في الوقت الذي تتهم فيه وسائل الإعلام في ليبيا بالانحياز وعدم الكفاءة والكيل بمكيالين والتحريض على المختلفين، كانت تلك المؤسسات هدفاً لمجموعات المسلحة قامت باقتحام مبانيها ونهب محتوياتها وخطف موظفيها بذرائع شتّى، ولم يسلم حتى فنيو تلك المؤسسات وإداريوها من الملاحقة والتهديد.

الفجر والكرامة

زاد الوضع تفاقماً بعد بدء عمليتي “الكرامة” في منتصف أيار/مايو الماضي (بقيادة اللواء خليفة حفتر) شرقي البلاد، و”فجر ليبيا” في منتصف تموز/يوليو (وهو تحالف يضم مجاميع مناطقية وإسلامية مسلحة) غربيها.

وشهد الإعلام تغيراً كبيراً خاصة في مدينتي طرابلس وبنغازي منذ هذين التاريخين. إذ تم اقتحام بعض القنوات الفضائية على جهتي البلاد وإقفال مكاتبها أو تغيير إداراتها واستقالة عدد من إعلامييها.

فمنذ عملية “فجر ليبيا” واقتحام مطار طرابلس الدولي في 13 تموز/يوليو الماضي، بدأت الأنباء تتوالى تباعاً، فاقتحم مسلحون قناة “العاصمة” ولازلت القناة مقفلة إلى يومنا هذا، ومن ثم قناة “الدولية” التي عادت إلى البث بدون كوادرها الإعلامية، كما جرى اقتحام مبنى راديو “ليبيا إف إم” وإقفال مبنى قناة “ليبيا تي في”.

أما القنوات الخاصة الأخرى الموجودة في العاصمة مثل “النبأ”، و”فزان”، و”توباكتس”، و”ليبيا ون”، و”المنتدى”، و”ليبيا لكل الأحرار”، فلا تزال تعمل لكنها شهدت تغييراً كبيراً (قسريّاً) في كوادرها الإعلامية، خاصة الموجودين في الشرق الليبي، بعد اتهامها بعدم الحياد في تغطيتها للأحداث.

فاستقال العديد من كوادر قناتي “النبأ” و”ليبيا لكل الأحرار” وقدم بعضهم استقالات على الهواء أوعبر صفحاتهم على الفيسبوك، متهمين قنواتهم بالابتعاد عن المهنية، ومنهم من فعلوا ذلك بعد ضغوط تعرضوا لها في مدنهم المؤيدة لعملية “الكرامة”.

هناك قنوات أخرى ظهرت بعد عملية “فجر ليبيا”، مثل قناة “فبراير”، و”ليبيا بانوراما”، وقناة “الزنتان”، وقناة “القبائل”، وقناة “ليبيا 24″، لا توجد أي معلومات عن مالكيها أوتوجهاتهم أو أمكنة مقراتهم ومكاتبهم.

وفي بنغازي لا توجد أية مؤسسة إعلامية تعمل في الوقت الحاضر بسبب الحرب المستمرة في المدينة وضواحيها بين قوات اللواء حفتر و”مجلس شورى ثوار بنغازي” الذي يضم كتائب إسلامية مسلّحة. وقد انعكست الحرب على الواقع الإعلامي في المدينة، لتشهد بنغازي استقطاباً حاداً بين مؤسسات إعلامية تدعم عملية “الكرامة” وأخرى مناهضة لها ومحسوبة على تيار الإسلام السياسي.

فمؤسسة “العين” التي يتبع لها راديو وموقع “أجواء لبلاد” تم إقفالها على يد قوات الجيش، أما تلفزيون “ليبيا الحرة” فقد تعرض للاقتحام والتخريب من قبل مسلحين.

وفي مدن الشرق الليبي حيث تحظى عملية “الكرامة” بدعم شعبي تم أيضاً إقفال راديو “أجواء لبلاد” في البيضاء وطبرق من قبل مجالس البلديتين بعد ضغوط من مؤسسات المجتمع المدني وبعض النشطاء في المدينتين.

صحف وراديوهات

أما بالنسبة للإعلام المطبوع فقد توقفت جميع الصحف المطبوعة في طرابلس عن الإصدار في بداية تموز/يوليو الماضي، بسبب اعتصام موظفي المطابع احتجاجاً على أوضاعهم الوظيفية.

