طيلة عقدين لم تكن مبروكة عويني  تحمل من اسمها ولو القليل من الحظ السعيد، فلا ظروف عيش أسرتها جلبت لها الخير ولا عيشها في منطقة ريفيّة نائية أسعدها.

مبروكة تسكن بمنطقة جبل السرج من معتمديّة الوسلاتيّة بمحافظة القيروان (200 كلم وسط تونس) وهي منطقة تفتقد الى مدرسة قريبة والى المرافق الأساسيّة والبنية التّحتيّة. وعلى ما يبدو فإن هذا الحال مستعصٍ على التغير، فهو مستمر من قبل أن تولد مبروكة إلى اليوم، وقد أدركت عامها الـ 21.  

طيلة عقدين لم تكن مبروكة عويني  تحمل من اسمها ولو القليل من الحظ السعيد، فلا ظروف عيش أسرتها جلبت لها الخير ولا عيشها في منطقة ريفيّة نائية أسعدها.

مبروكة تسكن بمنطقة جبل السرج من معتمديّة الوسلاتيّة بمحافظة القيروان (200 كلم وسط تونس) وهي منطقة تفتقد الى مدرسة قريبة والى المرافق الأساسيّة والبنية التّحتيّة. وعلى ما يبدو فإن هذا الحال مستعصٍ على التغير، فهو مستمر من قبل أن تولد مبروكة إلى اليوم، وقد أدركت عامها الـ 21.  

حرمان من التعلم

لم تختر مبروكة بإرادتها عدم دخول المدرسة، ولم تكن ترغب في أن تكون أمّية الى حد الجهل قراءة وكتابة مثل الكثير من أترابها في الريف الأقل حظاً.

فمبروكة غير مسجلة بدفاتر الحالة المدنيّة. هكذا شاء والداها وهي لا تعلم إن كان ذلك عن وعي منهما أم عن جهل. فمنذ ولدت لم يقم أحد بتسجيلها بدفتر الحالة المدنيّة وفق ما يفرضه قانون الحالة المدنيّة الذي يمهل الأسرة أجلا أقصاه 10 أيّام لتسجيل المولود.

ورغم أن القانون التونسي يقرّ إجباريّة التعليم ومجّانيته حتى سن الـ 16، ويعاقب الأب الذي يمتنع عن ترسيم أبنائه فإن هذا القانون لم يطبّق على والدي مبروكة عندما حرماها من المدرسة بمختلف مراحلها، بغض النظر طبعاً عن مرحلة الروضة إذ لا توجد رياض أطفال بهذه المنطقة الريفيّة النائية.

وكنتيجة طبيعيّة فهي لم تستخرج بطاقة التّعريف الوطنيّة التي يتسنّى لكل مواطن لأبوين تونسيين استخراجها عند بلوغ سن الـ18، وبالتالي فهي لم تمارس حقها وواجبها الانتخابي مثل ملايين المواطنين. بل إنها لا تمتلك أيّة وثيقة مدون عليها اسمها.

اليوم كبرت مبروكة وبلغت سن الرشد والزواج، لكنها إلى الآن لم تحقق مواطنتها بسبب تعقيدات إداريّة لا تزال متواصلة إلى حين كتابة المقال. وستتعقد حياتها أكثر إذا ما رغبت في الزواج، إلا إذا قررت الزواج بطريقة تقليديّة على منوال بعض الأزواج بمنطقتها الّذين تزوّجوا دون عقود رسميّة. بل إن وفاة مبروكة على هذه الحالة، وهي غير مسجّلة سوف لن يكون أقل تعقيدا من حياتها.

بحسب مسؤول محلي في الوسلانيّة فإن “سعادة” مبروكة ستتحقق قريبا وستحمل بطاقة رسمية تحمل اسمها ورقم قيدها المدني، وهو خبر سمعت به مبروكة بعد أيام قليلة من موت والدها في منتصف جانفي/يناير 2015.

