لكتاب شيرين أبو النجا الأخير «المثقف الانتقالي من الاستبداد إلى التمرد» فضيلتان، الأولى هي ابتعادها عن جلد الذات الذي طالما وصم المكتبة العربية في تناولها لعلاقة المثقف بالسلطة، والثانية هي تحليلها بعمق لذاك الصراع الحاد بين سلطة الأب وسلطة الابن، أو بين نموذج المثقف القديم والمثقف الجديد، في عالم يتشكل ببطء عبر رحلة المثقف الطويلة من الاستبداد إلى التمرد. 

لكتاب شيرين أبو النجا الأخير «المثقف الانتقالي من الاستبداد إلى التمرد» فضيلتان، الأولى هي ابتعادها عن جلد الذات الذي طالما وصم المكتبة العربية في تناولها لعلاقة المثقف بالسلطة، والثانية هي تحليلها بعمق لذاك الصراع الحاد بين سلطة الأب وسلطة الابن، أو بين نموذج المثقف القديم والمثقف الجديد، في عالم يتشكل ببطء عبر رحلة المثقف الطويلة من الاستبداد إلى التمرد. 

فقد اختارت في كتابها فترة زمنية محددة عاشتها وخبرتها عن قرب منذ اندلاع ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 وحتى يونيو(حزيران) 2012 أو تسلم السلطة للاخوان المسلمين، راصدة المحطات المختلفة التي لاحت للجماعة الثقافية لاقتناص فرصة التغيير، وتلك التي وقعت فيها ضحية لحملات اعلامية شعواء، أو تأرجح فيها المثقف ما بين بشائر التغيير والارتماء في حضن الدولة واستقرارها. 

وتبدو أبو النجا قريبة الصلة  بالجيل الثوري الشاب، وهي أستاذة الأدب الانجليزي بجامعة القاهرة، والمتابعة الحثيثة لأعمال الكتاب الشباب بالنقد والتحليل في جريدة الحياة اللندنية، وصدرت لها مؤلفات عديدة منها «نسائي أم نسوي» (2002) و«مفهوم الوطن في فكر الكاتبة العربية»(2003)، ورواية «خيانة القاهرة» (2009).  كما حصلت على جائزة مؤسسة انترناشيونال بابو جرافيكال سنتر في كمبردج بانجلترا.

وسط العديد من المؤلفات التي صدرت حول المثقف وعلاقاته المشتبكة بالسلطة، ما الذي دفعك للتفكير في الكتابة حول “المثقف الانتقالي”؟ 

كانت هناك دائما مشكلة في تعريف المثقف أو دوره وعلاقته بالسلطة أو الدور المأمول منه، أوالدور الذي ينبغي أن يقوم به، وكان هذا الخطاب مغلف دائما باللوم وبجلد الذات، وصولا إلى فكرة تدجين المثقف، أو كما وصفها فاروق حسني -وزير ثقافة عهد مبارك- بدخول المثقف الحظيرة. ومع اندلاع الثورة في 2011 وقبلها، وهي النقطة التي بدأت منها الكتاب منذ أغسطس (آب) 2010 كان تململ المثقفين وغضبهم قد وصل إلى الذروة، عندما أصدروا بيانا احتجاجيا بعد حادث السرقة الشهير للوحة زهرة الخشخاش بعد محاولات عديدة سابقة بتحقيق حلم الكيان المستقل الذي يضم المثقفين في مواجهة المؤسسة، وانتهاء بحادث كنيسة القديسين في الاسكندرية، وكان الحراك بدأ في تونس وانفجر في مصر. 
جاءت اللحظة الثورية لتسمح لكل التيارات، السياسية والفكرية والدينية التي مرت علينا أن تظهر وترسخ مواقعها. كانت الفرصة الحقيقية التي سنحت للمثقف حتى يحتل موقعه المنشود بعد طول شكواه من عدم القدرة على الوصول والتواصل مع الجماهير والإلقاء باللوم على السلطة. 
حاولت إذن في هذا الكتاب أن أرصد ما حدث في الفترة الانتقالية، وهي رسميا على الورق منذ اندلاع الثورة حتى تسليم السلطة لمحمد مرسي في 30 يونيو (حزيران) 2012، حيث اكتشفت أن شيئاً لم يتغير، منذ نشوء المثقف الانتقالي وحتى يونيو (حزيران) 2013.

