عندما غزت القوات الإيطالية ليبيا في أكتوبر عام 1911 وجدت أمامها قيادات حقيقية صنعتها سنوات طويلة من الاستقرار والفرز. ففي المنطقة الشرقية تمكنت الحركة السنوسية من إذابة القبائل البدوية، سواء كانت قبائل السعادي المسيطرة أو قبائل المرابطين في بوتقة جديدة، قلبت الهرم الاجتماعي الذي كان سائداً، والذي يجعل من قبائل السعادي في قمة الهرم، وقبائل المرابطين في أسفل الهرم، وفجأة أصبحت الكفاءة هي المعيار الوحيد للقيادة من خلال التجربة، وهكذا أصبح عمر المختار ابن قبيلة المنفة المرابطة القائد العام للقوات السنوسية، بينما يساعده زعماء قبائل السعادي والمرابطين، مثل زعيم قبيلة العواقير عبد الحميد العبار، وزعيم واحة أوجلة الأمازيغية الفضيل بو عمر، وزعيم قبيلة المسامير يوسف بورحيل.
لم تؤسس الحركة السنوسية قيادات عسكرية، بل أسست قيادات سياسية شهد لها الجميع بالحنكة والقدرة على الاستبصار، وفي مقدمة هؤلاء الشارف الغرياني، الذي رأى أنه لا جدوى من مقاومة الطليان، وأن مفاوضتهم لانتزاع بعض الحقوق أفضل من مقاومتهم وضياع كل شيء، وهو ما حدث بالفعل بعد استشهاد المختار.
تحاشت الحركة السنوسية المدن لأن نظرية ابن خلدون تتحقق فقط في الفضاء البدوي، فلم ينضم للحركة السنوسية زعماء بنغازي “الحضور” ولا زعماء مدينة درنة، وبعد تحرير ليبيا من الطليان على يد القوات البريطانية برز دور هؤلاء الزعماء، وهم جميعاً من الكوادر التي تأهلت في العهد العثماني الثاني، مثل عائلة الكيخيا من بنغازي، والكيخيا منصب في العهد العثماني يعادل منصب رئيس الوزراء وخاصة في بلاط الأسرة القرامانلية.
القائم مقام
في غرب ليبيا استقرت القيادة لكل من وصل إلى منصب قائم مقام، فبعد النزاع المرير بين عائلة المنتصر وعائلة السويحلي، تمكن رمضان السويحلي من حسم الصراع، بينما تزعم ورفلة (وسط جنوب ليبيا) قائم مقامها عبد النبي بالخير، وبالرغم من أن أصول بالخير تعود إلى قبائل الصيعان في أقصى غرب ليبيا، وحتى الآن لا تزال قبيلته في ورفلة تحمل اسم قبيلة الصيعان، إلا أنه تمكن بذكاء شديد من تزعم قبائل ورفلة، بعد أن أسس زاوية دينية هناك، ثم شهد له الجميع بالحنكة السياسية والقدرة الاستثنائية على القيادة.
بينما تزعم غريان (75 كم جنوب طرابلس) قائم مقامها الهادي كعبار، بالرغم من أنه من أصول تركية، مثله مثل بقية زعماء غريان أمثال برشان والخوجة والآغا، وبرهن كعبار على حنكته الشديدة، وخاصة بعد خسارة المجاهدين لمعركة جندوبة (1913)، فأصبحت الطريق ممهدة لدخول غريان من ناحية الأصابعة (25 كم جنوب غريان)، وهنا تقدم كعبار بأكبر تضحية يقدم عليها قائد مهزوم، ففاوض الطليان على تسليم نفسه والحكم عليه بالإعدام، بشرط ضمان العفو عن جميع سكان غريان، وهذا ما حدث بالفعل.
كما برهن أحمد المريض قائد قبائل ترهونة، وبن قدارة قائد زليطن، وسالم بن عبد النبي قائد الزنتان، وفكيني قائد الرجبان، ومحمد بن حسن المشاي قائد المشاشية، وعون سوف قائد المحاميد، ومحمد بن عبد الله البوسيفي قائد أولاد أبوسيف عن حنكة ومهارة في القيادة، والبحث عن قواسم مشتركة بالرغم من الخلافات القبلية الشديدة بينهم، وخاصة في مؤتمر إعلان الجمهورية الطرابلسية (في الفترة 1918 – 1919 دامت ستة أشهر ونصف فقط).
