هناك هاجس سياسي شعبي كبير في ليبيا يتعلق بالكيفية التي ينبغي أن يُستثمر بها النصر الثوري والعذابات التي رافقته في سبيل إعادة بناء الذات، وفق مبادئ وآليات جديدة عصية على الاستغلال في غير صالح الشعب.

وإذا كان هذا الهاجس ليس خاصية ليبية إذ أن أصحاب الثورات في جميع أنحاء العالم طرحوا هذا السؤال، فإن الحالة الليبية تجعل من تجاوز هذه المشكلة عملية أكثر تعقيداً.

هناك هاجس سياسي شعبي كبير في ليبيا يتعلق بالكيفية التي ينبغي أن يُستثمر بها النصر الثوري والعذابات التي رافقته في سبيل إعادة بناء الذات، وفق مبادئ وآليات جديدة عصية على الاستغلال في غير صالح الشعب.

وإذا كان هذا الهاجس ليس خاصية ليبية إذ أن أصحاب الثورات في جميع أنحاء العالم طرحوا هذا السؤال، فإن الحالة الليبية تجعل من تجاوز هذه المشكلة عملية أكثر تعقيداً.

مازالت النفوس في ليبيا لم تهدأ، وما زالت الشروخ الاجتماعية الضخمة التي أحدثتها مجريات الثورة في نسيج العلاقات الاجتماعية لم تتعافى بعد، ومازال بناء المؤسسات الشرعية، بالمفهوم السياسي الحديث للعبارة، في أول طريقه.

ما أعتقده من جانبي هو أن ليبيا لا تفتقد إلى الخبرات التقنية لحل هذه المشكلة، وأن موضوع تجاوز تركة النظام السابق ليس تقنيا، ولا يمكن مقاربته بطريقة وضعية ميكانيكية. فالتجربة السياسية الفريدة من نوعها التي عرفتها ليبيا ارتبطت بإرث ثقافي قديم لم تحدث ثورة ضده في الأذهان منذ عهد الاستعمار، بل بالعكس تمت إعادة صياغته وصقله في سياق عالمي جديد بموارد ضخمة وأدوات حديثة نفذ من خلالها الفاعلون السياسيون الجدد، خاصة بعد سنة 1969، إلى أعماق المجتمع، ومن ثم اشتغلوا بطرق غير معهودة على المعايير والقيم التقليدية كي يحولوها هي بذاتها إلى حاضن ومبرر لفساد السياسة.

فرضيتي هي أن إحدى مشاكل ليبيا الكبرى خلال هذه المرحلة الانتقالية هي أن شبكة العلاقات الاجتماعية ومجمل التصورات الثقافية التي احتضنت الثوار على المستوى المحلي، وساعدت من الناحية العملية على إسقاط النظام السابق، كانت شبه معزولة عن المقولات العامة للحداثة السياسية.

والسبب في ذلك هو افتقاد المجتمع خلال العقود الماضية لحلقتين اجتماعيتين أساسيتين أظهرتا أهميتهما القصوى في تونس ومصر أثناء الثورة: من ناحية مؤسسات المجتمع المدني المستقلة والفاعلة ضد تغول السلطة، ومن ناحية أخرى نخبة المثقفين المتحررين من مرجعيات الأوساط الاجتماعية التقليدية التي أنجبتهم.

ما أقصده ليس أن الليبيين لم يقاوموا النظام السابق، وليس أن ليبيا لم تنجب نخبة من المثقفين من ذوي الصيت العالمي، ما أريد قوله هو أنه في أغلب حالات المقاومة (وقد جرى أغلبها عن طريق السلاح والانقلابات التي يتقن النظام السابق فن التصدي لها)، لم يجر تناغم وتلاقح مثمر بين قوة المثقف الناقد للقناعات والمرجعيات الثقافية السائدة في مجتمعه، وقوة السياسي المعارض المؤسس لآليات المقاومة المدنية المنظمة.

وأهم أسباب ذلك ليس بطش السلطة بالمثقفين والمعارضين فحسب –لأن هذا توفر ومازال متوفرا والحمد لله في كثير من البلدان العربية –، إنما أيضا لأن النظام الذي كان سائدا قد نجح، عبر وسائل مختلفة، في دفع القسم الأكبر من المثقفين الليبيين –وليس كلهم بطبيعة الحال – إما إلى الصمت و إما إلى الانخراط عمليا في نفس منظومة المعايير الثقافية والسياسية التي يعتمدها النظام في ممارسة التسلط.