هل استطاع المثقف أن يقتنص فرصة التغيير، بعد عقود التهميش الطويلة التي عانى منها؟  
حين تتبعت المسار من أغسطس (آب) 2010 وحتى يوليو (تموز) 2012 لأفهم ما حدث وجدت أن المثقف وقع في نفس الفخ الذي وقعت فيه تيارات عديدة؛ لم يكن هناك من يطالب بهدم نظام أو منظومة، فكان المثقف مثله مثل غيره يطالب بالاحلال والتبديل، الكل يراهن على الاستقرار، فيما عدا مجموعة صغيرة مؤمنة بضرورة هدم القديم وبناء شيء جديد. فلم يكن الأمر يعني إرساء أي فكر جديد. صار لدينا خطاب أجوف. تم استلاب الخطاب بحيث يتحدث الجميع عن شباب الثورة ولكنها صارت تعبيرا مفرغا من مضمونه، بحيث تستبدل كلمة “القديم” بالشباب، وبدلا من الحزب الوطني يستعاض عنها بتعبير “الفكر الجديد” وهكذا.

هل هناك مظاهر لبزوغ فكر جديد يتماشى مع روح التغيير، أم أن الساحة تركت خاوية لتغليب هذا الخطاب الأجوف الذي تشيرين إليه؟ 

عندما رصدت الوضع الانتقالي وجدت صراعا بين رؤية قديمة تقليدية أبوية ورؤية جديدة تماما، بدليل استخدامها لأساليب أدوات تعبير جديدة، مثل فنون الشارع: الجرافيتي والراب، واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي التي صارت فضاء للاحتجاج وساحة للتعبير السياسي. وهي كلها أدوات جديدة تحمل رؤى جديدة لا يراد الاعتراف بها، ويتم محاربتها بعنف تحت دعوى تهور الشباب واندفاعه، في ظل هيمنة مجتمع بورجوازي يبحث عن الأخلاق بصورة شكلية. فالمسألة ليست عودة للنظام القديم، لكن هناك ثمة صراع مكتوم بين رؤيتين، رؤية تقليدية أبوية هي المسيطرة على مفاصل الدولة، ورؤية جديدة ينقصها بعض التنظيم وإن كان سحرها يكمن أيضا في عدم تنظيمها. ولا مجال مطروح للتفاوض.

ولكن ما تعتبرينه سحرا يعتبره آخرون غيابا للبوصلة، إذ يرى الكثيرون أن غياب القيادة كان أحد أسباب الاخفاق. فما رأيك؟
نحن نعيش في القرن الواحد والعشرين لحظة التنوع بامتياز، فقد كشفت ثورة 25 يناير عن التنوع والتعددية. حيث لا تزال هناك فكرة مسيطرة في العالم الثالث أن التنظيم ما هو إلا مرادف للرئيس، فالكتلة الجديدة التي ظهرت في الثورة تجهل أشكال القيادة المختلفة التي قد تكون مجرد تنظيم لوجستي (مثل جماعة الألتراس) يعبر عن احتجاجه على الانتهاكات التي تحدث لأفراده، معتقلين أو شهداء أو مجزرة بور سعيد. فهو تنظيم يتفق على الهدف. كان على المثقفين أن يدخلوا في تنظيم لوجستي، وهذا لا يعني أن يصطفوا جميعا تحت نفس التيار الفكري لكنه تحالف حول أهداف محددة، وهو أقرب ما يناسب المثقفين الذين لا يمكن أن يصيروا متطابقين لكن متحالفين. صحيح أنهم أصدروا بيانات عديدة لكنها تظل جماعات متشرذمة وصراعات سياسية تاريخية. 
أما الجيل الجديد الذي تشكل وعيه في الشارع فخطابه السياسي ليس ثوريا بعد، بل تغلب عليه الشعارات العاطفية والسباب أحيانا لكنها لا تحمل رؤية سياسية. فقد ظهر جيل جديد يواجه الأسلحة والخرطوش بلا خوف لكن خطابه السياسي لا يزال في طور التشكل، وهنا المأزق. إنه جيل جديد ليس لديه أدوات للتعبير السياسي أو للتفاوض، وهنا مشكلة التنظيمات السياسية التي لم تستطع أن تفرز كوادر جديدة. 
تلك أسئلة لا تزال مفتوحة، هل كان حتميا وجود قيادة؟ لا أدري، بل أنه كان هناك قيادات سياسية وأحزاب فشلت في استيعاب أوالتواصل مع الجيل الجديد. ومن كانوا يطرحون أنفسهم كقيادات كانوا ينظرون إلى الجيل الجديد باعتباره مجرد تابع وأداة تنفيذية لرؤاهم، وتلك كانت إحدى مشكلات حركة “كفاية” وهو ما جعل الشباب يخرج على سطوة الجيل القديم  ويكون شباب من أجل التغيير.