بينما قاد الأمازيغ سليمان الباروني بثقافته الواسعة ومستواه العلمي الرفيع، في حين تركزت الزعامة في نالوت في عائلة بن عسكر، و قاد زوارة عائلة بن شعبان، و اختارت مدينة الزاوية فرحات الزاوي العضو في البرلمان العثماني، فيما بقيت القيادة في المنطقة الوسطى والجنوبية حكراً على عائلة سيف النصر التي تقود قبيلة أولاد سليمان.
زعامة جماهيرية جديدة
خلال مرحلة النضال من أجل الاستقلال برزت زعامة جديدة من طراز مختلف، ففي الشرق بايعت كل القبائل إدريس السنوسي أميراً على برقة، ولم يكن إدريس غراً في عالم السياسة، فقد شهد كل من كان مقرباً منه على دهاء شديد.
فعندما عاد إلى ليبيا (1944 بعد خروج إيطاليا) عين قجة عبد الله وهو تشادي الأصل حاكما على اجدابيا (160 كم جنوب غرب بنغازي)، وأمره بسجن زعيم قبيلة المغاربة صالح الطيوش، وزعيم قبيلة الزوية الهتش، تعبيراً عن فرض سلطته المطلقة على هذين الزعيمين البدوييين، فرضخ الاثنان لأمر الأمير إدريس.
أما في غرب ليبيا فقد برز زعيم جديد صنع جماهيرية واسعة بسرعة شديدة، هو زعيم حزب المؤتمر بشير السعداوي، الذي كان قائم مقام بلدة جزين اللبنانية المسيحية، ومستشاراً للعاهل السعودي عبد العزيز آل سعود، وكانت لديه رؤية مختلفة لليبيا عن تلك التي تبناها الملك إدريس، لكنه تنازل عن رؤيته من أجل أن تستقل ليبيا موحدة (أعلن الاستقلال في 24 ديسمبر 1951)، وقدم درساً بليغاً في إمكانية التوافق والتنازل من أجل المصلحة العامة.
القذافي والنفخ في نار القبائل
عندما وصل القذافي إلى السلطة (1969) حاول منذ البداية تمزيق النسيج الاجتماعي الليبي، فقرب البدو وأبعد الحضر، وحاول بدونة المدينة عن طريق إنشاء روابط شباب القبائل بها، ونجح في بنغازي في دفع القبائل لتكون مجالسها داخل المدينة، بينما فشل في طرابلس بالرغم من وجود لافتة في طريق الفلاح كتب عليها “رابطة شباب قبيلة الزنتان في طرابلس”.
ثم تمرس القذافي في تأليب القبائل ضد بعضها، وخاصة بعد محاولة العقيد مفتاح قروم (وهو من قبيلة ورفلة) الانقلابية عام 1993، فاستعدى مصراتة على ورفلة، كما استعدى المقارحة على الحساونة، وكان يوسع ويضيق مؤتمراته الشعبية (البلديات أو المحافظات)، فأحيانا يجعلها على مستوى المحلة فتنقسم القبيلة على قسمين، وأحيانا يضم في المؤتمر قبيلتين فتسري العداوة بينهما.
وعندما لاحظ الحلف التاريخي بين الزنتان والرجبان (في جبل نفوسة أقصى غرب ليبيا) جمعهما في مؤتمر واحد، كانت جلساته تبث على الهواء مباشرة، ومنذ الجلسة الأولى اختلفوا على تسمية المؤتمر، الزنتان أولا أم الرجبان أولا.
في عهد القذافي اضمحلت القيادة التقليدية السابقة، وحلت محلها قيادات جديدة، فالمقارحة كانوا يلجؤون إلى ابنهم عبد الله السنوسي (رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية)، وأولاد سليمان كانوا يلجؤون إلى أبنائهم عبد السلام الزادمة وعبد الله منصور (ضباط مقربون من القذافي).
بينما لجأ أبناء قبيلة المنفة إلى الطيب الصافي والمغاربة إلى مبارك الشامخ، وورفلة إلى عمران أبو كراع، وهؤلاء لم يبرهنوا يوما أنهم قادة، فقد صمموا منذ البداية ليكونوا أتباعاً للقذافي.
التصحر الشامل
بعد اثنين وأربعين عاماً من التصحر الشامل تعاني ليبيا اليوم من أزمة قيادة، تجلت منذ الأيام الأولى لثورة فبراير، عندما رضي الجميع باختيار مصطفى عبد الجليل رئيساً للمجلس الوطني الانتقالي، ثم تأكد الجميع أن الرجل لا يملك أي موهبة قيادية، سوى موهبته في قيادة فريق نادي الأخضر (فريق كرة القدم الذي كان يلعب ضمن صفوفه).
