم بشراء اغلب المواد الخام بالقسط كما نبيع بالقسط الى التجار، كما اننا نعانى من زيادة سعر اسطوانات الغاز فنحتاج يوميا الى اسطوانتين غاز لصهر ماء الذهب فى درجة حرارة تزيد عن 400 مئوية الا ان الاسطوانة سعرها وصل الى 40 جنيها وحينما تأتى الازمة ولا نجد اسطوانات غاز تغلق جميع الورش ويقف حالنا”.

ويواصل السيد “منذ 10 سنوات كانت القرية بها ما يزيد عن 11 مصنع لصناعة الزجاج إلا أن الصناعة أوشكت على الاندثار وما تبقى هو 3 مصانع بسبب اعتماد الورش على البضاعة التركية والصينية والسعودية الأرخص. فتأتى المصنوعات الزجاجية المستوردة وتقوم الورش بزخرفتها والحفر عليه وزخرفة الزجاج”.

وأمام أحد الورش التقى “مراسلون” بمحمود عبد المنعم تاجر أواني زجاجية قال إنه قادم من القاهرة إلى القرية لشراء بضاعة من الزجاج، وأضاف “لا استطيع دفع ثمن البضاعة مقدما أو بشكل كامل، أقوم بدفع جزء من المبلغ والباقي أكمل سداده بعد بيع البضاعة، وده حالي وحال كل التجار الجملة والتجزئة”.

محمود يحذر هو الآخر من إن صناعة الزجاج أصبحت مهددة بالاندثار، ويقول “البضاعة المستوردة تغزو السوق كثيرة وبأسعار أقل فمجال التنافس فى تجارة الزجاج أصبح واسعا ما يهدد الصناعة بالاندثار كما أن اصحاب الورش يعتمدون على البضاعة المستوردة التي يقومون بعد ذلك بزخرفتها وليس كما كان قديما، كانت الورشة تقوم بصناعة الزجاج حتى زخرفته”.

“أحلم بعمل حكومي”

وفى نهاية الوردية فى الثالثة عصرا تنتهي ريهام محمد من عملها فى الكتالة فكما تقول “أعمل لمدة 8 ساعات متواصلة تنتهى مع آذان العصر، أمكث امام السنة اللهب طوال ساعات الوردية مما يعرضني لمخاطر وأمراض، انتهى من عمل حوالى 50 الى 60 قرص بلاستيكى من جوالات القمامة فى مقابل 35 جنيه أدفع منهم 5 جنيهات مواصلات حتى أصل إلى مدينة اجا محل إقامتي، ولدى طفلين اتركهم لوالدتي يوميا”.

وبالنسبة لريهام، فإن العمل في قرية الجراح لا يزال قادر على فتح البيوت، لكن لا أحد يعرف إلى متى، وسط المنافسة الشرسة التي تعانيها الصناعات المحلية.