نظام شمولي من نوع خاص

هناك توافق عام بين أغلب الذين اشتغلوا على موضوع النظم الشمولية، من أنَا أرندت، الفيلسوفة الألمانية، إلى بريجنسكي السياسي الأمريكي الشهير، على أن النظم الشمولية تجمع عموما بين الخصائص التالية:

* أنها تقوم على إيديولوجيا واحدة دون منافسة، وهذه الإيديولوجيا تخلط بين الوجود الإنساني بوصفه موضوعا للفهم أو التفسير، والوجود الانساني بوصفه نتيجة لتطبيق تلك الإيديولوجيا. وهذا متوفر تماما في النظام السابق عبر الكتاب الأخضر الذي يقدم فهماً وتفسيراً معيناً للعالم ثم يحاول إعادة اختراع ذلك العالم اعتماداً على ذلك الفهم والتفسير.

* أنها تمنع منعاً باتاً بالترهيب والترغيب وضع تلك الإيديولوجيا موضع سؤال.

* أنها تعمل بكل الطرق المشروع منها وغير المشروع على الحصول على القبول الجماهيري الواسع لتلك الإيديولوجيا.

* أنها تعمل بكل الطرق على مراقبة الأفراد وربط حياتهم بتلك الإيديولوجيا وبحياة النظام المكرس لها.

كل هذه العناصر كانت متوفرة سوسيولوجياً وسياسياً في النظام السياسي الليبي السابق. لكن المقاربة التي عرضتها تنطلق نظرياً من حالات تاريخية حقيقية نشأت كلها في أوربا، وسادت كلها تقريبا في نفس الفترة رغم المصير المختلف الذي لقيته، وهي النظام البلشفي في عهد ستالين والنظامين الفاشيين في إيطاليا وألمانيا.

وفي كل هذه الحالات تعاملت النظم الشمولية مع جماهير كانت العلاقات الرأسمالية قد فككت ارتباطاتها التقليدية بالقرى والطوائف الحرفية القديمة والعرقية، وكل ما من شأنه أن يعطل سياسياً واجتماعياً وثقافياً تكتلها في ما يسمى بالجماهير، التي لا يبقى لها من رمز ومرجع إلا القائد الملهم والمنقذ.

إن وجه الطرافة التاريخية والسوسيولوجية في التجربة الليبية –وهو ما يشكل تحدياً معرفياً حقيقياً بالنسبة للعلوم الإنسانية العربية –، هو أن النظام الشمولي الذي ساد في هذا البلد قام على “جماهير” أو هكذا كان يسميها النظام على كل حال –، لم تتحرر من انتماءاتها الأولية القروية والقرابية والعرقية والجهوية، وهي “جماهير” لم ينتجها توسع علاقات الإنتاج الرأسمالية الليبرالية، ولم يجر الزج بها في تشكيلات جماهيرية متجانسة بغية حل تناقضات طبقية، أو من أجل تحقيق أهداف وطنية كبرى تتضاءل أمامها المصالح الفردية الخاصة.

لقد كانت ليبيا جماهيرية من نوع خاص، جماهيرية الكتاب الأخضر الذي يؤمن بأن الأفراد والمجموعات ينتمون فعلاً إلى كيانات قبلية لها وجود مادي حقيقي ثابت، يستحق أن تؤسس عليه علاقات سياسية دائمة وإن تغير أطرافها.

ومن ثم فإن الأفراد في هذه الجماهيرية لا يريدون في حقيقة الأمر – حسب إيديولوجيا النظام – إلا ما تريده المجموعات الضيقة التي ينتمون إليها، وهي مجموعات يعمل النظام السياسي على تقوية ارتباطات الأفراد بها عبر الاشتغال على أهم رابطين يخترقان ما يسمى بالقبيلة، كما يعرفها الكتاب الأخضر وكما يستخدمها النظام، وهما على المستوى الأفقي القرابة والجيرة وعلى المستوى العمودي الزبونية.

مشاكل الانتقال إلى التعددية السياسية

ما هي مشكلة ليبيا مع هذا الإرث الثقيل وهي تستعد الآن للانتقال إلى مرحلة تاريخية جديدة من حياتها تقوم على التعددية؟

بالعودة قليلاً إلى الفرضية الأولى التي أسست عليها فكرتي الرئيسية، والمتعلقة بغياب التناغم والتلاقح المثمر بين قوة المثقف الناقد للقناعات والمرجعيات الثقافية السائدة في مجتمعه، وقوة السياسي المعارض المؤسس لآليات المقاومة المدنية المنظمة. إن هذه الفرضية لا تفسر إلا جزئياً الشكل المسلح للثورة الليبية والتطورات القاسية جداً التي عرفتها، لأن النظام السابق هو في الحقيقة من فرض هذا المسار على الثوار. لكنها تساعد على العثور على الحلقة المفقودة التي تسبب غيابها في التدحرج العنيف نحو العنف المطلق الذي يكون موضوعه عادة إنهاء وجود الطرف المقابل – وهو ما حصل فعلاً.