جمعيّات خيريّة تكتشف

كانت مصادفة عندما اكتشفت جمعيّات خيريّة أمر قبيلة “عويني” بمنطقة جبل السّرج بالوسلاتية بولاية القيروان أثناء توزيع مساعدات غذائيّة في 2011 أن بعض افراد هذه القبيلة ومنهم مبروكة غير مسجلين بدفاتر الحالة المدنيّة. والأطفال هناك لا يذهبون إلى المدرسة. والشبّان يتزوّجون دون عقد رسمي سواء على يد “شيخ” أو “عدل إشهاد”.

قد تبدو المسألة متّصلة بالفقر وبعد المدينة وصعوبة التنقل وغياب الوسائل والإمكانيات، ولكن تبيّن أن الأسباب عديدة وغريبة لأنّ عددا كبيرا من أصحاب تلك الحالات لم يستجب لطلب أعضاء الجمعيّات الخيريّة بالتسجيل نظرا لأن الأمر سيمرّ عبر القضاء، وانتابهم الخوف رغم أنّه اجراء إداري روتيني وليس عدلي وليس فيه عقوبة.

منية الساكت رئيسة جمعيّة التكافل للإغاثة والتّنمية، كانت ضمن فريق الجمعيات الخيريّة وأفادت أنه أثناء عودتهم لتقديم مساعدات لأهالي المنطقة التي زاروها سنة 2011، اكتشفوا أنه لا شيء تغيّر خصوصا وضعيّة مبروكة عويني. فعاودوا التدخل بالتوعية والتحسيس وتوضيح طرق تدارك هذا الخلل القانوني. كما نسقت الجمعيّة مع والي القيروان من أجل ايجاد حلول قانونيّة للمسألة.

استجابت بعض الأسر لمقترح تسجيل الأبناء على غرار عائلة حببيب العويني، وهو عمّ مبروكة، الذي شرع في اتمام اجراءات تسجيل أبنائه واستفاد من التدخل المدني والقضائي في التسجيل الاستثنائي الذي يفترض حسب مسؤول بوحدة النهوض الاجتماعي بالوسلاتية (نبيل الفرجاوي) توفر مضامين ولادة الوالدين وشاهدين ويتم تسجيل كل متخلف بقرار من المحكمة الابتدائيّة بالقيروان.

الموت…المنعرج

سبب عدم تسجيل مبروكة هو أن والدها (السبوعي العويني) كان في حالة فرار من العدالة بسبب أحكام قضائيّة ناتجة عن استغلاله للغابة في الاحتطاب وصناعة الفحم بشكل يعتبر مخالفا لقانون الغابات وصدرت في شأنه أحكام غيابية بقيت تطارده في الجبل وجعلته يتخفى عن الأنظار ولا ينزل المدينة خصوص لقضاء شأن اداري.

ورغم تدخل الجمعيّات واقتراحهم على والد مبروكة في سنة 2011 تسجيلها لكنه تراخى خشية ايقافه خاصة وأن عليه المرور عبر المحكمة. ووال تراخيه سنوات بعد زيارة قافلة للجمعيات مطلع العام الجاري، وواصل تردده لكنه توفي بعد نحو أسبوع من زيارة القافلة.

فاجعة وفاة والد مبروكة، كان منعرجا لانفراج وضعها القانوني. حيث تكثفت التحركات الرسميّة من أجل تسوية الوضع القانون “للمواطنة” مبروكة. وأصبح من الممكن تسجيلها بالاعتماد على مضمون ولادة والدتها (منجية عويني) ومضمون وفاة والدها مع شهادة شاهدين لدى المحكمة. ووفق النظام العائلي في المناطق الريّفيّة، الذي يفترض انتقال كفالة الأطفال بعد وفاة والدهم إلى عمّهم، فقد تكفلّ عم مبروكة (الحبيب عويني)، الذي سبق الحديث عنه بأنه قام بتسوية وضع أبنائه غير المسجلين، بمتابعة اجراءات تسوية الوضع لقانوني لحياة مبروكة.

صدمة وخشية

حالة مبروكة مثلت صدمة للمسؤولين الجهويين بالقيروان، ومنهم والي القيروان الذي زار العائلة والمنطقة. كما تحركت إدارة الشؤون الاجتماعية لتقديم مساعدة  لمبروكة التي أصبحت يتيمة الأب بلا معيل، وتتمثل المساعدة في “منحة اجتماعيّة” تقدمها الدولة لفائدة العائلات الفقيرة وقيمتها 70 دولار شهريا. وهي قيمة ضعيفة لكن من شأنها سداد بعض النفقات.

