الخبر سرى كسريان النار في الهشيم. المنصوري مات. قلة قليلة كانت تعرف المنصوري قبل ذلك، فلا عائلة ولا أقارب ولا حتى أصدقاء له. لكن رواد مترو العاصمة باتجاه ضواحي الشمال، ومصلّي جامع الفتح بشارع الحرية بالعاصمة، ومراهقي ومراهقات حديقة الباساج مساء السبت خاصة، يعرفون جيدا الرجل “صديق الحمام”.

منظر الحمام يلتف كسرب نحل حول الرجل وهو قادم من بعيد يثير الدهشة. ولقب الرجل المقعد على كرسي متحرك برجل الحمام.

الخبر سرى كسريان النار في الهشيم. المنصوري مات. قلة قليلة كانت تعرف المنصوري قبل ذلك، فلا عائلة ولا أقارب ولا حتى أصدقاء له. لكن رواد مترو العاصمة باتجاه ضواحي الشمال، ومصلّي جامع الفتح بشارع الحرية بالعاصمة، ومراهقي ومراهقات حديقة الباساج مساء السبت خاصة، يعرفون جيدا الرجل “صديق الحمام”.

منظر الحمام يلتف كسرب نحل حول الرجل وهو قادم من بعيد يثير الدهشة. ولقب الرجل المقعد على كرسي متحرك برجل الحمام.

بعد العاصفة الثلجية التي اجتاحت العاصمة تونس مع منتصف شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، افتقد المراهقون والمؤمنون والمسافرون رجل الحمام. بدأ الخبر على مواقع التواصل الاجتماعي عن المتشرد المقعد الذي مات في العاصفة الثلجية، واكتشف الجميع أن اسمه محمد المنصوري. وسرى الخبر إلى وسائل إعلام كبرى تحدثت عن بطل واجه نظام بن علي ودفع الثمن قطع رجليه. وعلق البعض عن موته بنهاية رجل شجاع.

لكن كل هذه الأخبار التي تداولها الجميع بمن في ذلك بعض وسائل الإعلام المحلية، كانت مجرد شائعات لا أساس لها الصحة، فصديق الحمام حي يرزق ولم يطق أن يترك الحمام وحيدا.

بل إنه لم يول هذه الإشاعات أي اهتمام، قائلا: “لا يهم ما يقال عني ولا أعلم من أطلق هذه الإشاعة”.

قبل فترة وجيزة من الزمن، التقيت بهذا الرجل صاحب اللحية الكثة الموشحة بالبياض والمعتمر بوشاح أبيض. حاولت التقرب منه لمعرفة تفاصيل عن حياته وسر علاقته الوطيدة بالحمام الذي بات يعمّر هذه الساحة ويسكن قباب جامع “الفتح الشهير” الموجود في قلب ساحة “الباساج”.

عرفته منذ سنوات طويلة ولم أتجرأ يوما أن أستفزه بأسئلة قد تبدو فضولية وتزيد من أوجاع رجل يجمع بين المتناقضات، فهو يحترف التسول دون أن يمد يديه علانية ويهتم بتربية الحمام وإطعامه دون أن يهتم بنفسه أو بمأكله وشربه.

ذات يوم مررت حذو هذا الرجل الفريد والعجيب، استفزني كثيرا حاله فكل قسماته وتصرفاته وكبريائه الذي يبلغ مدى غير معلوم من عزة النفس لا يعكس بالمرة حاله المتردي ووضعيته البائسة، إذ هو مجرد جسد رجل بلغ من العمر عتيا، مقصوص القدمين (أو الجناح)، يتنقل من مكان إلى آخر على كرسي متحرك يتابع حركات سرب من الحمام ويطعم سربا آخر، يتحدث بلغة غريبة غربية لا يفهمها سوى هذه الطيور التي تمتثل لكل كلمة منه، لا يلتفت لكل المارين، همه الوحيد تنظيف المكان وإطعام الحمام.