وهذه الحلقة المفقودة برزت للعيان حين اكتشف النظام السابق أنه غير قادر على التواصل مع الثوار لأنه ألغى المجتمع المدني المستقل الذي يشكل مثقفوه عادة آلية النقد الاجتماعي- السياسي الأولى، التي ينسج السياسيون منها خيوط المعارضة الفكرية والسياسية، ويدبرون سبل التحاور بين أطراف المجتمع المتصارعة.

وهذا هو في رأيي مربط الفرس بالنسبة للمرحلة القادمة. فلأن النظام السياسي السابق كان شمولياً لا يقبل الاختلاف في الرأي، ولا يسمح بظهور قوى اجتماعية قادرة على التطور باستقلال عن إرادة من يحتكر التصرف في موارد الدولة، فإن الذين غيروا على الأرض موازين القوى لصالح الثورة كانوا مجرد مقاتلين مسلحين يفتقدون إلى معرفة مفاهيم ومبادئ الفكر السياسي الحديث، وليسوا مثقفين يقودون جمعيات ومؤسسات مدنية تعتبر أن من شروط وجودها تأسيس الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة.

ماذا كانت النتيجة؟ تقدم جواب القذيفة على جواب الفكرة والتنظيم السلمي للمقاومة، وفي هذا الخضم القاسي كان الأقرب للمقاتلين هم الأهل والجيران والأصدقاء، وكانت شبكة العلاقات التي تربط بين هؤلاء هي التي تصنع إلى حد كبير آفاق الأهداف السياسية للثورة على المستوى المحلي: كل مجموعة ترى أنها تمثل جغرافية طبيعية واجتماعية مميزة، وترى أن الهدف العام للثورة لا يتحقق فعلياً إلا بحصول أفرادها، ومن ورائهم عائلاتهم وأقاربهم وجيرانهم و معارفهم المقربين، على حقهم في إعادة التموقع داخل النسيج المحلي الذي احتضنهم خلال الثورة. ولأن مثل هذه العلاقات لا تكفي لتوسيع مجال اللحمة اجتماعيا وسياسيا وجغرافيا، والنشاط الحزبي كان ممنوعا وغير ذي معنى عند غالبية الناس، فإن العقيدة والدعاة الدينيين وجدوا المكان الذي يليق بهم في هذا السياق.

هنا تبدأ مشكلة الانتقال من النظام الشمولي إلى النظام التعددي. ذلك أن مفهوم التعدد السياسي يعني قبل كل شيء تعدد الأفكار والتنظيمات السياسية التي تتمحور حولها، بينما التعدد الفعلي على الأرض والذي نشأ خلال عمليات القتال قد تلبس بالعلاقات الأولية للمجتمع وإرثها الثقافي العتيد.

قد أكون مجانبا للصواب في تحليلي، لكن هناك مؤشران مهمان يصبان في الاتجاه الذي تكلمت فيه: الأول هو التطاحن العسكري والسياسي الذي جرى منذ سقوط النظام السابق في المنطقة الغربية من البلاد وإلى حد ما في الجنوب وما زال يجري من حين لآخر إلى الآن. وكما هو واضح فإن الموضوع الأساسي لهذا التطاحن هو تحقيق أهداف محلية لا علاقة لها بالانتقال الديمقراطي التعددي.

أما الثاني فهو توجس الليبيين من تأسيس الأحزاب السياسية منذ العهد الأول للاستقلال حتى الآن، رغم أن البلاد عرفت تأسيس العديد منها. وكما تعلمون مازال موضوع التراخيص للأحزاب يؤرق الجميع وما زال يتهيب منه كل المسؤولين.

ما العمل إذن؟ أعتقد أن هناك مفتاحان لهذه المعضلة: الأول البراغماتية السياسية التي تعمل بما هو موجود كي تتقدم إلى الأمام، وهي عنوان المرحلة القادمة. والبراغماتية تعني إشراك النخب المؤمنة بضرورة المرحلة الانتقالية على المستوى الوطني في تحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى للثورة، مثل كتابة الدستور وتأسيس الأحزاب والجمعيات وغيره. أما الثاني فهو تشريك المواطنين على المستوى المحلي في تضميد جراحات الماضي. ذلك أنه قد لا يوجد هناك اليوم بيت ليبي واحد ليس فيه قاتل أو مقتول، و الأفضل ألا نبحث عن القاتل لنقتص منه إذا لم يكن من كبار المسؤولين عن ذلك، بل أن نفكك اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا البنية المولدة للاستبداد والمفرخة للقتلة.

ولا يمكن لهذا أن يتحقق إلا بالتقاء قوة نقد المثقف للمجتمع وقوة فعل السياسي الديمقراطي المتشبع بأفكار التحرر والإصلاح.