اختلفت موازين القوى بعد ما يزيد على ثلاث سنوات من عمر الثورات العربية، واتخذ الاسلام السياسي أشكالا أكثر تطرفا، وظهرت داعش لتستعيد مقولة انقلب السحر على الساحر، وصار للصراع الفلسطيني الاسرائيلي بعدا جديدا.

اختلفت موازين القوى بعد ما يزيد على ثلاث سنوات من عمر الثورات العربية، واتخذ الاسلام السياسي أشكالا أكثر تطرفا، وظهرت داعش لتستعيد مقولة انقلب السحر على الساحر، وصار للصراع الفلسطيني الاسرائيلي بعدا جديدا.

فواز طرابلسي، المفكر والكاتب اللبناني والمناضل اليساري العتيد الذي كان من أبرز قيادي “حركة لبنان الاشتراكي” في السبعينات وله اسهامات كمؤرخ واستاذ جامعي مثل كتابيه المهمين “الديمقراطية ثورة” 2012 و”الماركسية وبعض القضايا العربية” 1985، واكب الثورات العربية منذ بداياتها وكان لها محللا مميزا، واليوم يسمي ما يحدث من وأد الثورات “ردة” ويعتبر أن الحاجة إلى تغيير اقتصادي وابتكار أشكال خلاقة للاحتجاج هما اللذان سيقودان إلى الطريق.

بعد ثلاث سنوات عاد الغليان من جديد إلى المنطقة: انقلاب في مصر، واشتعال للحرب الأهلية في ليبيا وفي سوريا، وتقسيم في العراق. هل تحول بنظرك الربيع إلى كابوس العربي؟

رفضت لفظ الربيع العربي لعدة أسباب، أولا لمقارنة البلدان التي حدثت بها الثورات ببلدان أوروبا الشرقية وذلك غير صحيح، وثانيا لأن هذا الوصف يتعارض مع ظاهرة المفاجأة التي تشمل خمسة أو ستة بلدان عربية، وثالثا لأن في لفظة الربيع يسهل اللعب بالكلمة ويضيع البحث.

الثورات في كل من تونس ومصر وسوريا واليمن وليبيا ليست بالأمر السهل، فلا توجد ثورات سلمية، لكنها تكون حسب رد فعل السلطات عليها. فحشد الجماهير ليس عملا سلميا إلا إن كانت السلطة على استعداد لتقديم تنازلات. وكان الاستثناء الوحيد لهذه الحالة هو المغرب، حيث قامت السلطة باحتواء الحركة التي لم تكن بأي حال بأهمية الحركة المصرية أو الليبية. كما أن العنف له علاقة وثيقة بهذا الانفجار العفوي –بالمعنى السلبي والإيجابي- فهو عفوي لأنه حشد عشرات الملايين دون أهداف واحدة اللهم ما عبرت عنه الثورات من مشكلات القمع والفساد، حيث كان من الملفت أن تطالب الخمس أو الستة بلدان بنفس المطالب في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية فضلا عن الكرامة الانسانية.

ألا يوجد هنالك أمل في سيرورة الثورات أو الانتفاضة التي تتخذ شكل موجات ثورية متتالية حتى وإن كانت متباعدة ؟
لا أقول أن هذه الثورات لها فاعلية طويلة المدى، لكنها تعرضت لردة، تعددت الردات وطفت قوى المجتمع القديم على السطح من جديد وكل أنواع التدخلات الخارجية، على غرار دور الولايات المتحدة التي سعت للتضحية برأس النظام من أجل الحفاظ على النظام، سواء كان ذلك في مصر أو في اليمن.
فالأنظمة في تعريف هذه القوى قائمة على السلطة الأمنية والعسكرية، واقتصاديا على أنظمة مطلوب أن تلتزم بالمؤسسات المالية الدولية، أو ما يسمى بالنيوليبرالية.
هناك بالطبع ردة في البلدان المعنية في شكل حرب أهلية، إذ لجأت الجماهير للرد بالعنف على السلطة في سوريا مثلا، أو جزئيا في اليمن، ولم يكن هذا حال مصر أو تونس حيث كان السعي الرئيسي هو المحافظة على النظام القديم. وعلى عكس ما يقال عن أمريكا أنها عملت الفوضى الخلاقة، الحقيقة أن الجماهير هي التي صنعت هذه الفوضى، الجماهير التي تطمح في المساواة والعدالة أمام الفروق الطبقية.
نحن أمام ردة counter revolution تتخذ أشكالا مختلفة. ففي بعض البلدان أمكن الوصول إلى البرلمان عن طريق الانتخابات، وتمكين الاسلام السياسي، مثل حالة اليمن. كما أنه قوة رئيسية في ليبيا. أما مصر فجربت حظها لمدة عام قبل أن تتخلص منه، وصار هناك توازن جعل الجيش يطرح نفسه بصفته المنقذ، ومن وراءه طبقة ما يسمى بالفلول، أما في تونس فهناك توازنات بين حزب النهضة وخصومه.

