لم تستطع مبروكة أن تتمالك نفسها وهي تروي لمراسلون تفاصيل قتل ابنتها الكبرى على يد عمها الأكبر، ظناً منه أن سيمسح عار هروبها من بيت زوجها في سبها إلى مدينة بنغازي.

مبروكة علي امزيريق (59 عاماً) أرملة وأم لثلاث بنات يقطن إحدى قرى وادي الشاطئ (60 كلم شمال سبها). كانت وبناتها ضحية إحدى جرائم الشرف التي ارتكبت بحق ابنتها الكبرى سعدة.

زواج إجباري

لم تستطع مبروكة أن تتمالك نفسها وهي تروي لمراسلون تفاصيل قتل ابنتها الكبرى على يد عمها الأكبر، ظناً منه أن سيمسح عار هروبها من بيت زوجها في سبها إلى مدينة بنغازي.

مبروكة علي امزيريق (59 عاماً) أرملة وأم لثلاث بنات يقطن إحدى قرى وادي الشاطئ (60 كلم شمال سبها). كانت وبناتها ضحية إحدى جرائم الشرف التي ارتكبت بحق ابنتها الكبرى سعدة.

زواج إجباري

كان البكاء أول ما باحت به “مبروكة” وهي تتحدث لـ”مراسلون” عن مآساتها، حيث قالت إن ابنتها الكبرى ذات التسعة عشر ربيعاً، والتي كانت تدرس بمعهد إعداد المعلمات بالشاطئ؛ تزوجت قسراً من ابن عمها بناءً على ماقرره أعمامها تماشياً مع العادات والتقاليد.

وبالرغم من محاولات سعدة رفض هذا الزواج رغبة منها في إكمال دراستها، إلا أن إصرار أعمامها على إتمام هذه الزيجة وقف أمام رغبات سعدة وأمها التي لاتملك من أمر بناتها شيئاً، وقد تم الزواج فعلاً وانتقلت سعدة إلى بيت زوجها “أبي القاسم” بمدينة سبها.

وبحسب رواية مبروكة؛ فإن زوج ابنتها كان شديداً في تعامله معها، فالضرب والإهانة كانا بشكل يومي عنده، مما جعل سعدة تعاني منه الأمرّين، ولم تجد استغاثاتها بأعمامها نفعاً.

تلوم مبروكة نفسها لأنها لم تقف إلى جانب ابنتها حين كان زوجها يعذبها، فقد كانت دوماً تدعوها للصبر والرضى بقضاء الله مخافة عار الطلاق في مجتمع لا يتقبل المرأة المطلقة.

حكم بالموت

ظروف سعدة القاسية دفعتها للهرب من بيت زوجها أكثر من مرة قاصدة بيت أقارب لها من بعيد، وفي كل مرة كانت تحاول السفر بعيداً عن مدينتها حتى لا يتعرف عليها أحد، كان أقاربها يعيدونها إلى زوجها خوفاً من المشاكل لتبدأ رحلة عذاب جديدة.

ترى “مبروكة” أن ابنتها “أخطأت” حينما هربت من بيت زوجها، معللة ذلك بأن المجتمع الليبي – وخاصة في الجنوب – لن يتقبل هذا الأمر مهما كانت دوافعه. ومع ذلك استمرت ابنتها في الهرب حتى نجحت في إحدى المحاولات في الهروب إلى بنغازي شهر سبتمبر/أيلول الماضي، ما أثار حنق أعمامها.

ولكن العقاب كان قاسياً هذه المرة، فبعد أن وجدها أعمامها وعادوا بها إلى البيت؛ كان قتلها هو أول الحلول وآخرها لديهم، فاتفق جميعهم على أن يتم قتلها على يد أكبر أعمامها وبحضور زوجها. حاول “مراسلون” التواصل مع أعمام الفتاة سعدة ولكنهم رفضوا الإدلاء بأي تصريح.

الساعات الأخيرة

تروي الأم بحسرة وقائع الساعات الأخيرة التي سبقت مقتل ابنتها وكأنها حدثت اللحظة، تقول إن ابنتها كانت محتجزة في إحدى الغرف بشقة زوجها، حيث كانت تأتي لها خلسة ببعض الطعام الذي رفضت الفتاة تناوله، وذلك بعد إحساسها أن أعمامها سيقتلونها. في هذه اللحظة تصمت مبروكة وتردد بحسرة “لحد الآن مش مصدقة اللي صار”.

