12 نيسان/أبريل الماضي كان يوما استثنائيا بالنسبة إلى عائلات شهداء وجرحى الثورة التونسية، الذين اعتبروا أن “القضاء العسكري أطلق أخر رصاصة في جسد الثورة عندما حكم ببراءة المسؤولين عن مقتل الشهداء”، بحسب وصف علي المكي، الذي خسر أخاه في الأيام الأولى من اندلاع الثورة التونسية قبل أكثر من ثلاث سنوات.
المكّي شاب في أواخر الثلاثينات من عمره، كرّس حياته لتربية إخوته الثلاثة بعد وفاة والديه. لكن ما حدث يوم 11 كانون الثاني/يناير 2011 قلب حياته رأساً على عقب.
12 نيسان/أبريل الماضي كان يوما استثنائيا بالنسبة إلى عائلات شهداء وجرحى الثورة التونسية، الذين اعتبروا أن “القضاء العسكري أطلق أخر رصاصة في جسد الثورة عندما حكم ببراءة المسؤولين عن مقتل الشهداء”، بحسب وصف علي المكي، الذي خسر أخاه في الأيام الأولى من اندلاع الثورة التونسية قبل أكثر من ثلاث سنوات.
المكّي شاب في أواخر الثلاثينات من عمره، كرّس حياته لتربية إخوته الثلاثة بعد وفاة والديه. لكن ما حدث يوم 11 كانون الثاني/يناير 2011 قلب حياته رأساً على عقب.
يومها خرج شقيقه عبد القادر -أو “كادة” كما يحلو للجيران مناداته- في مسيرة “الكرامة” التي جابت أرجاء مدينة دقاش (جنوب تونس) تطالب بسقوط بن علي ونظامه الدكتاتوري. مسيرة شارك فيها آلاف انتهى بهم المطاف قبالة مركز شرطة المدينة.
“كادة” كان يقف في الصفوف الأمامية للمسيرة، وكانت الهتافات المناهضة لنظام بن علي على أشدّها. فجأة انطلق وابل من الرصاص في اتجاه الحشد المحتج، فهرب الجميع في كل الاتجاهات. بعد برهة انقشع دخان الغاز المسيّل للدموع ولم تبق إلا رائحة البارود تملأ المكان، وكانت الأرض مخضّبة بالدماء وعليها تناثرت الأشلاء.
ثلاثة من الشباب قتلوا في عين المكان واثنان نجوا بأعجوبة، وكان من بين القتلى عبد القادر المكي.
بصعوبة يتكلّم عليّ وهو يغالب دمعة تبرق في عينه. يقول إنه وقف أمام قبر شقيقه يوم مقتله وأقسم بشرفه وباللّه قائلاً: “لن أنساك يوما يا أخي ولن يهدأ لي بالٌ حتى يحاسب قاتلوك، كلّفني ذلك ما كلّفني”.
مضت أكثر من ثلاث سنوات دون أن يفي علي بوعده، خذلته فيها عدالة الأرض وخذله القضاء العسكري على حد وصفه.
“القضاء العسكري تنكر للثورة بارتكابه لتلك المهزلة التاريخية المتمثلة بعدم سماع الدعوى (في 12 نيسان/ أبريل الماضي)” يقول علي، واصفا ما حدث بأنه “وصمة عار ستلاحق القضاء، ونقطة سوداء تلطّخ تاريخ البلاد”.
يقصد علي بذلك التاريخ عندما أصدرت محكمة الاستئناف العسكرية أحكاما صدمت الرأي العام تراوحت بين عدم سماع الدعوى وثلاثة سنوات سجن كأقصى عقوبة في حق المتهمين بقتل شهداء الثورة والذين بلغ عددهم 358.
مساء ذلك اليوم سيبقى محفورا في ذاكرة علي المكّي، مختزلا رحلة العذاب التي بدأت مع مقتل شقيقه عبد القادر، مرورا بجلسات محاكمة المتهمين، وانتهاءً بما حدث يوم 8 أيار/مايو الجاري مع إطلاق سراح رفيق الحاج قاسم، آخر وزير للداخلية في عهد بن علي.