هل هناك رهان في المستقبل، هل لا زال هناك “أمل لا شفاء منه”، كما عنونت أحد كتبك؟
لا يوجد رهان، العنف هو قوة الثورات، والتهديد الذي أحدثته للأمن الاقليمي استدعى ردود فعل عنيفة. هناك قسم إقليمي حاول استيعاب معطيات الواقع مثل الأنظمة الخليجية. لكننا نكتشف إلى أي مدى هذه الأنظمة تحظى بشرعية دولية، فما خسرته الأنظمة العربية من ثقة الجماهير تم استعادته عن طريق الدعم الخارجي. فلا أحد يتحرك في هذه الأنظمة دون موافقة دولية واقليمية.
اليوم ينبغي الاعتراف بأن القوى التي خرجت وناضلت وامتلكت القدرة على الخيال، وعلى الرؤية والحماس والتفاني، لم يكن لديها التنظيم لمواجهة القوى العسكرية من ناحية، ومن ناحية أخرى تجذر الاسلام السياسي الذي يتيح تنظيمات جهادية ليست إلا أحد الوجوه الوحشية للردة. فالثورات تريد التحديث والحرية، أما هذه القوى فتريد انهاء الدولة العربية بطابعها المدني والقائمة نظريا على الدساتير، لتحل محلها بما يسمى الحاكمية وتنصيب الناس لأنفسهم.
أعتقد أن الحاجة للتغيير الاقتصادي سيكون رد فعل على الردة.
فالردة تستفز قوى ضخمة قادت ونزلت الشارع، مطلوب منها اليوم أن تتبصر وتعد نفسها بطريقة أكثر تواضعا، فقد انتهى زمن احتلال الميادين. ففي حين نجحت تونس ومصر، كان أول شيء فعلته سوريا أن أطلقت النار على أول تجمع شهدته.
المطلوب اليوم اعادة الاعتبار لأشكال خلّأقة، فهذا التغاضي عن أسباب الثورات هو الأرضية التي لم تستقر أمام أنظمة تمارس نفس النمط في الكذب والانصياع المتزايد للنيوليبرالية.

كيف تنظر لخريطة الاسلام السياسي اليوم، من الاخوان في مصر وصعود نجم داعش وليبيا والجماعات التكفيرية في تونس، هل ما يحدث هو نهاية أم صحوة جديدة للإسلام السياسي؟
أشاركك نفس التساؤل، ففي ظل حكم الاخوان المسلمين في مصر، صار السؤال هو هل ما سمي بالإسلام المعتدل سيشجع على إسلام جهادي أم يقطع الطريق عنه؟ بدا في بعض الأحيان أنه قطع الطريق بالنظر إلى الاسلام الجهادي كظاهرة دينية فقط، فضلا عن الاثم الذي ترتكبه السياسة الأمريكية صاحبة تكبيل العالم تحت ما يطلق عليه الحرب الكونية. من يريد التعاطي مع الاسلام السياسي عليه أن يتسائل هل الحرب عليه هي الوسيلة الوحيدة للتخلص منه، الحرب كانت في افغانستان وفي باكستان وفي العراق، والشبكات الارهابية الجهادية تحولت إلى جيوش. داعش هي ابنة الجهادية العراقية ضد الاحتلال الأمريكي، وتعمل اليوم تحت قيادة ثلاثة ضباط من أتباع صدام حسين الذين قادوا الحرب ضد الاحتلال الأمريكي.
أضم تساؤالي لسؤالك، وأشك أن الاجابة هي الاسلام المعتدل، ومن جهة أخرى لا شك أن داعش والاسلام الجهادي يفرض نفسه بالقوة ويستدعي أحيانا ردودا عسكرية وعنيفة. إذا أخذنا مثال احياء داعش بالعراق نكتشف أن احتكارحزبين شيعيين (الدعوة والمجلس الأعلى) للسلطة بدعم أمريكي إيراني بعد انسحاب الاحتلال الأمريكي، بالتحالف مع الأكراد ثم بحل التحالف، وبغض النظرعن اشراك جماعة من جماعات السنة وتحميل سنة العراق جريرة جرائم صدام، فقد جرى الرد على ذلك سلميا من خلال عامين من الحراك السلمي بالمحافظات المختلطة والسنية تطالب برفع قانون مكافحة الارهاب الذي يميز العراقيين، وكان رد المالكي على هذه الحركات الشعبية مزيد من القمع.

