لم يكن تأييد الحكم الصادر بحبس الكاتب كرم صابر مستغربا، فلم تخل الشهور القليلة الماضية من تأييد الأحكام المغلظة ضد الشاعر عمر حاذق الذي يقضي عقوبة السجن لعامين، أو الناشط علاء عبد الفتاح ورفاقه الذين حكم عليهم غيابيا بخمسة عشر عاما. غير أن الحكم خرج هذه المرة من الفضاء السياسي العام لينقض على ساحة الابداع والخيال، وقررت المحكمة تأييد حكمها السابق بالسجن خمس سنوات للكاتب كرم صابر وغرامة 50 ألف جنيه بالتهمة الشهيرة ازدراء الأديان.


لم يكن تأييد الحكم الصادر بحبس الكاتب كرم صابر مستغربا، فلم تخل الشهور القليلة الماضية من تأييد الأحكام المغلظة ضد الشاعر عمر حاذق الذي يقضي عقوبة السجن لعامين، أو الناشط علاء عبد الفتاح ورفاقه الذين حكم عليهم غيابيا بخمسة عشر عاما. غير أن الحكم خرج هذه المرة من الفضاء السياسي العام لينقض على ساحة الابداع والخيال، وقررت المحكمة تأييد حكمها السابق بالسجن خمس سنوات للكاتب كرم صابر وغرامة 50 ألف جنيه بالتهمة الشهيرة ازدراء الأديان.

[ibimage==13195==Small_Image==none==self==null]

غلاف المجموعة القصصية “أين الله” لكرم صابر

وكان الحكم صدرغيابيا على “المتهم” في 2012 ثم أيدته محكمة “ببا” ببني سويف في ابريل الماضي واعتبرت أن المجموعة القصصية “أين الله؟” تحتوي على تشبيهات وألفاظ تعيب في الذات الالهية.

لا تحاول عزيزي القاريء أن تبحث عن منطق وراء الأشياء، أو أن ترفع صوتك مستنكرا “ألم ننته بعد من عصر الحسبة التي كان ضحيتها العديد من قادة الرأي في المجتمع؟!”، ولا أن تتخيل أن الحال قد تغير بعد ثورة شعبية ناجزة نادت بالحرية والكرامة. فالقبض العشوائي والحبس الاحتياطي وأحكام السجن قد بلغت أعلى معدلات لها خلال السنوات الثلاث الماضية، وبدلا من قانون الطواريء هناك اليوم قانون الإرهاب، وبدلا من الحسبة هناك اتهام آخر ذو مفعول أكيد هو ازدراء الأديان.

فلم يكن الغرض من هذا القانون حين تم سنه في بلادنا أن يشق قلوب المواطنين لمعرفة مقدار إيمانهم من عدمه، بل كان الغرض منه تجريم كل من يقوم بإشعال الفتنة بين نسيج الوطن الواحد عن طريق ازدراء أديان الآخرين والتحريض عليهم، لكنه سرعان ما صار أداة سياسية لقمع الفكر تستخدمه السلطة الرسمية لتؤدب به المعارضين. سادت حالة الاستقطاب الديني العلماني، بعد الثورة وخاصة بعد وصول الإسلام الأصولي إلى سدة الحكم، وفي هذا السياق رجحت كفة ممالئة السلطة الحاكمة وقتئذ، فتقدم أحدهم ببلاغ يتهم فيه «صابر» بازدراء الأديان في مجموعته القصصية، وطالب بسرعة سحبها من الأسواق ومصادراتها لما فيها من تعدي تعدى على الذات الالهية وتهكم على الشريعة الإسلامية. ولكن وحتى بعد انقضاء حكم الدولة الدينية في 30 يونيو 2013 استمرت الفزاعة الدينية قائمة متحفزة للظهور في أي لحظة تكفر من تحب، وتشيطن من تحب، وتحشد الناس ضد المبدع تحت مسمى ازدراء الأديان. وإلا كيف يتم تفسير ظاهرة برنامج ريهام سعيد، الذي تخرق فيه المذيعة الشهيرة كل الأسس والأخلاقيات بشكل عام والمهنية الإعلامية على وجه الخصوص، وتستضيف أخيرا شابة ملحدة لتحاكمها أمام المشاهدين وتسلط عليها سيف الفضح والتجريس والإدانة، تحت مسمى الغيرة على الدين والأخلاق. 