لكن مهما كانت قيمة المنحة فلن تعيد لمبروكة حقوقها في الدراسة ولا حقوقها المدنيّة الأخرى التي حرمت منها.

الأولى في الاحتجاج والانتحار

تلخص حياة مبروكة قصص حياة نسبة كبيرة من الشباب والأطفال بولاية القيروان ذات الـ 600 ألف ساكن. وهي محافظة في قلب الخارطة التّونسية، توصف بكونها منطقة عبور وضمن موقع استراتيجي يربط الشمال بالجنوب، ولكنها منطقة الوعود العابرة وخطابات التنمية الكاذبة حسب ما يقول أهالي الجهة.

وبحسب دراسة أعدتها وزارة الشؤون الإجتماعيّة لسنة 2011 فإن نسبة الفقر في محافظة القيروان إجمالا تبلغ 34 % كما أن نسبة العائلات المعوزة يقدر بـ 14 %. ولم يشفع للمنطقة ما فيها من ثراء طبيعي يتمثل في مساحات فلاحية شاسعة وموارد طبيعيّة ومخزون ثقافي وحضاري لتحقق الرخاء لأهلها. ولكن توجه أصابع الاتهام بالتخاذل نحو المسؤولين الجهويين وبالتهميش نحو الادارة المركزية.

تحتفظ القيروان بالمرتبة الأولى في نسبة الأمّية وعلى النسبة الثانية في نسب الفقر وتدنّي ترتيبها التنموي في المرتبة 23 من بين 24 محافظة بالبلاد التونسيّة. وتضاف الى هذا التصنيف تصدر القيروان لأعلى نسب الانتحار.

فقد سجلت معتمدية بوحجلة (جنوب القيروان) أعلى نسب محاولات الانتحار بحدوث 37 محاولة في أقل من عام في سنة 2014 معظمها لدى الأطفال حسب الناشط في العمل الثقافي والإعلامي أيمن المحرزي الذي نظم تظاهرة ثقافية وتربوية للتحسيس بالظاهرة.

ومثلت هذه المشاكل دوافع لتحركات احتجاجيّة للمواطنين. وسجّل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعية وهو منظمة حقوقية غير حكوميّة، بالقيروان 22 تحركا خلال شهر أيلول/ديسمبر 2014  وللشهر الثاني على التّوالي  تتصدر الولاية حجم التحركات الاحتجاجية بتسجيل 18 حركة احتجاج في شهر تشرين أول/نوفمبر 2014 مقابل صفر من الاحتجاجات في مدن أخرى منه ولاية المنستير و4 بولاية سوسة الساحليّتين.

سأعيش!

“سأعيش” هو شعار الحملة التحسيسيّة التي تنظمها تنسيقيّة من المنظمات المدنيّة بالقيروان بإشراف المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة. تتمثل في أنشطة تربويّة وتظاهرات ثقافيّة بمشاركة جمعيات مدنيّة وأخصائيين نفسيين واجتماعيين. وتوزعت الأنشطة بين عدد من المدارس الابتدائيّة بمعتمديّة العلا. وهي الجهة التي تسجّل أعلى نسبة الانتحار منها حالات في صفوف التلاميذ.

وهذه الحركيّة أجبرت السلط الجهوية بالقيروان على التفاعل بعد صمت طويل، من أجل ايجاد حلول لهذه المشاكل. وتم تكوين خليّة مرافقة خلال الشهر الماضي مشكلة من أطباء ومختصين ومربين.

أما بالنسبة للفتاة المباركة التي ستصبح مواطنة كاملة الحقوق بعد تسجيلها ضمن قائمة المواطنين، فإنها لا شك ستلحق بصفوف المطالبين بتحسين ظروف الحياة التي لم تخترها بإرادتها وستطمح مثل آلاف العاطلين في القيروان إلى الشغل وتحقيق الحياة الكريمة بعد عقدين من العزلة.