ومع بداية الحرب في طرابلس تمت مصادرة أعداد من صحف كانت تصدر من مدينة بنغازي. وبعد التهديدات التي وصلت لتلك الصحف توقفت في بنغازي جميع الصحف المطبوعة حتى إشعار آخر، باستثناء صحيفة وطني وهي صحيفة خاصة.

كما أقفلت “هيئة دعم وتشجيع الصحافة” بطرابلس لفترة قبل أن تقوم حكومة عمر الحاسي بتعيين مدير جديد للهيئة بدأ مشواره بتهديد الصحفيين بقطع مرتباتهم في حال لم يلتحقوا بأعمالهم، رغم أن المطابع لا تعمل.

الإذاعات المسموعة المحلية تأثرت هي الأخرى بالحرب الأهلية الدائرة في البلاد، فقام بعضها بتأجيج الحرب وتم اقتحام البعض الآخر وإقفاله، واضطرت بعض الإذاعات الأخرى مثل “الشروق”، و”الجوهرة”، و”راديو زون”، و”تربيوليتانا”، إلى إيقاف جميع برامجها السياسية أو المتعلقة بالشؤون الحالية بما في ذلك نشراتها اليومية، والاكتفاء بالبرامج الأخرى غير الطابع السياسي أو الأيدولوجي أو المناطقي.

وتم التشويش في بعض المدن على الإذاعات الدولية مثل راديو “سوا”، و”بي بي سي عربي”، و”راديو الآن”، ولم يُعرف سبب التشويش المتعمد أو مصدره.

القنوات العامة

القنوات العامة كانت أيضاً عرضة للتجاذبات، فبعد الاستقطاب السياسي والجهوي الذي ظهر جلياً في القنوات التابعة للدولة في الحرب الأخيرة ودورها في تأجيج الصراع، أصدر مجلس النواب المنتخب (ومقره طبرق) قراراً بإقفال جميع القنوات الفضائية المملوكة للدولة، مثل “ليبيا الوطنية” و”الرسمية” و”الرياضية”، وكلف الحكومة المؤقتة بإنشاء قناة وطنية.

وبالفعل تم تجهيز مقر قناة “الوطنية” في طبرق، ومقر آخر لها في البيضاء ليكونا بداية البث للقناة بنفس الشعار والتردد السابقين، لكن المشاكل الفنية والتخبط في الإدارة والتنسيق بينها جعل أمر توقفها عن البث بين الفينة والأخرى يصبح أمراً اعتيادياً.

وبالنسبة لمسألة التراخيص فقد تم إنشاء لجنة خاصة مقرها في وزارة الاتصالات في كانون الأول/ديسمبر 2012، تُشرف على توزيع الترددات الراديوية في جميع أنحاء البلاد وإصدار تراخيص لمحطات الراديو، أما بالنسبة لوسائل الإعلام الأخرى من قنوات تلفزيونية وصحف ومواقع إلكترونية، فلا توجد أية لجنة مختصة بإصدار تراخيص لها، ولا يوجد تصنيف ولا توثيق لإعلاميي ليبيا في الوقت الراهن.

غموض حول التمويل

في 2 أيار/مايو 2012 أصدر المجلس الانتقالي القانون رقم (29) لسنة 2012 م بشأن تنظيم الأحزاب السياسية، ونصت مادته (28) على أن “للحزب الحق في امتلاك وسائل إعلام خاصة به للتعبير عن آرائه ومواقفه وتحقيق أهدافه وفقاً للمبادئ الدستورية والتشريعات النافذة، وله الحق في حصة متساوية مع باقي الأحزاب العاملة في استخدام وسائل الإعلام المملوكة للمجتمع، وتبين اللائحة التنفيذية القواعد المنظمة لذلك”.

لكن عدم الوضوح من قبل بعض الأحزاب الكبيرة في تبعية وسائل الإعلام الخاصة بها أو التي تربطها علاقات مع مالكيها، جعل الأمر أكثر ارتباكاً للكثير من المشاهدين والمتابعين للمشهد الإعلامي الليبي.

