لو سألت شريفة عن الانتخابات التشريعية التي ستجرى بعد أقل من شهر في تونس، لنظرت إليك باستغراب دون أن تقدم أي إجابة مقنعة تعكس فهمها لمعنى كلمة انتخابات.
قد تنكّس رأسها لبرهة لتستعرض في ذهنها كل الكلمات المشابهة التي تعرفها، علّها تظفر بمعنى تفهمه لهذا المصطلح الغريب. لكن شريفة تعجز عن إيجاد معنى لكلمة انتخابات.
دون هوية
لو سألت شريفة عن الانتخابات التشريعية التي ستجرى بعد أقل من شهر في تونس، لنظرت إليك باستغراب دون أن تقدم أي إجابة مقنعة تعكس فهمها لمعنى كلمة انتخابات.
قد تنكّس رأسها لبرهة لتستعرض في ذهنها كل الكلمات المشابهة التي تعرفها، علّها تظفر بمعنى تفهمه لهذا المصطلح الغريب. لكن شريفة تعجز عن إيجاد معنى لكلمة انتخابات.
دون هوية
نعم، شريفة لا تعرف معنى الانتخابات ولا معنى كلمة ديمقراطية ولا أحزاب. رغم أنها في نهاية العقد السادس من عمرها، فهي لا تفقه في أمور السياسة شيئاً. ليس بسبب قصور ذهني أو عقلي، ولكن لأنها لا تملك وثائق ثبوتية ولا هوية قانونية. هي لم تنتخب قط ولن تنتخب في المستقبل، لأنها ببساطة لا تملك بطاقة تعريف وطنية مثلها مثل 300 ألف تونسية محرومة قسراً وبالقانون من حق المواطنة.
هذه الحقيقة المرعبة التي أقضّت مضجع الحقوقيين في تونس وصدمتهم، اعترف بها علناً رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات شفيق صرصار يوم 12 سبتمبر/أيلول الماضي على هامش ندوة صحافية عقدها المعهد العربي لحقوق الإنسان ومقرّه تونس، تحت عنوان “المرأة التونسية كفاءة وطنية”. عنوان باهر لا يعكس بالمرة واقع آلاف النساء المخيّب لآمال الجميع.
شريفة لا تدرك أنها صنّفت تلقائياً ضمن 300 ألف تونسية خارج السجلات الرسمية للدولة، لا يؤدين واجباتهن تجاه الدولة ولا يتمتعن بحقوقهن المدنية. إنهن مواطنات من الدرجة الثانية يعيشن على هامش الأحداث، ويقيمن في مناطق نائية ومنسية، في الجبال وفي أرياف المناطق الحدودية غرب تونس.
حياة بدائية
فشريفة مثلاً، تعيش في إحدى القرى المعزولة بأعلى جبال عين دراهم في شمال غربي تونس. نادراً ما تبتسم، كلما نظرت إليها تشعر بذلك الحزن العميق المرتسم على ملامحها. حزن يختفي بين التجاعيد التي بدأت تلتهم جبينها ووجنتيها.
تعيش مع ابنها علي، وهو شاب في أواخر الثلاثينات، يعاني من إعاقة ذهنية وجسدية. ترعاه بصبر وجلّد وتقوم بكل شؤونه. ورغم إمكانياتها التي تكاد تكون منعدمة، فهي تحرص على أن لا ينقصه شيء، إلى درجة أنها اخترعت لأجله وبالاستعانة بأدوات تقليدية كألواح الخفاف وبعض الإطارات المطاطية كرسياً متحرّكاً “بدائياً” من نوع خاص.
تدفع شريفة الكرسي المتحرك بمحاذاة الوادي الذي تقطن على مشارفه، ليمتّع بصره بجمال الطبيعة، ثم ليكون عينها التي تحرس بقراتها ونعجاتها وعنزاتها، ثروتها الوحيدة التي توفّر لها الحليب والقديد (اللحم المجفف) والجلد، الذي تصنع منه فراشها وغطاءها في ليالي الشتاء الطويلة والقاسية.