تتابع مبروكة حديثها لمراسلون بحال لا يسر الناظرين، “جاء أبوبكر – العم الأكبر – وهو يحمل مسدساً، طار عقلي وأنا أراه متوجهاً لغرفة سعدة، حاولت منعه وطلبت منه أن يضربها أو يفعل بها أي شيء غير القتل، ولكن إخوته تكاثروا علي ورموني بعيداً عن طريقه، طالبين مني بكل سذاجة أن أصبر وأحتسب”.

تقول مبروكة إن صراخ ابنتها لا يزال في رأسها إلى الآن حين أشهر عمها السلاح بوجهها، فقد كانت سعدة تستغيث بأمها وترجو عمها ألا يقتلها، وتعده بأن لا تهرب من البيت مرة ثانية، “تعالت صرخاتها وتعالى صوتي وأنا أحاول اللحاق بعمها، وفجأة سمعت صوت ثلاث رصاصات لم أسمع بعدها صوت ابنتي، دفعت أعمامها بقوة، ودخلت الغرفة فوجدت ابنتي غارقة في دمائها”؛ هنا تتوقف الأم عن سرد القصة واضعة يديها على وجهها والدموع تتفجر من بين أصابعها.

لقد منع الأعمام أن يقام عزاء لسعدة ومنعوا أمها من ذلك حتى في بيتها، توجهت مبروكة تستنجد بإخوتها ليقفوا إلى جانبها، ولكنهم رفضوا التدخل في قضية تتعلق بشرف عائلة أخرى، وأخيراً ذهبت الأم لتقدم بلاغاً في مركز الشرطة، حيث فُتح المحضر ولم يتم استدعاء أي طرف أو متهم، وبقيت القضية في أدراج المركز الذي يضم عشرات القضايا المشابهة التي تتعلق بالشرف.

ظاهرة صامتة

ليست سعدة الوحيدة في سبها التي تعرضت لهذا الجرم دون أن يتحرك أحد لرد اعتبارها، فـ”جرائم الشرف” في المدينة تحدث على مدار العام في ظل غياب كامل لجهاز قضائي يحمي النساء من فكر يجعلهن قرباناً لحماية وصون مايعتقده البعض إنه شرف العائلة.

يقول رئيس قسم التحقيق بمركز شرطة “القرضة” بسبها “أحمد شوايل” لـ”مراسلون” إن جرائم الشرف أصبحت أكثر حدوثاً بعد الاضطرابات الأمنية التي شهدها الجنوب مؤخراً، وأوضح أنه لا توجد إحصائية دقيقة لعدد جرائم الشرف.

ففي عام2011 سجلت ثلاث وعشرون حالة، ازدادت في عام 2012 إلى أربع وخمسين حالة، لتستقر في عامي 2013 و2014 على تسع وثلاثين حالة، وأوضح “شوايل” أن هذه الأعداد غير دقيقة، بسبب تحفظ الناس حول الإدلاء بشهاداتهم حولها، إضافة إلى أن أغلب قضايا الشرف يقوم الضابط المناوب بحلها بشكل”اجتماعي” بين أطراف القضية.

وبالطبع فإن المرأة تكون ضحية هذا الحل الاجتماعي، فيتم تقييد الجريمة ضد مجهول؛ أو يقال إن القتل كان بالخطأ، إلى غير ذلك من الحلول التي تجتمع في دفن حق المرأة المقتولة أو المنتهك عرضها.

يستطرد “شوايل” موضحاً أن القانون يكفل للمرأة التي يعتدى عليها على خلفية الاشتباه بشرفها أن تشتكي ضد من اعتدى عليها، ولكن في ظل غياب التوعية بحقوق المرأة وغياب الجهاز القضائي في الجنوب وغياب الأمن؛ فإن الناس لا يعيرون اهتماماً لهكذا قوانين.

قانون فضفاض

“القانون الليبي يجرم قتل المرأة على خلفية الاشتباه بشرفها” يقول المحامي والمستشار القانوني بدائرة محكمة سبها الابتدائية ناجح عبدالله، ولكن توجد “ثغرات قانونية” يستغلها البعض حسب قوله، مثل تخفيف عقوبة الزوج الذي يقتل زوجته إذا ماوجدها ترتكب فعلاً مشيناً؛ وكذا الأخ والعم والأب، كل هؤلاء تخفف عنهم عقوبة القتل بحجة الشرف.

