حين تحل كارثة بحجم حريق خزانات النفط الذي اندلع في العاصمة الليبية طرابلس في 28 تموز/ يوليو الماضي، إثر الاشتباكات الدائرة حول مطارها الدولي، يكون عدد المصورين الذين يخاطرون بحياتهم للاقتراب والتصوير قليلاً جداً، ومن هنا تأتي قيمة الصور الملتقطة.
أكرم المقري – 41 عاماً – من هواة التصوير الفوتوغرافي، وهو رب أسرة، وأحد العاملين في مجال التوعية البيئية والسلامة بالمؤسسة الوطنية للنفط.
وكونه أحد العاملين بمجال النفط يدرك جيداً معنى اندلاع النيران في خزانات للوقود بها ملايين اللترات من البنزين والديزل والكايروسين والغاز.
استطاع المقري أن يوثق بعدسته ما لم يستطع المصورون الصحافيون والمصورون المحترفون الآخرون توثيقه، كون المستودع لا يمكن الدخول إليه إلا بتصريح مرور.
وأكرم تم تكليفه من قبل مؤسسة النفط ضمن لجنة الأزمة التي شُكلت على عجل لإخماد الحرائق، وبذلك كان شاهد العيان الأقرب على تلك الحادثة الرهيبة.
يذكر أن فرق الإطفاء ومعها متطوعون كانت قد نجحت في إخماد الحريق أكثر من مرة ليعاود الاندلاع مجدداً إثر تجدد الاشتباكات، وما زالت محاولات إخماده جارية حتى تاريخ كتابة هذه السطور.
“مراسلون” التقى أكرم المقري وكان معه الحوار التالي:
مراسلون: كيف عرفت بخبر اندلاع النار في خزانات النفط، وكيف كان وقع الخبر عليك؟
المقري: أثناء متابعتي لأخبار الحرب الدائرة في طرابلس والتي تخللها سماع دوي القذائف والصواريخ تنبهت لصوت صفارات الإنذار، وهو ما ينبئ بحدوث شيء أخطر من المعتاد.
مسرعاً صعدت لسطح منزلي لأستطلع الأمر، فوجدت ألسنة اللهب وعموداً من الدخان تتصاعد من خزانات وقود طرابلس، التي لا تبعد عن منزلي سوى بضعة كيلومترات، و يمكن رؤيتها بكل وضوح من أعلى سطح بيتي.
لم أصدق عيني لهول ما رأيت، فنزلت مهرولاً والتقطت كاميرتي وركبت سياراتي مسرعاً نحو المستودع وقلبي يعتصر. فأثناء توجهي لموقع الحريق كنت أتخيل حجم الكارثة البيئية التي ستحصل لو قدر الله أن تحترق هذه الخزانات المليئة بالوقود.
فهناك ثمانية عشرة خزان كل واحد منها يسع ما لا يقل عن ثلاثة عشرة مليون لتر من الوقود ومشتقات النفط، ولك أن تتخيل كم الدخان الذي سينتج والغازات السامة التي ستنبعث، هذا عدا عن الكارثة الإنسانية التي قد تحصل نتيجة لانفجار خزانات الغاز المسال، وعددها ستة خزانات تحوي مئات الآلاف من الأطنان.
كنت أفكر في حجم الكارثة والخسائر البشرية؛ كم سيكون عدد القتلى وعدد الجرحى، كم من منازل ستهدم نتيجة الإنفجار، كم من أموال ليبية ستهدر وتأكلها النيران، وكيف لهولاء الحمقى العبث بمصير أرواح البشر في ليبيا وبأموالهم وبمقدراتهم.
صف لنا لحظة وصولك لموقع الحريق؟
لحظة وصولي للموقع ذهلت من منظر اللهب الذي تمتد ألسنته عشرات الأمتار وتلفح حرارته الوجوه من على بعد عشرات الآمتار أيضاً، وقفت لوهلة أفكر من أين سأبدأ بعد أن وجدت نفسي ملقىً على عاتقي مسؤولية بهذا الحجم. خلال تلك اللحظات وجدت أن بعض الزملاء ورجال الإطفاء بدؤوا يتوافدون على الموقع بسيارات الإطفاء، لتكون بداية عمل جماعي منظم لفريق دام أسبوعاً كاملاً دون توقف إلا لأخذ قسط من الراحة، لساعات قضاها معظمنا في النوم ليتمكن من إستئناف العمل.
هل استطعت تصوير كل ما شاهدته أثناء عملية إخماد الحريق؟
مهما صورت لن أستطيع توثيق ما شاهدته عيناي من تضحية هؤلاء الرجال وصلابتهم ومعاناتهم لإخماد الحريق. كنت أتمنى لو أنني استطعت توثيق كل ما يحدث ليرى الليبيون والعالم حجم الكارثة والمأساة التي أوصلنا إليها هؤلاء المتقاتلون الذين تعميهم مصالحهم وسعيهم المحموم للسيطرة على مقدرات البلد والسلطة، وليرى الليبيون بأم عينهم كيف يقوم هؤلاء بهدر وحرق البنزين الذي تساوي قيمته عشرات الملايين من الدولارات، عدا الخزانات والمعدات والآليات وتكلفة مواد الإطفاء. كنت أحاول توثيق تلك المشاهد لتبقى للتاريخ.
منذ اللحظة الأولى التي عرفت فيها بأن النيران تشتعل بالخزانات التقطت كاميرتي لمحاولة توثيق ما يمكن توثيقه، رغم انهماكي مع الفريق في إدارة دفة العمل الجماعي والمساهمة في إطفاء النيران، إلا أنني كنت بين الحين والآخر وبالذات في أوقات استراحتي آخذ الكاميرا وألتقط بعض الصور.
