منذ قرابة العام وقبل ساعات قليلة من سفري إلى الأردن لدراسة الصحافة في معهد الإعلام الأردني ذهبت لأُحضر بعض ملابسي من المغسلة المجاورة استعدادا للسفر، وما أن علم “عم عبد الباسط”  صاحب المغسلة أنني أشد الرحال إلى عمّان في اليوم التالي حتى بدأ يقص عليّ ما حدث معه هناك منذ عشرين عاما، بدا متحمسا وهو يخبرني أنه وصل إلى الأردن بلا خطة وبلا عمل مضمون، وفي يومه الأول قرر الذهاب إلى منطقة المسجد الحسيني حيث يعمل معظم المصريين عله يجد من يساعده في يومه الأول، لكن حظه السعيد جعل أحد عمال النظافة يتشاجر معه فذهبا معا إلى قسم الشرطة، يقول عبد الباسط عن هذة التجر

منذ قرابة العام وقبل ساعات قليلة من سفري إلى الأردن لدراسة الصحافة في معهد الإعلام الأردني ذهبت لأُحضر بعض ملابسي من المغسلة المجاورة استعدادا للسفر، وما أن علم “عم عبد الباسط”  صاحب المغسلة أنني أشد الرحال إلى عمّان في اليوم التالي حتى بدأ يقص عليّ ما حدث معه هناك منذ عشرين عاما، بدا متحمسا وهو يخبرني أنه وصل إلى الأردن بلا خطة وبلا عمل مضمون، وفي يومه الأول قرر الذهاب إلى منطقة المسجد الحسيني حيث يعمل معظم المصريين عله يجد من يساعده في يومه الأول، لكن حظه السعيد جعل أحد عمال النظافة يتشاجر معه فذهبا معا إلى قسم الشرطة، يقول عبد الباسط عن هذة التجربة : ” كان الضابط شخصا دمث الأخلاق وما أن علم أنني أبحث عن أي عمل سألني ما إن كنت أرغب في العمل في بيت أخته فوافقت على الفور وانتقلت إلى بيتها للعمل كحارس لبوابة قصر لم أكن أحلم بالعيش فيه “، عاش عبد الباسط ” أحلى أيام حياته في هذا القصر” على حد تعبيره، فصاحبه القصر وزوجها كانا كريمين معه في كل شيئ وعاملاه كأحد أفراد الأسرة، وبعد عده أعوام قرر أن يعود إلى مصر في أجازة ، يقول عبد الباسط : ” حجزت لي السيدة تذكرة السفرعلى حسابها الخاص وربما لن تصدق أنها أوصلتني إلى المطار بسيارتها الفارهة وقالت لي امكث في مصر كما تشاء وعد إلينا في أي وقت فمكانك محفوظ لكنني لم أعد إلى الأردن مرة أخرى وبدأت هذا المشروع بما جمعته من مال ، لا أدري لماذا لم أعد، ربما كان الحال سيكون غير الحال”.

لم يكن حظي في يومي الأول في عمّان كحظ ” عبد الباسط ” الذي قاده إلى القصور، فلم أكن أعرف في الأردن إلا شاب مصري واحد وهو صديق مشترك لأحد زملاء المرحلة الثانوية ، عرض علي أن أقيم في شقة يقطن فيها بعض المصريين الذين يعملون في عمّان حتى أجد المسكن المناسب. وفي أول ليلة في الأردن وجدت نفسي في غرفة واحدة لا يوجد فيها أثاث سوى مجموعة من ” المراتب ” على الأرض يستلقي عليها خمس شباب مصريين يغطون في نوم عميق من أثر إرهاق العمل بينما كان العدد الكلي لسكان الشقة اثنى عشر شابا.

محمد أبو شعيشع كان أحد هولاء الشباب، جاء إلى الأردن بعد أن ضاقت به السبل في بيروت من أجل لقمة العيش ومن أجل أن يبني لنفسه مستقبلا ، محمد كان يعمل في صناعة المعجنات في لبنان وعندما أتى لم يجد إلا وظيفة ساعي في إحدى الشركات فقبل بها إلى أن تفتح له الأيام بابا آخر، عندما سألته عن سبب مغادرته لمصر قال لي : ” كان لدي مشروع لتربية الدواجن في قريتنا الصغيرة، وكنت أجيد هذا العمل لكن أحد أقاربي أصر أن يتدخل في عملي وأفسد المشروع فقررت أن أترك لهم البلد بما فيها ” ، ولما علم محمد أنني تركت طب الأسنان بعد عام من ممارسته وأتيت إلى الأردن لدراسه الصحافة قالي لي مستنكرا : ” لماذا فعلت هذا ؟ كان يمكن أن تعيش ” ملكا ” في مصر “، فأجبته : ” مثلي مثلك يا محمد .. كلانا هاجر من أرض إلى أرض ومن مهنة إلى مهنة من أجل هدف ما “.