دنوت منه، مثل كل الذين يعطفون عليه، وهممت بمد ما تسير، بيد أن الرجل لم يلتفت لي بالمرة مواصلا تخاطبه مع سرب صغير من الحمام الذي سرعان ما طار من الجهة المحاذية وحط في حجر محمد علي المنصوري الذي استفزني من جديد بهذا التجاهل والصمت المريب، إذ كيف لرجل يقتات هو وحمامه مما تجود به جيوب المارة أن يستغني عن مساعدة حينية؟

واصلت التقرب منه وملاحظة هذه العلاقة الحميمة التي تربطه بالحمام، وهنا سألته: ألهذه الدرجة يشغلك الحمام عن التواصل مع من يريد مساعدتك؟ رمقني الرجل بنظرة حادة سرعان ما تحولت إلى نظرة مستكينة مكسورة زادتها التجاعيد المحيطة بالعين هالة من الحزن.

انتفض المنصوري قليلا لكنه لم يتحرك من مكانه قيد أنملة بل زاد شغفه بإطعام تلك الحمائم المزينة بخيوط زاهية وملونة على أجنحتها، ومن يكن غير هذا الرجل المفرط في الجمع بين المتناقضات من فعل هذا.

ازداد إلحاحي في الحديث إلى صاحب الحمام وبعد برهة من الزمن، انطلق في الحديث بلغة فرنسية ممزوجة بكلمات إنجليزية، تصاحبها بعض العبارات غير المفهومة، قبل أن يعود إلى التكلم بلهجته التونسية المفعمة بروح البداوة، قال المنصوري: “هي حمائمي ولا أحد غيري يرعاها، هؤلاء هم قومي وخلاّني، كل من يعطف علي سيذهب في حال سبيله، أما هذا الحمام فإنه سيلازمني كظلي”.

انطلق الحديث، وسؤال يجر سؤالا، وعم المنصوري يسهب في الغوص أبعد ما يمكن في تفاصيل حياته الموغلة في الغرابة والتناقض.

في شبابه نشبت بين المنصوري وأحد الشباب خصومة غيرت مسار حياته، إذ تشابك مع هذا الشباب الذي كان يمارس رياضة الملاكمة فأبى إلا أن يسير على منواله، ليلتحق بأحد النوادي المختصة، وهنا اكشفه زائر أجنبي فساعده على السفر إلى بلد جديدة قريبة من استراليا كي يمارس ويحترف الملاكمة ويبرع فيها.

انتقل المنصوري حسب روايته إلى العالم الجديد، وسرعان ما فتحت أمامه أبواب العز والجاه والشهرة، فجمع قدرا كبيرا من المال بفضل مشروع مربح يتمثل في مطعم يقدم للزبائن الأكلات التونسية، ومارس أيضا رياضة الملاكمة التي تمكن بفضلها من الظفر بعدة ميداليات قبل أن يتزوج بأسترالية أنجب منها طفلة تعوضه عن الحرمان في بلد الغربة.

آثر بعد سنوات طويلة من الغربة العودة إلى أرض الوطن ليؤسس واقعا جديدا استثمر خلاله الأموال التي جمعها في أحلى سنوات العمر.

في سنة 2000، زمن حكم بن علي نشب خلاف بينه وبين أشخاص قال أنهم يتاجرون في الممنوعات، وسرعان ما أخذ هذا الخلاف بعدا سياسيا، كما قال، فأرسل إلى غياهب السجون بقرار سياسي لا يعلم إلى اليوم مصدره. ومن هنا بدأت رحلة العذاب، فصودرت أمواله وتم التنكيل به في السجن وتعرض إلى شتى أنواع التعذيب، وهو ما أفقده في نهاية المطاف ساقيه بسبب التلف الذي أصابهما جراء الضرب، ليقرر الأطباء قطعهما من أعلى الركبة كي لا تتعكر حالته أكثر.

غادر المنصوري بعد سنوات السجن، غادره وهو مقعد لا يقو على الحراك إلا عبر كرسي متحرك، وعبثا حاول استرداد كبريائه المسلوب وأمواله المصادرة ورفع أمره حسب كلامه إلى المحاكم.

لكنه وجد نفسه في نهاية المطاف وحيدا دون مال أو مأوى، فاتخذ التسول مهنة والحمام أنيسا، ختم محدثنا كلامه، ولم ينتظر أي رد، بل انطلق بعيدا باحثا عن بعض الماء ليروي به عطش هذا الحمام.

المنصوري لم يمت إذن، والحمام ما زال يطير حوله. رغم ذلك هناك رائحة موت في المكان.

.