في المساء تعود شريفة إلى الكوخ الذي تقطنه، وهي تدفع عربة علي “العجيبة”، وتسير أمامها ماشيتها التي اعتادت الطريق.
في كوخها الفقير لا تملك شريفة مذياعاً ولا جهاز تلفزيون، فهي منقطعة عن العالم الخارجي تماماً. تحضّر بنفسها خبزها وتأكل مع ابنها من حديقة خضرواتها الخاصّة، فهي لا تذهب إلى السوق ولا تقصد محلات البقالة.
لقد عزفت عن الدنيا وانزوت بعيداً عن الناس مذ هجرها زوجها وتركها ليتزوّج بأخرى مستغلاً عقد الزواج العرفي الذي بينهما باعتباره لم يدرج أبداً في السجلات المدنية للدولة بعد الاستقلال سنة 1956 حين سعت الحكومة لتصحيح وضع عقود الزواج الشفوية والعرفية حينها.
ذنب من؟
عندما أعلنت كتابة الدولة لشؤون المرأة والأسرة أواخر شهر يونيو/حزيران الماضي عن إطلاق حملتها لحثّ النساء الريفيات على التسجيل في الانتخابات، كانت تدرك جيّداً وضع الـ 300 ألف امرأة من اللواتي لا يملكن بطاقة تعريف وطنية.
وحتى بعد أن أعلن شفيق صرصار أن هيئة الانتخابات وضعت خطة بالتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية وكتابات الدولة ووزارة الداخلية لحل مشكل الناخبين الذين لا يملكون بطاقات تعريف وطنية، فإن الوضع لم يتحسّن نظراً لوجود الأغلبية الساحقة من هؤلاء في مناطق نائية وفي قرى وتجمعات سكانية معزولة ولا تتوفّر حتى طرقات معبّدة للوصول إليها.
ورغم أن هدف الهيئة هو استخراج هويات وطنية لهؤلاء وحثهم على التسجيل في الانتخابات، إلاّ أنها كانت مجهودات خجولة لم تحقق نتائج تذكر.
عندما تسأل شريفة عن الأحزاب تهز برأسها دون مبالاة، وكأن الكلمة دون معنى، ولكن الأحزاب التي تتسابق اليوم على حشد أصوات الناخبين بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لم تبالِ بوضع شريفة ولا بحالة غيرها من آلاف النساء ذوات الحالات المشابهة.
لم يصدر ولو بيان سياسي يتيم لأي حزب يندّد بتقاعس الدولة في اتخاذ إجراءات عاجلة لمصلحة أولئك غير المدرجين بالسجلات المدنية.
كما أن الأحزاب التي تحشو برامجها بالشعارات عن المواطنة والحقوق، لم يقدّم أي منها منذ الثورة وإلى الآن أي تصوّر متكامل لفك عزلة المناطق الحدودية والتجمعات السكانية في الغابات والجبال النائية، لتستمر حياة آلاف البشر بطريقة بدائية.
وتقول منظمات حقوقية تونسية إنه من المخجل لدولة، طالما رددت أنها منحت النساء حقوقهن منذ نهاية الخمسينيات ومع مطلع الاستقلال، أن تجد نفسها اليوم في مواجهة حقيقة قاتمة متمثّلة في 300 ألف امرأة دون هوية وطنية.
وحتى الأحزاب التي ترفع شعار التناصف في القائمات الانتخابية لم تقدّم حلولاً لوضع آلاف النساء الريفيات اللواتي يعانين الأمرين في كسب قوتهن ومساعدة أزواجهن.
لتبقى شريفة وآلاف النساء غيرها، بلا هوية وبلا وطن فعلي، نساء لا يربطهن بالدولة إلاّ رقعة الجغرافيا، لكن واقع الأمر يقول إنهن مصنّفات خارج التاريخ وخارج الأحداث وخارج الدولة.