وخلال فترة مكوثي معهم والتي لم تطل لأكثر من أسبوعين، لاحظت كيف أنهم يتكاتفون مع بعضهم البعض لتخفيف أعباء الغربة، فمن يعمل منهم يتكفل بمن لا يعمل حتى يتيسر له الحال، وعندما يمرض أحدهم يهرع الآخرون لنقله إلى المستشفى ولا يبرحون مكانهم حتى يعود معهم سالما إلى المنزل.

لم تترك التغيرات السياسية في مصر المصريين في الأردن يعملون بسلام، فبعد وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر، تشكل ما يمكن وصفه بـ”الأزمة المكتومة في العلاقات بين البلدين” ، وترتب على ذلك زيادة حملات التفتيش ضد المصريين في الأردن وترحيل كل من يثبت عدم حصوله على تصريح رسمي للعمل، فعدد المصريين في الأردن يقدر بحوالي 600 ألف عامل نصفهم غير مسجل بشكل قانوني، وعندما التقيت السفير المصري في الأردن خالد ثروت بعد سقوط نظام الإخوان المسلمين لإجراء حوار صحافي معه  أخبرني أن هذة المشكلة لم تحل إلا بعدما بذلت السفارة جهودا لترتيب زيارة لرئيس الوزراء آنذاك هشام قنديل لحل بعض المشكلات.

ولعل الشيئ المشترك بين كل المصريين في الأردن هو ايمانهم بالعودة، فالعامل المصري في الأردن يعتبر نفسه في مهمة محددة وهي جمع أكبر كم من المال في أقصر وقت ممكن، فهو يعمل في أكثر من عمل واحد، وفي أكثر من مهنة، حتى ينجز ما أتى من أجله ، فالحياة بالنسبة له سوف تبدأ عندما يعود إلى مصر.

وعلى صعيد آخر، وخلال فترة دراستي في الأردن أرسلني معهد الإعلام الأردني لحضور دورة في مدينة سالزبورغ النمساوية، وفي يومي الأول هناك قررت أنا وبعض الأصدقاء اللبنانيين أن نذهب للتنزه في وسط المدينة، فطلبنا من الفندق أن يحضر لنا أحد سيارات الأجرة، وبعد ربع ساعة جاءت السيارة وبدا من ملامح السائق أنه عربي، ولما علم أن الركاب عرب بدأ يتحدث العربية فأدركت من لهجته أنه مصري، سألته : ” من أي مدينة مصرية أنت ؟ ” فأجابني أنه من مدينة ” أجا ” في محافظة الدقهلية ، وبعد أن أخبرته أنني من المحافظة ذاتها قال باللهجة المصرية : ” طيب اركب قدام جنبي بقى يا باشا “.

كمعظم المصريين في النمسا جاء علاء أولا إلى ايطاليا بشكل غير قانوني ثم تحرك منها الى النمسا وبدأ يبحث عن عمل وبعد عدة أشهر تزوج من نمساوية حتى يضمن الإقامة القانونية ومن خلفها الجنسية النمساوية، كانت مفاجأة أخرى بالنسبة لي عندما أخبرني علاء أن صاحب شركة سيارات الأجرة التي يعمل بها مصري أيضا، وعن نيته العودة إلى مصر قال : ” لا أفكر بالعودة إطلاقا، لماذا أعود ؟ الحياة هنا أكثر من ممتازة ، الماء والخضرة والوجه الحسن “.

وقد خلصت من عامي الأخير- الذي تحركت فيه أنا الآخر من بلد إلى بلد ومن مهنة إلى أخرى- إلى أن المصريين يجدون أملهم في السفر والترحال، فمنهم من يبحث عن المال فقط ويعود عندما يحصل على ما يريد ، ومنهم من يبحث عن الحياة كإنسان وعندما يجدها في أي بلد آخر لا يفكر أبدا في العودة إلى أرض الوطن الذي فقد فيه أبسط حقوقه.