تعذر على السيدة السبعينية “عانس بنت النوي جلالي” أن تواكب انطلاق جلسة محاكمتها في المحكمة الابتدائية بمحافظة سيدي بوزيد (260 كيلومتر جنوب تونس) يوم 28 أيار/مايو الماضي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الطفل رمزي مباركي ذي الـ 14 سنة.
لا ينتهى التشابه بينهما عند هذا الحد. فكلاهما، كما حوالي 100 شخص آخرين، يمثلان أمام القضاء التونسي بتهمة حرق مركز أمن أيام ثورة 2011 والإضرار بالأملاك الخاصة وتعطيل حركة السير.
لا تقدر على إشعال موقدها
تعذر على السيدة السبعينية “عانس بنت النوي جلالي” أن تواكب انطلاق جلسة محاكمتها في المحكمة الابتدائية بمحافظة سيدي بوزيد (260 كيلومتر جنوب تونس) يوم 28 أيار/مايو الماضي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الطفل رمزي مباركي ذي الـ 14 سنة.
لا ينتهى التشابه بينهما عند هذا الحد. فكلاهما، كما حوالي 100 شخص آخرين، يمثلان أمام القضاء التونسي بتهمة حرق مركز أمن أيام ثورة 2011 والإضرار بالأملاك الخاصة وتعطيل حركة السير.
لا تقدر على إشعال موقدها
ربما بات من الجائز القول إن المشهد العام في تونس لم يعد يرغب في “أهل الثورة” الرافضين للتأقلم ومسايرة الأوضاع في بلد شهدت قبل 3 سنوات بداية ما يعرف بـ “الربيع العربي” ويمر من يومها في مرحلة انتقاله الديمقراطي.
آخر مراحل الانتقال تلك كانت تعدّد حالات الإيقاف في صفوف نشطاء من الشباب والتهمة واحدة “حرق مركز أمني” وتكوين جماعات قصدها الأضرار بالأملاك العامة، وهي التهم التي وجهت لعانس بنت النوى (71 سنة)، التي يقول محاميها مستنكرا “إنها غير قادرة على إشعال نار موقدها فيكف تحرق مركز شرطة؟”.
عانس المتهمة بحرق مركز أمن معتمدية الهيشرية، في ولاية سيدي بوزيد (وسط)، ليست السيدة الوحيدة التي تواجه تهمة حرق مركز أمن، فالتهمة ذاتها تواجهها أيضاً سيدة من مدينة ام العرائس (جنوب)، وكلاهما تواجهان أحكاما قضائية تصل إلى السجن لفترة تتراوح بين 10 سنوات و20 سنة.
ولسوء حظهما، لن تكون السيدتان ممن يشملهم القانون الجديد الذي صادق عليه المجلس التأسيسي ويمنع ملاحقة المشاركين في الثورة على أية أعمال تتعلق بها لأنه حدّد عدم الملاحقة بفترة زمنية بـين 17 كانون أول/ ديسمبر 2010 و28 شباط/ فبراير 2012 .
وقد تم تنقيح الفصل عدد 8 من قانون العدالة الانتقالية، في أواخر شهر أيار/ مايو الماضي بإضافة مقترح يمنع محاكمة شباب الثورة باعتبارهم ساهموا في إسقاط النظام السابق. وتتمثل صيغة القانون في “لا تجرم ولا تخضع للمحاكمة الجزائية كل الأفعال التي تم القيام بها من أجل تحقيق الثورة وإنجاحها في الفترة الممتدة بين 17 ديسمبر 2010 إلى 28 فيفري 2011″.
غير أن هذه التعديلات لن تقلّص من عدد الملاحقين، حيث أن قائمة التهم التي وجهت منذ ثلاث سنوات ضد نشطاء في الثورة التونسية إضافة لبقية التحركات الاحتجاجية في السنوات الثلاث الماضية، تتضمن تهمة “عقد وفاق لزعزعة الاستقرار العام”، وهي تهمة يعاقب القانون التونسي من تثبت عليه حكما بالسجن لفترة تتراوح بين 10 سنوات والسجن مدى الحياة والإعدام، وفق المجلة الجنائية التونسية.
معاقبة أهل الثورة
هذه التهم تعتبرها الناشطة مريم البريبري معاقبة لمن “شارك في الثورة وفي الحراك الاحتجاجي الذي شهدته تونس طوال ثلاث سنوات”.
وتؤكد لـ “مراسلون” على أن أكثر من 100 شاب وشابة توجه إليهم تهماً من بينها تلك المذكورة سابقا، مما يجعل من الحديث عن مجّرد صدفة أو خطأ “مغالطة”، خاصة أن قائمة الأسماء التي يقع تتبعها قضائيا تضم جرحى ثورة وأفراد من عائلات “شهداء الثورة التونسية” وبقيتها من النشطاء الشباب.
