بدد المهدي جمعة الشكوك حول ترشحه للانتخابات الرئاسية القادمة؛ إذ أعلن في كلمة توجه بها إلى الشعب التونسي مساء الأربعاء 17 أيلول/سبتمبر أنه ملتزم أخلاقياً بعدم الدخول في اللعبة السياسية، وأنه ما زال عند وعده للتونسيين بإنجاح المسار الانتقالي، بعد أن عاش البلد لأكثر من أسبوع على وقع السؤال: هل سيكون جمعة المفاجأة التي لم يتوقعها أحد ويترشح للرئاسة؟

بدد المهدي جمعة الشكوك حول ترشحه للانتخابات الرئاسية القادمة؛ إذ أعلن في كلمة توجه بها إلى الشعب التونسي مساء الأربعاء 17 أيلول/سبتمبر أنه ملتزم أخلاقياً بعدم الدخول في اللعبة السياسية، وأنه ما زال عند وعده للتونسيين بإنجاح المسار الانتقالي، بعد أن عاش البلد لأكثر من أسبوع على وقع السؤال: هل سيكون جمعة المفاجأة التي لم يتوقعها أحد ويترشح للرئاسة؟

سؤال أقضّ مضاجع السياسيين في مشهد سياسي متوتر ومشحون، في غمرة الصراع السياسي الحاد بين أكبر حزبين في البلاد، حركة النهضة التي تناضل بشراسة للعودة للحكم والسلطة، ونداء تونس الذي يتهمه ناشطون بأنه يعيد رموز نظام بن علي إلى بوتقة السياسة من جديد.

رجل المفاجأت

ومع ذلك، الكل يطرح الأسئلة، يخمّن، يترقب ويحبس أنفاسه في انتظار ما ستحمله الساعات الأخيرة قبل إغلاق باب الترشّح لمنصب الرئيس في 22 أيلول/سبتمبر. هل سيكون رئيس الحكومة المؤقت هذه المرة مفاجأة اللحظات الأخيرة، بعد أن كان أيضاً مفاجأة الحوار الوطني عندما سحب البساط من تحت أقدام جميع المرشحين آنذاك وانتزع منصب رئيس الحكومة في الربع ساعة الأخير ليترك كل المرشحين للمنصب فاغري الأفواه.

وكان تسريب خبر اعتزام المهدي جمعة، المستقل سياسياً، خوض غمار السباق الرئاسي، قد نزل كالصاعقة على الـ 51 شخصية سياسية حزبية ومستقلة التي أعلنت نيتها الترشّح لنفس المنصب، ولم تحظ بالقبول إلا 7 شخصيات سياسية منها، بعد حصولها إما على تزكية مباشرة من 10 آلاف مواطن تونسي أو دعم عشرة نواب من المجلس التأسيسي.    

ورغم نفيه المعلن في السابق لذلك عندما صرّح بأنه “لن يقبل بإعادة تكليفه مرة جديدة لرئاسة الحكومة” واعتذاره رسمياً عن الترشّح لمنصب رئاسة الجمهورية، فإن مهدي جمعة لا يستطيع التنصّل من أمنيته في أن ينتقل من قصر الحكومة بالقصبة إلى قصر الرئاسة بقرطاج، فللسلطة والحكم غواية وإغراء لن يستطيع رئيس الحكومة مقاومته، وهو الذي اعتاد طوال الثمانية أشهر الماضية التحرك تحت الأضواء وعلى السجاد الأحمر.   

الشخصيات الوطنية والنقابية والحقوقية التي أقنعت جمعة بالترشح في البداية وأغرته بكرسي الرئاسة – ومنها حركة النهضة صاحبة مبادرة الرئيس التوافقي الذي تنطبق مواصفاته مصادفة مع شخصية جمعة – فشلت هذه المرة في جعله رئيساً للجمهورية يوم 23 تشرين ثان/نوفمبر القادم بعد أن نجحت سابقاً في إيصاله إلى قصر الحكومة بالقصبة.

حركة النهضة التي فكّت الارتباط نهائياً مع الرئيس الحالي محمد منصف المرزوقي، بخاصّة وأن زعيم الحركة التاريخي راشد الغنوشي والذي طالما دافع عن “صديقه” المرزوقي لم يجد حرجاً اليوم في وصف رئاسة الجمهورية بأنها تحوّلت إلى “خرقة بالية” ، وبذلك تكون النهضة تخلت عن حليف الأمس وهي تبحث اليوم عن حليف جديد، يشترط فيه الغنوشي أن يكون “صديقاً للنهضة”.

القيادي في حركة النهضة، ووزير الصحة السابق في حكومة العريّض، عبد اللطيف المكي أكّد أن “رئيس الحكومة الحالي المهدي جمعة لديه مواصفات رئيس تونس التوافقي المقبل”، وأنه “إذا قبل بالترشح للرئاسة كمرشح توافقي، فالنهضة ستدعمه بكل قوة لأنه يحظى بدعم وأثبت استقلاليته”.