كان الاحتلال الأمريكي قد نجح بسحب القسم الأكبر من العشائر من تأييد سلطة داعش، التي كانت آنذاك معروفة بالقاعدة، وشكل الأمريكان قوات الصحوة، من 150 ألف من أبناء العشائر انسحبوا وقاتلوا ضد تنظيم القاعدة ، وبالتالي حدث انحسار شديد لتنظيم القاعدة إن لم يكن أفول. إلا أن الحكم العراقي رفض ادماج ال150 ألف هؤلاء داخل الجيش العراقي للحفاظ على سيطرته على الجيش. فكان هذا الجيش الفاسد نتاج وضع ما بعد الاحتلال الأمريكي، وهو الذي انهار أمام تحالف داعش والقبائل المسلحة والبعثيين السابقين وعدد من أفراد المعارضة مثل الطريقة النقشباندية.
أظن أن هناك أجوبة على موضوع الجهادية بالأحرى سياسية اقتصادية اجتماعية، ليست صدفة أن الجهاديين ينمون بالمناطق المهمشة التي أهملتها حداثة الأنظمة أو هي قبائل وعشائر تم تسليحها وشاركت في تهريب السلاح حينما كان مطلوب تهريب الجهاديين، فجهاديو داعش هم الذين قاتلوا في العراق ثم توزعوا بعد ذلك.
هناك أجوبة اقتصادية اجتماعية ديمقراطية، لا يوجد جواب مبسط فالجهادية هي التطرف والجواب عليها هو الاعتدال، ديمقراطية من خلال إشعار كل مكونات المجتمع بأن لها مكان في العملية السياسية.

هل ما حدث خلال الثلاثة سنوات الأخيرة غير من التوازنات الدولية، إذ لم يعد الصراع قاصرا على محور سني تغذيه أمريكا في مقابل محور شيعي تقوده إيران وحزب الله؟ هل صار السعودية لاعبا رئيسا اليوم في المعادلة وفي تغيير مناطق الصراع؟

العنصر السعودي لم يكن أبدا خارج الحلبة. الجديد أن قسم من المنطقة أصبح سعودي إيراني، فمن الملفت أن عند مباشرة المفاوضات الايرانية الأمريكية نجد أننا أمام معطى جديد قلق. ما يشغل الولايات المتحدة في المقام الأول هو حسم موضوع النووي الايراني وهذا ما يفسر عدم الحماس مطلقا للتغيير في سوريا  على عكس ما هو متصور، وتشجيع بعض الأطراف السورية أو التركية على تزويد السلاح. الفيتو الكامل على أي سلاح نووي في المنطقة يغير في موازين القوى والاتكال على الدور الروسي كان هو المعطى الرئيسي، بدت الولايات المتحدة إذن في تانجو غريب مع إيران، صار أكثر تعقيدا مع دخول عنصر داعش في العراق، بمعنى أن هناك شهوة ايرانية للتدخل العسكري، مثل رغبتهم في دخول العراق بذريعة القضاء على داعش.
فالنزاع السعودي الإيراني يفسر كثيرا حركة داعش، ورغم أن الملك السعودي انتقد من طرف شفتيه قطر، إنما لا تزال داعش تمثل تحدي لسلطة عراقية تحظى بتأييد ايراني أمريكي. والدليل أن الولايات لم تتخذ أي موقف في أمر تنحي أوعدم تنحي المالكي عن ولاية ثالثة.
لا شك  أن هذا النزاع سيزيد من العنف، وينطبق هذا على العراق وعلى اليمن، حيث لايران امتدادات بوجه النظام في شرق البلاد وجنوبها. النقطة الثانية أن الجيوبولوتيكا اليوم تطغى على مصالح الناس في منطقة بحاجة ماسة إلى التغيير والحرية، مع الأخذ في الاعتبار عنصر الأمن، والأمن أساسه اسرائيل، الذي يتجلى اليوم في حربها على غزة. فالكلام الكثير اليوم عن سايكس بيكو يسيء فهم السياسة الأمريكية، إن جوهر هذه السياسة هو الاستقرار، هو الحفاظ على القائم، أي ما جرى تكريسه بعد قيام دولة اسرائيل، ولا مساس به إلا وفقا لما يخدم اسرائيل وكل الاتفاقيات تدلل على ذلك.  