ولكن رغم ذلك فإن الكثير من المواقف والبطولات ومشاهد انفجار كرات من اللهب الكبيرة لم أتمكن من تصويرها، إما لانشغالي بالعمل أو لبعد الكاميرا عني حيث كنت أتركها في مكان الاستراحة، في نهاية الأمر وجدت أنني التقطت المئات من الصور.
كم كان عدد الفريق الذي عمل على إخماد الحريق؟
علمت من الهيئة العامة للسلامة ومن المؤسسة الوطنية للنفط بأن عدد الذين شاركوا في مكافحة النيران منذ اشتعالها وعلى مدار أسبوع كامل ما يزيد بقليل عن الأربعمائة رجل من مختلف الآعمار ومن مختلف المدن الليبية.
منهم من كان موظفاً بإحدى شركات النفط ومتخصص في إطفاء الحرائق، ومنهم من كان يتبع الهيئة العامة للسلامة من رجال الدفاع المدني والمطافئ، ومنهم من المواطنين الليبيين الذين تطوعوا لتقديم المساعدة حتى وإن كان بتأدية عمل ثانوي كتوزيع مياه الشرب لمن يعملون على إخماد النيران، وقد وجدوا أنفسهم في ما بعد يساعدون في إخماد الحريق فعلاً.
هل ساهم مواطنون متطوعون في العمل؟
في الواقع لم يكن مسموحاً لغير المكلفين بالاقتراب من مكان الحريق، ولكن هناك حالات. مثلاً وجدت أحد الشباب يتوسل للزملاء من أجل المشاركة في إخماد الحريق. هذا الشاب طالب في كلية الهندسة بمدينة بنغازي التي فجرها المتشددون الإسلاميون منذ فترة، وهو منذ بداية الأزمة جاء إلى المقر وطلب التطوع فنصحه الموظفون هناك بالعودة إلى بيته لأن الخطر كبير خاصة وأنه غير متخصص ولا مدرب.
ولكنه لم ييأس و جاء إلى خزنات النفط في طريق المطار بسيارة أجرة في ظل الأوضاع المضطربة، وأصبح يتوسل إلى حرس البوابة أن يساعد حتى بتجميع الفضلات أو القمامة، و بالفعل دخل الموقع وكان له الكثير من المواقف الشجاعة أمام النيران ومساعدة الإطفائيين والأخصائيين، وكذلك قام بجمع كل الفضلات وأكثر القمامة هناك و أزال كل العوائق تقريباً لتسهيل عمل رجال الإطفاء.
لولا الجهود التي بذلت من قبل هؤلاء المتطوعين، وأيضاً تطوع ما يزيد عن عشرين مواطن من أصحاب الشاحنات ذوات الصهاريج الخاصة الذين واصلوا معنا العمل ليل نهار بجلب كميات كبيرة من المياه لموقع الحريق لما استطعنا تحقيق ما حققناه من نصر على تلك النيران.
كيف تمكنتم من السيطرة على تلك النيران؟
إطفاء الحريق في الخزانات المشتعلة استغرق عدة أيام، وكانت الطريقة الوحيدة الناجعة عدا رش النيران بالرغوة هي رش الخزانات المشتعلة والمجاورة لها بالماء لتبريدها حتى لا تلتهب من الحرارة العالية.
والأمر الذي ساهم في إخماد الخزان الأول أيضاً كان سحب ما أمكن سحبه من البنزين في صهاريج الشاحنات، حيث لا يوجد أي خزانات أخرى فارغة يمكن نقل البنزين إليها، ومع ذلك عادت النيران لتلتهب أكثر من مرة نتيجة توقف فرق الإطفاء عن العمل وانسحابهم من الموقع نتيجة كثافة الاشتباكات المسلحة.
فلولا توقفنا عن العمل وانسحابنا من الموقع كلياً لمرات عديدة بسبب الاشتباكات كنا تغلبنا على الحريق في وقت أقصر، إلا أن صواريخ الغراد كانت تسقط في المحيط، وإطلاقات الرشاشات المضادة للطائرات من عيار 14.5 ملم كانت تمر فوق رؤوسنا، وأصبحنا للأسف ندرك بأن هدف أحد الطرفين هو إصابة الخزانات عمداً ليجعلها تحترق وتحرق كل ما يحيط بها.
وهل شهدتم إصابة خزانات جديدة أثناء قيامكم بالعمل؟
نعم، أحد الخزانات من الجهة البعيدة عن الحريق أصيب بطلق ناري من العيار الكبير أثناء عملنا، ولكن لحسن الحظ لم تندلع فيه النيران. قمنا بإصلاح الثقب الموجود بالخزان والذي نتج عن إصابته بهذه الطلقة، وكان الإصلاح بطريقة بدائية حيث سدت الفتحة بأخشاب ومواد للحام البارد، المهم أننا أوقفنا التسرب ولم تلتهمه النيران.
بعد كل تلك الجهود وتمكننا من إخماد الحريق بفضل هؤلاء الآبطال على مدار أسبوع كامل، عادت النيران لتلتهم ثمانية خزانات جراء إصابتها من جديد بالقذائف، وانعدمت قدرة أي أحد على الدخول للخزانات ومحاولة إطفائها نتيجة ضراوة القتال الدائر في كامل المنطقة المحيطة بالمستودعات.