قائمة المتهمين، بحرق مركز أمن وتكوين وفاق مدني والتحريض على حرق مركز والاعتداء على “مؤسسات عمومية” وغيرها من التهم ذات العلاقة بـ “الثورة” أو بالحراك الاحتجاجي اللاحق، تضم أيضاً طفلا بلغ عامه الرابع عشر منذ شهرين، وقد يصدر حكم بحقه بالسجن لسنوات بالنظر للتهمة الموجهة إليه وهي تكوين وفاق للإضرار بالأمن.
هذه التهمة التي توجه للعشرات من مختلف المناطق في الفترة الأخيرة، تأتي متزامنة مع مغادرة رموز نظام حكم بن علي السجن، بعد تبرئة المحكمة العسكرية رفيق الحاج قاسم وزير الداخلية الأسبق في نظام زين العابدين بن علي، وعدد من الكوادر الأمنية في قضايا “شهداء وجرحى الثورة”. كما غادر علي السرياطي رئيس جهاز الأمن الرئاسي السجن منذ أسابيع بعد أن أمضى فيه ثلاث سنوات.
هذا التزامن تعتبره مريم البريبري، منسقة حملة “أنا حرقت مركز”، “يعبر عن سريالية المشهد في تونس، التي من أركانها مغادرة رموز النظام السابق للسجون لترك مكان شاغر لمن ثاروا ضدّ نظام كانوا أبرز رجالاته”.
بالإضافة إلى ذلك فإن عددا من أفراد عائلات الجرحى والشهداء حكم عليهم في قضايا تحريض على حرق مركز، وصدر حكم ضدهم بالسجن ثلاث سنوات. ومنهم بولبابة الخالدي الذي أصدر القضاء حكما بسجنه بثلاث سنوات بتهمة “حرق مركز أمن في شباط/ فبراير 2011” بـ معتمدية بوزيان في ولاية سيدي بوزيد.
جرحى الثورة متهمون أيضا
الحكم ذاته صدر في حق جهاد مبروك، أحد جرحى الثورة، بتهمة الاعتداء بالعنف والتشهير العلني، وهي تهمة وجهت إليه على خلفية مشاركته في وقفة احتجاجية ضد أحد رموز النظام القديم. هؤلاء ينتظرون دخول القانون حيز التنفيذ ليشملهم فيطلق سراحهم. في انتظار أن يرد لهم الاعتبار ويقع جبر الضرر، وهي معركة أخرى.
وتم أيضاً سجن عشرات الشبان بتهم مماثلة، فحوالي 30 شابا يقبعون اليوم في السجون ويواجهون عقوبات قاسية، رفضت وزارة العدل وحقوق الانسان التعليق عليها او شرح أسبابها، أو كيف تتبنى مؤسسات الدولة السياسية والسيادية “الثورة” وفق نص المرسوم عدد 97 لسنة 2011 وتحاكم من شارك فيها.
ولم يكن الأمر أفضل حالا مع المتحدثين باسم المحاكم التونسية، فالناطق باسم محكمة سيدي بوزيد التي يمثل أمامها أكثر من 23 شابا بتهم مختلفة رفض التعليق على الأمر متعللا بأنه في إجازة ولا معطيات لديه.
منذ أكثر من سنة ونصف بات عدد من الشباب يواجه عقوبة بالسجن لمشاركتهم في ما يجمع التونسيون على تسميته “ثورة” ويصنفه القضاء والقانون التونسي بـ “جنحة يعاقب عليها”.
ولعل أفضل الأمثلة على هذا هو استئناف النيابة العمومية بمدينة مدنين (جنوب) الحكم الصادر في حق 10 شبان من جزيرة جربة بعدم سماع الدعوى في التهمة الموجهة اليهم بحرق مركز شرطة أثناء أحداث الثورة، ما بين 18 كانون أول/ ديسمبر 2010 و 18 شباط/ فبراير 2012.
والأمر لا يختلف في مدينة المكناسي بولاية سيدي بوزيد، فقائمة المتهمين بحرق مركز الشرطة هناك يبلغ 23 شخصا، والأمر ذاته في مدينة تالة من ولاية القصرين، وهما مهد الثورة التونسية.
ولا يقتصر الأمر عند هاتين المدينتين، بل يشمل عدة مدن ومناطق أخرى ومنها منطقة سيدي البشير بالعاصمة، التي اتهم فيها فتحي الحلاجي بحرق مركز المكان رغم ان قائمة مراكز الشرطة التي حرقت اثناء الثورة والصادرة في آذار/ مارس 2011 لم تتضمن اسمه، أو كما يقول أهل المتهم بأن المركز لم يحرق من أساسه، لكن هذا لم يحل دون صدور حكم بسجنه 4 سنوات مع النفاذ.
لماذا يحاكم من احتج وثار في بلد لا تخلو كلمات مسؤوليه من وصف ما حدث فيه بالثورة؟
هذا السؤال يردده شباب تتعالى أصواته من ضياع “ثورة لم يجف دم شهدائها”، ومن “أكل ما تبقى من أبناء الثورة”، إذ لا يبدو أن الأمر سيتوقف عند هذا الحد.