ويضيف عبد الله أن هناك “تقبلاً لدى الرأي العام لهذا النوع من القتل المتعلق بالشرف”، ففي مدينة ذات بيئة منغلقة إلى حد ما، تظل لهذه الأفكار ما يساندها في الموروث الثقافي، حتى وإن تعارضت مع صحيح الدين.

يزيد  المحامي قائلاً: “إن تعاليم الإسلام ترفض أن يقتل الرجل زوجته أو ابنته أو أخته تحت أي ظرف”، حيث يترك أمر العقاب في حال ثبوت الجرم للقضاء وللدولة التي تقيّم أبعاد هذه القضايا.

وإن كانت الجهات القضائية في حالة مبروكة فضلت الصمت على الموضوع، وحبسه في أدراج مركز الشرطة مكتفية بالحل العرفي الذي ينطوي على جريمة قتل.

خوف وانغلاق

وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية بالمنطقة الجنوبية سميرة الجداوي أكدت لـ”مراسلون” أن انغلاق المجتمع يمنع الكثير من النساء المعنفات أو اللواتي تعرضن لقتل بناتهن أو أخواتهن على خلفية جرائم شرف من أن يأتين لهيئة الشؤون الاجتماعية.

وأن كل ما تقوم به الهيئة في الوقت الحالي هو وضع برنامج للدعم النفسي لهؤلاه النساء، “وهو أقصى ماتستطيعه”، تقول وكيل الوزارة.

الجداوي اتفقت مع شوايل على أنه لا توجد أية إحصائيات دقيقة حول هذه الجرائم، وأضافت أن الانفلات الأمني والتحفظ الذي تمارسه الأسر في المجتمع الليبي يمنع ظهور الضحايا ويخفي قضاياهن للأبد.

هذا المجتمع تقول مبروكة إنه لم يتعاطف معها، بل رفضها مع ابنتيها الأخريين معتبرينهن عاراً لا ينبغي الاقتراب منه، ولم يبق إلا القلة على تواصل معها وفي نطاق ضيق، وتضيف أن عدداً من المتعلمين والمثقفين من محيطها الاجتماعي تنكروا لقضيتها ولم يتعاطوا معها بتاتاً.

فاكهة المجالس

توجد في سبها وحدها أكثر من مائة وثمانين مؤسسة مجتمع مدني، تتوزع أعمالها حول نشاطات كثيرة، ولكن جميعها لم تتطرق إلى قضايا جرائم الشرف، بل إن حتى التوعية في هذا المجال معدومة تماماً.

في الوقت الذي يكتفي بعض النشطاء بإبداء تعاطفهم مع بعض الحالات التي يسمعون عنها، دون أن يتحول هذا التعاطف إلى إثارة القضية ومحاولة تنبيه الناس لما يرتكب بحق نساء جلهن يقتلن بدم بارد بعيداً عن أعين الدولة والقانون والقضاء؛ ترى عضو الاتحاد النسائي بالجنوب فادية معيقيل في حديثها مع مراسلون، أن أغلب من يعملون في مؤسسات المجتمع المدني لا يملكون من الوعي ما يؤهلهم لتبني قضايا النساء المعنفات وضحايا جرائم الشرف.

تقول معيقيل إن قضايا هؤلاء النساء تصبح “حديث المجالس وفاكهة سهرات الرجال، ولكنها تموت تماماً في أجندة المؤسسات المدنية والندوات الثقافية”، وأشارت إلى أنهم كاتحاد نسائي يعمل على قضايا المرأة في الجنوب بالذات؛ فإن لديهم تحفظات على مواد كثيرة وردت في القانون الليبي حول هذه الجرائم، كما تلوم خطباء المساجد على عدم قيامهم بالدور المتوقع منهم في توعية الناس بهذه القضية وأبعادها.

حتى وقت إعداد هذا التقرير ظلت مبروكة تطرق أبواب المحامين ومراكز الشرطة ومنظمات حقوق الإنسان، باحثة عن بصيص أمل يرد اعتبار ابنتها، إصرار لم يثنها عنه تعرضها للتهديد المباشر من قتلة ابنتها، فهل تنجح في مساعيها وسط غياب الدولة والقضاء وسطوة التجاذبات السياسية، التي تجعل قضايا الشرف في آخر اهتمامات الساسة والمؤسسات المدنية؟