يبدو عنوان الكتاب “المثقف الانتقالي من الاستبداد إلى التمرد” ملتبسا فهو يتضمن مسيرة المثقف نفسه من وقوعه تحت الاستبداد حتى تمرده، لكنه قد يحمل أيضا معنى استبداد المثقف نفسه من حيث مسؤوليته عن وعي الجماهير، كيف تفكين هذا اللبس؟

العنوان حمال أوجه لأن المثقف انتقل ظاهريا فقط وبشكل سطحي من استبداد النظام القديم حتى وصل إلى نقطة التمرد (بالإشارة إلى حركة تمرد وأول اعتصام للمثقفين في وزارة الثقافة والذي صمد حتى اسقاط مرسي) فالسؤال هل أتى التمرد بثماره أم أنه مثله مثل أشياء كثيرة أخرى كان شكليا فقط؟ وهناك معنى آخر يتمحور حول استبداد المثقف نفسه وعليه أيضا، وتم التمرد على كل ذلك على أيدي جيل جديد تماما كما ذكرت لك. فقد قالها ميشيل فوكو من قبل “إن المثقف لا يمكن أن يقود الجماهير لأن الجماهير دائما تسبقه بخطوة”.

كيف ترين التحولات الحالية التي تعصف بالمثقف القديم وتجعله يرضى اليوم بما تمرد عليه بالأمس، كيف ترين دخول قامات كبرى من المثقفين في ال”حظيرة” من جديد؟

لا شك أن المثقف القديم يعتبر في حد ذاته خبرة، لديه خبرة حياتية وانسانية في فهم الأنظمة وفي فهم حركة التاريخ، فهناك خسارة لأن الجيل الجديد كان من الممكن أن يستفيد من هذا الميراث. أما التحولات الشديدة في المواقف والقناعات، فلا ينبغي تجاهل عامل مهم هو الشيخوخة وما يصحبها من خوف وتشبث بالاستقرار، فهم لديهم حتما خوف من المجهول يقضي على أي مغامرة أو فكرة تغيير، كل هذا يجعلهم يعبرون عن مواقفهم السياسية بشكل يحدث قطيعة مع الجيل الجديد ولا يكون هناك أي فرصة للاستفادة من خبراتهم لأنهم تربوا في كنف الدولة، فنموذج المثقف القديم هو جزء من النظام، يعرف كيف تدار ويعلم تماما كيف يوظف جهوده لصالح أي جهة. 

ألا يبدو اذن أن المثقف كان ضحية على طول الخط مما جعله اليوم يقبل بأخف الضررين ما بين نار العسكر وجحيم الاخوان؟

القضية أن هذا المثقف لا يرى –بحساب النظريات- انه أمام حكم عسكري، إذ تسيطر اليوم على المشهد رواية البرجوازية التافهة، وهذا يتكرر في العديد من ردود الأفعال مثل استقبال حادث “ست البنات” (السيدة التي تم سحلها على يد قوات الأمن في 18 يناير (كانون الثاني) 2011) والتعليق بنفس المقولة الثابتة على أي عمل احتجاجي “دول مش شباب 25 يناير”، أو التقييم الظاهري لاعتبار أي متمرد رث الثياب مجرد “بلطجي”، أما الخطاب الاعلامي فيبدو أكثر ذكاء من ذلك، فإذا كانت الصفوة تعي خطابه فإن الجماهير تعتبره مصدر لتشكيل وعيه. فاليوم صار الجميع فجأة يهتم بآداب البروتوكول الرئاسي ومقارنته بسابقيه، الاهتمامات أصبحت شكلية جدا، بينما في حقيقة الأمر مربط الفرس لو لم تتحقق اصلاحات اقتصادية فلا مخرج مما نحن فيه، أما الناس ففي سبيل الحصول على الاستقرار الاقتصادي فلا مانع لديها من غض البصر عن وضع الآلاف في السجون.