بنبرة يختلط فيها الغضب بالحزن استمر علي في رواية تفاصيل الفصل الأخير من مسرحية القضاء العسكري كما يسميها. يقول “أنا لا أذكر الاّ تلك الصرخات المدوية التي علت بعد النطق بالحكم. عويل ونحيب وبكاء على حق الشهداء المهدور. كانت لحظات فوق احتمال البشر حيث انهارت عائلات الشهداء في حين كان الجناة من القيادات الأمنية الذين تلطّخت أيديهم بدماء الشهداء، ينظرون بتشفّي لعائلات الشهداء من وراء القضبان، ويهللون لعدالة المحكمة”.
ويتابع “هذه العدالة التي جعلتنا نعيش في وطن مجرموه أصبحوا أحرارا”.
إقفال ملف الشهداء والجرحى كان مأساوياً بشهادة كثير من ذوي الضحايا. هذه القضية التي خضعت في مرحلة أولى الى “الابتزاز السياسي والى المساومة وأهدرت جرّاؤها كرامة عائلات الشهداء عندما عنّفهم أعوان الامن أمام مقرّ وزارة حقوق الانسان والعدالة الانتقالية (3 نيسان/ أبريل) وبحضور الوزير سمير ديلو” يقول علي.
ويضيف: “حتى لجنة الشهداء والجرحى بالمجلس التأسيسي لم تحترم تضحيات الشهداء وأهملت الملف بل جعلته خاضعا للمزايدات السياسية والحزبية رغم أن الذين استشهدوا ماتوا من أجل كل التونسيين وليس من أجل فصيل سياسي”.
قبل انتخابات المجلس التأسيسي في تشرين أول/ أكتوبر 2011 رفعت كل الأحزاب شعار محاسبة قتلة الشهداء ولكن “بانتهاء الانتخابات انتهت صلاحية الشعار” يعلق الشاب على أداء النواب حلال السنوات الثلاث الماضية.
علي المكي ومن معه من عائلات الشهداء خاضوا حربهم الأخيرة في محاولة يائسة لإنصاف الشهداء. “حرب الأمعاء الخاوية” بدخولهم إضراب جوع تواصل على مدى أسبوعين، أسفر عنه تردّي صحة بعضهم بشكل خطير، لكن دون أدنى تجاوب سياسي، رغم المساندة التي تلقوها من عميد الأسرى الفلسطينيين سامر العيساوي وشخصيات أخرى عربية ومحلية.
هذا الاضراب انتهى بدوره بشكل درامي يوم 9 أيار/ مايو الجاري، حين أصدر المضربون بيانا أعلنوا فيه تعليق كافة نشاطاتهم، وحل جمعية “لن أنساكم” التي عملت لأكثر من ثلاثة سنوات على متابعة قضايا الشهداء.
واعتذرت الجمعية من خلال بيانها الذي جاء بعنوان “الحقيقة” عن عدم مواصلة نشاطاتها وأقرت بعجزها “عن محاسبة المتورطين في سفك دمائهم (الشهداء) الزكية” وفق نص البيان.
ورأى البعض في بيان الجمعية “إعلان هزيمة” سابق لأوانه لأن قانون العدالة الانتقالية بات ساري المفعول وسيفتح ملف شهداء الثورة من جديد. لكن عليّ الذي كان يرأس الجمعية يقول “نحن لم ننهزم بل فقدنا الأمل في عدالة القضاء، وخاب أملنا في الثورة التي بذلنا من أجلها الغالي والنفيس. نحن لدينا الثقة في عدالة السماء فقط”.
علي المكيّ الذي رفض الحصول على تعويضات مالية عن مقتل شقيقه، وفقد عمله لأنه كرّس آخر ثلاثة سنوات من حياته من أجل اللحظة التي يرى فيه قاتل شقيقه قابعا خلف القضبان، لا يدري اليوم ماذا يصنع بحياته، فهو يعرف قاتل عبد القادر والقاتل لم ينكر فعلته وان وجد لها مبرّراته، لكن القضاء العسكري “لا يرى ولا يسمع” كما يقول.