يقول جوزيف بوليتزر إن “الإعلام دون مُثل أخلاقية عليا لايتجرد فقط من إمكاناته الرائعة للخدمة العامة، ولكنه يصبح خطراً فعلياً على المجتمع”، وخير شاهد حي على هذه المقولة هو وضع الإعلام المنقسم في ليبيا، والذي تصطف وسائله بكل إمكاناتها في صفين متقابلين مع طرفي الصراع في الحرب الأهلية التي تشهدها البلاد.
فالمتابع للإعلام الليبي في الفترة الراهنة، يلاحظ مدي القصور والتخبط الذى يعانيه بكل وسائله، خاصة المرئي والمسموع – المطبوع متوقف منذ فترة، نظراً لدوره السلبي في تأجيج الصراع والحرب الأهلية التي لا تزال تفتك يومياً بالشباب في مختلف المدن الليبية.
متابعة عالية
بعد سقوط نظام القذافي كان هناك ازدهار في وسائل الإعلام التقليدية المستقلة (تلفزيونات وإذاعات مسموعة وصحف) ما اعتُبر مؤشراً على رغبة الليبين في الحصول على معلومات من مصادر مستقلة عن الحكومة.
حتى أن تقريراً أجرته منطمة ألتاي (فبراير/أبريل 2013) بينّ أن (99٪) من الليبين يشاهدون القنوات الفضائية، (58٪) يستمعون إلى الراديو، ويأتي في المرتبة الثالثة الإنترنت بنسبة (40٪)، أما قراءة الصحف فلا تتعدى النسبة 11% مما يدل على أن الإعلام المرئي هو المؤثر الأول في صنع القرار والتأثير على الرأي العام، تأتي بعده الراديوات المحلية.
كما بين التقرير أنه بعد سنتين من الثورة زادت نسبة مشاهدة الليبين للقنوات الفضائية الليبية، وأصبحوا يعتمدون عليها لاستقاء الأخبار والشؤون الوطنية والمحلية، “38٪ يعتبرون القنوات الفضائية الليبية كمصدر رئيسي للمعلومات و 35٪ يشاهدون القنوات الليبية بشكل رئيسي، مقابل 19٪ للقنوات العالمية” بحسب التقرير.
لكن المشهد استمر في حالة النمو والتطور والتخبط؛ تغييرات متكررة لمدراء وسائل الإعلام والإعلاميين أنفسهم، وانتقالهم من مؤسسة لأخرى أو تركهم للعمل الإعلامي نتيجة للتهديدات، وافتقار إلى الكفاءة المهنية، وإفقال بعض المؤسسات وظهور أخرى جديدة بين الحين والآخر.
كل ذلك بحسب مراقبين جعل جزءاً من الليبين يفقد الثقة في وسائل الإعلام التقليدية – التلفزيون والراديو والصحف المطبوعة– ويتجه بعضه إلى مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك والتويتر واليوتيوب والمدونات كوسيلة بديلة لتلقي الأخبار.
مدونة سلوك
الأخطاء المهنية التي أصبحت ترتكبها بشكل متزايد القنوات الفضائية الليبية، والتي تؤثر بشكل مباشر على الأحداث الدامية على الأرض، كانت دافعاً لعدد كبير من العاملين في المجال الإعلامي بليبيا للمناداة بوضع مدونة قواعد السلوك الصحفية.
هؤلاء يرون أنها الأداة الأساسية لتنظيم الإعلام، وهي المرجع الأساسي الذي يقوم بتوجيه الصحفيين وإرشادهم إلى دورهم وحقوقهم وواجباتهم وكيفية أداء وظائفهم بشكل أفضل، وهي تمثل المعيار الذي يمكن به تقييم عملهم، كما أنها لا تخدم الصحفيين فقط بل هي مفيدة للناشرين وأصحاب وسائل الإعلام، لحمايتهم من المطالبات القانونية والنقد، وهي تساهم في زيادة مهنية الصحفيين، وبذلك يستفيد منها الجمهور بشكل عام.
لكن المشكلة الأساسية تكمن في مدى التزام وسائل الإعلام الليبية بأخلاق هذه المهنة، حيث لا توجد في معظم هذه الوسائل أية مدونات للسلوك المهنى الإعلامي، والتى يجب أن يلتزم بها الإعلامي خلال أدائه لمهنته السامية، أضف إلى ذلك عدم دراية ووعي الكثير من الإعلاميين لأخلاقيات مهنتهم أو حتى للجرائم التي ترتكب عبر وسائل الإعلام.
دخول الهواة
ويرى الإعلامي مازن دريبيكة أن تخبط الاعلام الليبي في هذه المرحلة هو “بسبب دخول الهواة للعمل في هذا المجال كتجربة لا يخسرون شيئا إن فقدو فرصتهم فيها”، ويضيف ” الإعلامي المهني يعلم أن ليس عليه أن يكون مناضلاً سياسياً وأن يعلم أن أهم اهدف الإعلام هو النقل الدقيق، والكشف العميق، والوقوف على مسافة واحدة من الجميع”.
وبالرغم من الاجتماعات التي عقدها الإعلاميون الليبيون أكثر من ثلاث مرات في طرابلس وبنغازي وجادو لغرض اعتماد ميثاق شرف مهني، لم يكتب لتلك الاجتماعات أن تنتج ميثاقاً يتفق عليه الإعلاميون جميعاً، وهم الذين وضعت السلطات الليبية الكرة في ملعبهم لتأسيس واعتماد ذلك الميثاق.