فدغدغة المشاعر الدينية صارت سلاح هذا الزمان، إذ يكفي لتستعدي المجتمع ضد الكاتب أن يُطلق عليه أحدهم أنه يعيب في الذات الالهية، وأن يدعي عليه أنه يوزع بنفسه على الأهالي في الريف كتابه القصصي، أداة ”الرذيلة” نفسها، مثلما حدث مع كرم صابر لتصبح عناصر ”الجريمة” كاملة، ويصبح منبوذا وسط أهله وناسه بل وموكليه الذين طالما دافع عنهم، حيث عمل صابر على مدى عشرين عاما محاميا ومديرا لمركز الأرض الحقوقي وانتصر دائما للفلاحين في العديد من القضايا ضد سطوة ذوي النفوذ، أو في مواجهة الدولة المتمثلة في الأوقاف. ولم يكن من المستغرب إذن أن يكون أحد رافعي الدعوى موظف بالأوقاف وآخر يعمل بجهاز الشرطة. 
وبدلا من اللجوء إلى رأي أهل الاختصاص في الأدب والنقد الأدبي كما قد يحدث في القضايا النوعية في الطب أو الهندسة أو غيرهما، طلبت النيابة رأي كل من الأزهر والكنيسة للبت في أمر المجموعة القصصية محل الخلاف ”العقائدي”، فاعتبر الأزهر أن ”محتوى الرواية هادم للقيم الفكرية للمجتمع المصري ويمزق النسيج المصري”، بينما رأت الكنيسة أن ”الكاتب يتهكم على المقدسات ويبتكر قصصا بعيدة عن الأدب السامي والراقي”.

التدين الشعبي
فوقع الخيال تحت طائلة القانون، وصارت جماليات اللغة من تشبيهات واستعارات يتم تقييمها في مستواها الأول المباشر، على الرغم من أن الابداع الأدبي عٌرف على مر العصور بصفته حمّال أوجه، يخضع لمستويات عدة من التأويل حتى الوصول إلى محتوى اللغة. فإذا أخذنا أمثلة من مجموعة ”أين الله؟”، سنجد أن أمام كل عبارة تأتي على لسان إحدى الشخصيات المتخيلة ويتم اقتطاعها من مجمل سياقها داخل العالم القصصي، وتتم ترجمتها المباشرة باعتبارها سب في الذات الالهية أو استهانة بفريضة الصيام –كما ورد في تقرير مجمع البحوث الاسلامية- هناك عبارات أخرى في القصة نفسها تؤكد على روح الإيمان العميقة التي تتجلى في الحديث العفوي والسلوك البعيد عن التركيب. فشخصية الأم التي تقطع الصلاة لتفتح الباب لزوجها أو لتنهر ابنها، تفسرها عبارة دالة تأتي على لسانها ”ياخويا ربك رب قلوب”، وهي تعبير صوفي موجود في التدين الشعبي، أو كما ورد في تقرير لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة، الجهة الرسمية التابعة لوزارة الثقافة والتي لم يؤخذ بكلامها للأسف في القضية، حيث أكدت اللجنة أن ما ورد بالمجموعة ”ليس إلا عرضا للممارسات الدينية لأبطال القصص وهو الشكل المصري للتدين الذي يؤمن بالبساطة لا بالتطرف وأن الدين يسر لا عسر، ويسمح للمؤمن أن يتحاور مع الله ويعاتبه خاصة إذا لاحظ ظلم الناس وقهر السلطة أو قلة الرزق وهذه الأمور سائدة في كل القرى والمدن المصرية”. وحتى في الاستهلال الأول للنص بعنوان ”دعاء”، والذي لا يمكن التعامل معه بالتفسير الحرفي للمعنى لأنه ببساطة ابداع وخيال وليس مقال سياسي أو فكري مباشر، يبدأ النص بعبارة أيها الرب المقامر، غير أنه يضع كلمة الرب بين علامتي تنصيص، فهي ليست المقصود بها الله، لكنها للدلالة على الجبروت وعلى عبث الأقدار بمصائر الفقراء، وهي كناية عن رزوح السلطة وقهرها للفلاحين، وفي نفس النص نقرأ تضرعا إلى الرب ”الجميل المملوء رحمة نحن ننتظرك بالقرب من محطات القطار وعلى نواصي الحواري كي تهلك بيديك كل الظالمين” تماما كما يمكن أن تكون مناجاة الفلاح المعدم في انتظار فرج يأتي ضنينا.