سحب البساط من تحت أقدام جمعة

ترشّح جمعة للرئاسة لم يثر إشكالاً قانونياً أو دستورياً في تونس بقدر ما أثار إشكالاً أخلاقياً، فالرجل الذي ظفر بمنصبه رئيساً للحكومة جاء بالتوافق بين مختلف الأحزاب بعد أزمة سياسية عاصفة أعقبت اغتيال عضو المجلس التأسيسي محمّد البراهمي في 25 تموز/يوليو 2013 وفي إطار الحوار الوطني الذي قادته أكبر أربع منظمات في البلاد: وهي اتحاد الشغل ومنظمة الأعراف والهيئة الوطنية للمحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.

هذا الحوار انتهى إلى اختيار رئيس حكومة بالتوافق مكلّف بتطبيق بنود وثيقة “خارطة طريق سياسية”، ومن أبرز بنود هذه الوثيقة عدم ترشّح وزراء حكومة الكفاءات للانتخابات بهدف المحافظة على حيادهم واستقلاليتهم، خاصّة وأن هذه الحكومة ستشرف على الانتخابات.

لكن ترشّح جمعة (لو حصل) يعني خرق خارطة الطريق في جانبها الأخلاقي، حيث اعتبر الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل سامي الطاهري أن “ترشح جمعة للانتخابات الرئاسية هو عدم التزام أخلاقي بتعهده وفيه انتحار سياسي له لكونه خرق أول عهد له مع الشعب”. كما وجه اتحاد الشغل تهديداً لجمعة من خلال الطاهري بقوله: “وفي صورة تمسكه بترشحه فإن الانتخابات لن تقع وسيحدث خلل كبير في البلاد وتململ بين الأحزاب”.

وقد سبق ذلك تصريح لبوعلي المباركي الأمين العام المساعد في اتحاد الشغل لموقع مراسلون قال فيه إن له “ثقة أقرب إلى اليقين بأن الرئيس الحكومة المؤقتة مهدي جمعة سيتراجع عن نية ترشحه حتى لا يخل بالتزاماته الأخلاقية أمام الشعب التونسي الذي وعده بأن الحكومة ستشرف على ديمقراطية ونزاهة الانتخابات، وأنها ستتخذ نفس المسافة من كل الأحزاب وأن لا طموحات سياسية لها”.

الأحزاب تتنفّس الصعداء

لم تُخفِ بعض المصادر أن الموقف الحاد، الذي اتخذه اتحاد الشغل ضد رغبة جمعة في الترشّح للانتخابات الرئاسية، كان بسبب ضغط الأحزاب الكبرى، باستثناء النهضة، وتلويح بعضها بمقاطعة الانتخابات في حال أصرّ جمعة على المضي قدماً في ترشّحه.

خصال عديدة تجعل من جمعة خصماً سياسياً في الانتخابات القادمة تصعب منافسته وربما التغلّب عليه، فرجل الدولة الشاب يحوز على إعجاب التونسيين ويعتبرونه نجح في أداء مهامه إلى حدّ ما. كما أنه لا يزال في قمة عطائه، إذ لم يتجاوز بعد الاثنين وخمسين عاماً، مقارنة بالمرشحين الآخرين.

القيادي في حركة نداء تونس وعضو المجلس التأسيسي عبد العزيز القطي هو من فجّر القنبلة السياسية عندما صرّح أن حركة النهضة تقوم بحملة لجمع التزكيات والتوقیعات من أجل ترشح مهدي جمعة للانتخابات الرئاسیة القادمة، وهي بصدد تقديمه على كرسي الرئيس التوافقي.

وفي تصريح لموقع “مراسلون” أكّد أن حزب نداء تونس، إذا ما ترشّح مهدي جمعة،  سيتصدّى “لهذا الانقلاب الذي تعدّه حركة النهضة وتهدف من خلاله إلى نسف قيم الديمقراطية وتريد فرض وصايتها على الشعب من جديد”.

وأضاف القطي “مهدي جمعة غير مستقل سياسياً وغير محايد .. هم يخشون من فوز ساحق للباجي قايد السبسي (رئيس نداء تونس) في الانتخابات القادمة لذلك اعتقدوا أن الزج بجمعة في مضمار السباق نحو قصر قرطاج سيعيق تقدم السبسي وهذا غير صحيح .. الباجي قايد السبسي سيكون رئيس تونس القادم”.

القيادي في تحالف الجبهة الشعبية زهير حمدي بدوره وفي تصريح لمراسلون قال: “لئن لم يكن هناك مانع دستوري أو قانوني يحول دون ترشح المهدي جمعة للانتخابات القادمة فإن  ذلك لا يعني أنه سيترشّح، فهو ملتزم أخلاقياً أمام الشعب التونسي، وأعتقد أن عدوله عن الترشّح في آخر لحظة هو عين الصواب .. فمن الأحسن لجمعة أن يغادر الحكم بعد الانتهاء من الانتخابات حفاظاً على مصداقيته واحترامه أمام الرأي العام”.

انتهى حلم جمعة في بلوغ قصر قرطاج قبل أن يبدأ واضطر لاحترام التزاماته الأخلاقية، لكن الخروج من قصر الحكومة بالقصبة بعد الانتخابات التشريعية ليس نهاية المطاف، ولكنه بداية لمسيرة سياسية ولسنوات قادمة من السلطة ربما.