يقول القانوني السيد محمد لاغا عضو الهيئة التأسيسة لصياغة الدستور إن عوامل كثيرة جعلت الإعلام الليبي يؤدي وظيفة سلبية في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها بلدنا، منها “عدم الاستقلالية والاصطفاف السياسي، وبناء على ذلك يصبح الإعلامي ضحية بسبب رعونة بعض من يصطف وراءهم، ويفقد مصداقيتة حتى عند مقربيه أو زملائه، فما بالك إذا وصل الحال إلى الاصطفاف العسكري”.
محاولات فاشلة
المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته أعلن حين استلم السلطة في 2012 أن إصلاح قطاع الإعلام كان واحداً من أولويات الحكومة لعام 2013، لكنه اعترف علناً أيضاً أن الارتباك والتخبط في الخطاب الإعلامي، وعدم وجود تواصل بين المواطنين وحكومتهم وممثليهم في المؤتمر، كان بسبب غياب السلطات المختصة المشرفة على وسائل الإعلام، وعدم وجود لوائح لتنظيم الإعلام، وعدم وجود كفاءة ومهنية في مكاتب الإعلام في الوزارات.
وبالرغم من اجتماع لجنة الإعلام بالمؤتمر الوطني العام مع منظمات إعلامية عالمية لمساعدتها في إصدار قوانين لتنظيم الإعلام الليبي، إلا أن تلك اللجنة فشلت حتى في الحصول على النصاب الذي يمكنها من عرض قانون الإعلام للمناقشة والتصويت أمام أعضاء المؤتمر.
وبذلك ظل قانون الإعلام شيئاً ثانوياً، بل قام بعض أعضاء المؤتمر من التيار الإسلامي بحثه على إقفال قنوات فضائية خاصة وسحب تراخيصها بوصفها قنوات تحث على الفتنة وتحرض على المؤتمر، ولما لم تنجح المحاولة قام المؤتمر في آخر أيامه بإصدار القانون رقم 5 لسنة 2014، والذي ينص على معاقبة كل من “يمس” الثورة أو إحدى السلطات القائمة في البلاد أو يتعرض لها بالنقد أو الإهانة، والذي اعتبر تكراراً لقانون القذافي الذي سَجن به أغلب معارضيه السياسين.
ويقول السيد لاغا: “في بداية المؤتمر وددت لو أنه أصدر قانوناً استثنائياً للإعلاميين والأطباء لتأهيلهم في الخارج على دفعات وحصانات قضائية، لأن ليبيا بعد الثورة كانت في أمس الحاجة لهاتين المهنتين، لو حصل ذلك لكان وضعنا أفضل ولو نسبيا. وعلى كل حال يجب الانتباه جيداً للجنة الإعلام في الدستور، ويجب على الإعلاميين القيام بدورهم في التواصل مع الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور”.
الإعلام وتأجيج الحرب
تأسست محكمة الجنايات الدولية كأول محكمة قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الحرب، جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية.
ومع اندلاع الحرب الأهلية في رواندا عام 1994 والتي راح ضحيتها ما يقارب من 800 ألف مواطن، لم تجد المحكمة الدولية بعد انتهاء الحرب صعوبة في إدانة بعض إعلاميي وموظفي مؤسسات إعلامية محلية ساهمت في تأجيج الحرب والتحريض على جرائم الإبادة الجماعية، وكانت بذلك المرة الأولى التي يقاد فيها إعلاميون إلى المحكمة الدولية، لتحكم في العام 2003 على اثنين من الإعلاميين الروانديين – مؤسس راديو ومالك ومحرر صحيفة – بالسجن المؤبد، وعلى ثالث – مؤسس راديو – بالسجن 35 عاماً.
يقول السيد طارق الهوني المدير التنفيذي لقناة ليبيا الوطنية “يمكننا أن نرى في المستقبل إعلاميين ليبين أو مالكي مؤسسات إعلامية ليبية يقادون إلى محكمة الجنايات الدولية بسهولة لو توفرت شروط المثول أمام المحكمة الدولية، من خلال طلب عبر الأمم المتحدة ومنظوماتها، من دولة عضو بالمحكمة، أو من مجموعة أو فئة أو شخص متضرر مباشرة من تلك الجرائم”.
ويؤكد ذلك السيد لاغا “وفق المساهمة الجنائية في تقديري إذا ثبت أن جريمة منصوص عليها في نظام روما وقعت بسبب تحريض من إعلامي، فيمكن استدعاء المسؤول عن تلك الجريمة”.
بينما يقول السيد الهادي القرقوطي رئيس تحرير صحيفة “البلاد الآن” إنه لا يعتقد بأننا سنرى في المستقبل صحفيين ليبين يمتثلون لمحكمة دولية “لأن القانون الآن غائب ومعظم الذين يعملون بالإعلام ليسوا إعلاميين بل هم منفدون لأجندات خاصة”.
في ليبيا الآن لا توجد أية هيئات ولا تشريعات منظمة للإعلام، بل يوجد قانون للعقوبات مليء بالمواد التي تجرم أشكالاً عديدة من التعبير عن الرأي، منها الإهانة و التشهير والقذف والافتراء والتحريض وإثارة الحرب الأهلية في البلاد، أو تفتيت الوحدة الوطنية أو السعي للفرقة بين مواطني البلد، وهي جرائم تُرتكب عبر أي وسيلة من وسائل الإعلام حالياً تقليدية كانت أم إلكترونية.
لكن الواقع العملي يبين أنه توجد نيابة الصحافة والتي تستقبل الشكاوى ضد وسائل الإعلام، إلا أنها نادراً ما تستقبل شكاوى حسب ما أفاد به رئيسها السيد عبد اللطيف قدور، والذي قال لـ”مراسلون” بأن العدد الكلي للقضايا التي فتحتها نيابة الصحافة لم يتجاوز العشرة في عام 2013.