كان للإعلام دورا مخزيا في تغطية الحرب على غزة، كيف ترى دور المقاومة في الحرب الأخيرة، هل يمكن اعتبار الضربات العسكرية انتصارا قد ينعكس سياسيا على النجاح في كسر الحصار على غزة؟
اعلاميا جرى التشديد على الجانب الانساني المفجع والخسائر المدنية والاطفال، في مقابل عدم تقدير لما جري بالفعل، إلى درجة أن بعض الاعلام ردد أن اسرائيل ضربت غزة ردا على خطف المستوطنين الثلاثة، كالعادة يأخذ الاعلام بالسبق وتحريك الغرائز بعيدا عن أي محاولة للتفكير والتحليل. 

أعتقد أن القرار الاسرائيلي له ثلاثة اعتبارات، أولا كان رد فعل على تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية لأول مرة وكانت حركة حماس تمارس فيها دور التهدئة في الفترة الأخيرة.  ثانيا مستوى التسليح الذي وصلت إليه المقاومة والذي اكتشفته اسرائيل (والذي في حقيقة الأمر لا يتجاوز الدورالدفاعي) كان يتطلب بنظر يمين اسرائيل المتطرف انتزاعه. وثالثا ما يُنسب إلى حدود فلسطين البحرية أنها مليئة باحتمالات الغاز ووجود حماس أو أي سلطة فلسطينية تملك مجرد فرصة للاستقلال المالي هو أمر مرفوض. ففلسطين الضفة والقطاع مستعمرة اقتصاديا ولا منفذ لها على البحر وبالتالي على العالم، أي لا توجد موارد فعلية إلا موارد الجمرك التي تأتيها من اسرائيل والعائدات الفلسطينية والمساعدات الدولية.

اجابتي على سؤالك أن المقاومات تنتصر إذا بقيت على قيد الحياة، هذا ما كنا نقوله لحزب الله، أما بالنسبة للنتائج، أو الخسائر بالمعنى العسكري، وما تكبدته المقاومة فأننا لا نعرف حجم البنية التحتية العسكرية لحماس والجهاد، وواضح أنه لا خسائر على مستوى القيادات. من الواضح أن الجديد الذي صنعوه هو الأنفاق التي امتدت تحت مواقع اسرائيلية وقامت بعمليات عسكرية محددة.
يجب القول أن نسبة القتلى الاسرائيليين العسكريين للمدنيين 5 : 1 ولا نعرف نسبة العسكريين والمدنيين الفلسطينيين من جهاد وحماس الذين بلغوا حوالي 2000.
المقاومات تنتصر إن بقيت على قيد الحياة. الجريمة الاسرائيلية الكبرى أنها قلصت حجم الاعداد العسكري والمخزون في غزة. أما الأمل أن تنهي المفاوضات الحصار في غزة مما سيسمح بوجود سلطتين فلسطينيتين تبحثان عن حل سياسي، فإن ثقتي الكاملة أن اسرائيل لا تملك أي رغبة في التسوية. فكل هذه الدماء وهذا القتل لن تحاسب عليه اسرائيل.

الملفت أن الحركة الشعبية العالمية استجابت هذه المرة في غضبة غير مسبوقة عبر تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، وفي المقابل التفاوض العسير الآن ينبغي على الأقل أن يصل إلى رفع الحصار وفتح المعابر. اذا كان هناك عقابا للمقاومة، أعتقد أن مستوى الشجاعة والصمود عبرت عنه غزة.
أن يأتي هذا النصر بهذا المعنى في وضع من الردة العربية فهذا  يعطي فكرة عن اشكال الردة التي ارتدت ضد القضية الفلسطينية و تقليصها في مساعدات من بلدان النفط.  
ففترة حكم الاخوان الرهيبة في مصر والارهاب في غزة خلقت مناخ في الرأي العام المصري واستعدادات لدى السلطة الجديدة. ففي ظل الاخوان في الحكم أمكن أن ينشط الارهاب في سيناء، وهنا أيضا تظهر نفس الظروف لمنطقة عشائرية في الأطراف ناهيك عن العشائر في الأطراف، تشبه الحدود الشمالية الغربية لسورية، يكشف إلى أي مدى هذه المناطق صارت خارج هذه الدول، فضلا عن عنصر انهيار الريف، فالمؤكد أن أجواء الردة ارتدت ضد مصالح الشعب الفلسطيني.