ففي حين يعتبر الكثير من المتابعين أن قنوات “ليبيا الحرة”، و”ليبيا تي في”، و”أجيال ليبيا”، وقناة “مصراتة”، و”المنارة للإعلام” بموقعها الإلكتروني وصحيفتها الورقية وأثيرها المسموع، و”وكالة أنباء التضامن”، و”أجواء لبلاد”، أجنحة إعلامية لحزب العدالة والبناء المنبثق من جماعة الإخوان المسلمين، يعتبرون أيضاً أن قناتي “العاصمة” و”الدولية” هما الجناح الإعلامي لتحالف القوى الوطنية، و”ليبيا أولاً” للتكتل الفيدرالي، أما قناة “الكرامة” فهي من اسمها لعملية الكرامة.

لم يخرج إلا عدد بسيط من قادة هذه الكيانات والأحزاب ليبين الغموض في ارتباط هذه المؤسسات بالأحزاب، بداية من رئيس تحالف القوى الوطنية محمود جبريل الذي قال إن “قناة  ليبيا الدولية يملكها أفراد بعضهم ينتمي للتحالف والآخر داعم له”.

وزعيم حزب الوطن عبد الحكيم بلحاج الذي نفى علاقته بقناة “النبأ” المحسوبة على التيار الإسلامي، بالرغم من أن مديرها التنفيذي السابق كان عضواً في الجماعة الليبية المقاتلة وصديقا مقرباً لبلحاج، كما نفى رئيس مجلس إدارة قناة “ليبيا الحرة” ارتباط القناة بالإخوان المسلمين بالرغم من انتمائه لهم، أما قناة “العاصمة” فيملكها رجل أعمال قريب التوجه من تحالف القوى الوطنية.

أما القنوات التي يديرها أو يملكها رجال أعمال غير محسوبين على حزب سياسي معين فهي كذلك يلفها الغموض من حيث الدعم وأسماء مالكي القناة.

فرئيس مجلس الإدارة السابق لقناة “ليبيا لكل الأحرار” محمود شمام كان قد أكد أن قطر هي من تدعم القناة مالياً، وبقي الغموض يلف قنوات “أجيال”، و”توباكتس”، و”ليبيا ون”، و”ليبيا أولاً”، و”المنتدى”، و”ليبيا تي في”، وقناة “فزان”، ناهيك عن التخبط الذي تعانيه القنوات المملوكة للدولة من حيث صرف الميزانيات والمتمثلة في قناة “الوطنية” و”الرسمية” وقناة “مصراتة”.

وفي الوقت الذي أعطى فيه قانون تنظيم الأحزاب السياسية الحق في حصص متساوية للأحزاب العاملة في استخدام وسائل الإعلام المملوكة للمجتمع، نجد أن هذه القنوات لم تعط  الفرصة لجميع الأحزاب بالتساوي كما ينص القانون، ولهذا السبب لجأت الأحزاب إلى امتلاك قنوات خاصة.

الواضح أن هناك تسييساً متزايداً لوسائل اللإعلام الليبية العامة والخاصة على حد سواء، خاصة بعد اندلاع الحرب الأهلية، ووجود حكومتين وبرلمانين في الشرق والغرب، ومن المرجح أن تبقى الحركات السياسية مستفيدة من حرية الإعلام في ظل وجود مشهد خال من أية ضوابط مهنية غير الضوابط التقليدية (الدين والعرف والقومية وانتقاد المجموعات المسلحة والرموز الدينية) للتأثير على جمهورها وتحريضه ضد الطرف المخالف.

وفي هكذا بيئة يظل أول قلق وأكبر تحدي يواجهه الإعلاميون هو الأمن، وهم يعملون في مناخ غير آمن أبداً، وغالباً ما يلجؤون إلى ممارسة الرقابة الذاتية لتجنب التهديدات التي تختلف في شكلها ونطاقها، بداية من مكالمات هاتفية من مجهول وتهديدات في الفيسبوك، وانتهاءً بالعنف الجسدي مثل الاختطاف وتدمير المعدات أو مصادرتها أو الاعتداء على المؤسسة الإعلامية، بل وحتى حرق المنازل وتدميرها وأقصى المخاطر طبعاً وهو الاغتيال.