أما محمود جبريل الذي ترأس المكتب التنفيذي فقد قاد مكتبه بالهاتف والريموت كنترول من الدوحة، مثلما يقود تحالفه الآن من دبي، ثم كانت الطامة الكبرى بعد انتخابات المؤتمر الوطني، فإذا بمعظم أعضائه لا يعرفون حتى كيف يطلبون الكلمة، واختلط الحابل بالنابل قبل أن يكشف عبد الرحيم الكيب (أول رئيس حكومة بعد الثورة في أحد خطاباته) عن وجود قوة عليا تحكم المؤتمر والحكومة، اكتشفنا فيما بعد أن قادة المليشيات هم هذه القوة العليا.
من أين أتى قادتنا الجدد؟
اختفى القادة الحكماء وحل السفهاء محلهم، فباستشهاد الشيخ محمد المدني (أثناء الثورة 2011) فقدت الزنتان زعيمها الحقيقي، وهو يشبه محمد بن عبد الله البوسيفي زمن الكفاح ضد الطليان، الذي جمع بين القيادة الروحية والقيادة العسكرية.
وبالرغم من أن الزنتان كان لهم نظام يسمى “العمرة”، وهو مجلس للحكم تتخذ فيه القرارات المصيرية، ولكن قادة الزنتان اليوم هم مجموعة عجيبة من أشخاص لا يملكون أية كفاءات، فمثلاً عبد الله ناكر (قائد ميداني ورئيس حزب القمة) كان يصلح الأجهزة المرئية في محل بشارع الكندي بطرابلس، بينما كان مختار الأخضر (قائد ميداني آخر) يطبخ المأكولات التقليدية في الأعراس، في حين كان هاشم بشر (رئيس اللجنة الأمنية العليا بطرابلس) يبيع العصائر، وهيثم التاجوري (قائد كتيبة مسلحة) يقود سيارة أفيكو (باص نقل عام) من سوق الجمعة إلى ذات العماد وسط طرابلس.
أما عبد الغني الككلي (آمر إحد سرايا اللجنة الأمنية العليا) فكان فتوة في حي أبوسليم، وكان عبد الرؤوف كارة (آمر سرايا الإسناد والدعم بطرابلس) عاطلاً عن العمل في سوق الجمعة، في حين كان محمد الكيلاني (عضو المؤتمر الوطني العام عن مدينة الزاوية) يدرس الأطفال في الصباح ويبيع الماشية في المساء.
في المنطقة الشرقية كان زعيم أنصار الشريعة محمد الزهاوي من عاشقي المرسكاوي (فن شعبي ليبي)، وإذا حضر حفلة للمرسكاوي يرقص حتى يسقط مغشياً عليه، بينما كان أحمد أبو ختالة (المسؤول في تنظيم أنصار الشريعة والمقبوض عليه حالياً بتهمة اغتيال السفير الأمريكي ببنغازي) مقاولاً صغيراً يبني البيوت.
وكان بوكا العريبي (واسمه ابراهيم العريبي أحد قيادات ميليشيا درع ليبيا) يعمل في تغيير زيوت السيارات، ولأنه طوال الوقت كان يتواجد في حفرة تحت السيارات سمي بوكا وهو الاسم الإيطالي للحفرة، والخبرة الوحيدة التي اكتسبها سفيان بن قمو (أحد قيادات الجماعات المتطرفة في درنة) هي قيادة سيارات بن لادن.
والمحصلة أن القيادات السابقة للدولة استُبعدت بالكامل ومن بينهم من يمتلك الكفاءة والخبرة لإعادة بناء الدولة، بينما جاءت معظم القيادات الجديدة من السجون ومن المنفى، أو من الهامش وفرضوا أنفسهم بقوة السلاح، وطبعاً من كان في السجن أو في المنفى سنوات طويلة لا يمكنه فهم الواقع الذي غاب عليه طويلاً.
ستستمر لغة القوة في ليبيا وسيخسر الجميع ويكتوي بالنار، قبل أن يتعلم الليبيون الجلوس على مائدة الحوار، وتقديم تنازلات متبادلة، مثلما تفعل جميع الشعوب، التي مرت بهذه التجربة وتعلمت منها، فالديمقراطية أصعب الأنظمة على الإطلاق وليس أسهلها كما يتوهم الكثيرون، ورؤية الأوروبيين وهم يبتسمون في طوابير الاقتراع، تحجب سنوات طويلة من العنف والقتال والبغض الشديد.