إعادة النبش في المسلمات
وهذا مثال من أمثلة عديدة من العبارات التي تضمنها تقرير مجمع البحوث الاسلامية كأداة اتهام، دون الأخذ في الاعتبار جماليات الكتابة الابداعية وأن ما يأتي على لسان الشخصية ليس بالضرورة تعبير عن رؤية الكاتب ”وليس معنى أن يكون البطل لصا أو قاتلا أن يكون الأديب قاتلا، فالراوي ليس مسئولا عن أبطاله وتصرفاتهم” مثلما اضطر الكاتب كرم صابر أن يعيد هذا الحديث على أذهاننا مجددا في القرن الواحد والعشرين، حيث بدأت منذ شهور أيضا مجموعة نشطة من المثقفين هم طه عبد المنعم وبهيجة حسين وروبير فارس في تنظيم الوقفات الاحتجاجية للمطالبة بوقف نظر الدعوى طالما أن هناك مادة في الدستور(68) تمنع حبس المبدعين بسبب تعبيرهم عن آرائهم، ونظموا الندوات مع كبار الكتاب المساندين لصابر ولحرية الابداع مثل عمار علي حسن وابراهيم عبد المجيد الذي أسف للوضع الذي يجعله اليوم يعيد تناول المسلمات، ويتحسر على أن أحدا لا يفرق اليوم بين ما تنطقه الشخصيات التي تعيش أزمة داخل العمل الأدبي وبين الكاتب ويتم المزج بينهما. ويرجع ابراهيم هذا المزج الخاطيء ومن ثم الهجوم على المبدعين خلال الأربعين سنة الماضية ”إلى ارتفاع شأن من سموا أنفسهم بالإسلاميين وصار الهجوم على الأدباء مهنة ووسيلة في مجلس الشعب لجذب الأضواء إلى صاحبها”.

وماذا عن جلسة النقض، هل ستنفذ أغلظ عقوبة نزلت بكاتب منذ عشرين عاما؟ أم سيلقى مصير عبدالله الشامي مذيع الجزيرة الذي أصدر النائب العام قرارا باخلاء سبيله، ونحن على أعتاب قرار عفو رئاسي عن الرئيس المخلوع  -كما يشاع- لظروف العمر والمرض؟ في انتظار القضاء أن يقول كلمته، وفي انتظار الكُتاب أن يكونوا جماعات ضغط مهمة لأن الخطر سيداهمهم بدورهم أيضا ولن ينجو من الطوفان سوى منعدمي الخيال.

تسلسل تاريخي:

-5 حزيران/يونيو 2014 : تأييد الاستئناف في الحكم الصادر على كرم صابر بالسجن خمس سنوات.
-3 حزيران/يونيو 2014 : الحكم في دعوى بطلان محاكمة كرم صابر لتناقض قانون العقوبات 98 مع المادتين 67 و 71 من الدستور المصري الجديد، التي تكفل حرية الكتابة.
-13 آذار/مارس 2014 : أيدت محكمة “ببا” الجزئية ببني سويف الحكم بحبس كرم صابر.
– 12 حزيران/يونيو 2013 : حكمت محكمة جنح  ببني سويف غيابيا على كرم صابر بالحبس خمس سنوات وغرامة 50 ألف جنيه.